ربما تكون زيارتي الأخيرة الى الجزائر شهر 7/2004 هي بمثابة اعادة احياء اللهفة والوله بثقافة الحرية التي انتزعها الجزائريون بقوة من بين أسنان استعمار دموي، لنزاع وجودي وانساني، مدني، مع أصوليات في قاموسها الدوني ومتحفها التخلفي. فالشارع الجزائري اليوم من بحر وهران، حتى عنابة الجنّة، مروراً بسيدي بلعباس، فقسنطينة الدروب والشجر الحر، حتى جزائر الحنو، عاصمة المقاهي المنزلقة بزبائنها الى مويجات وسفن رحيمة، حيث الناس يفترشون الأرصفة والحدائق والعناق وكورنيش يخترق عدداً هائلاً من قبلات العشاق وصيادي النسيم الذين يحتفلون بعودة الطمأنينة، ملوحين بمناديلهم وقمصانهم للأمان في معانقة واشتباك مع الرطوبة، الهواء الليّن الذي يكنس حزن المارة وكراسي المقاهي المنتظرة، وعتبات البيوت والأزقة المرفوعة على أعمدة الحريّة. كأن الجزائر برمتها تدشن تمارين على معاودة الدورة الدموية في جسد شعب ساخط، عنيد، لم ينجح الأصوليون في تعطيل ثورته العارمة وفي استعادته نبضه المدني. انه ابن الجزائر، حليف الجمال، التواق بشغف الى روح الآخر القادم من العراق أو من بيروت أو من أي حارة عربيّة، في الفة نادرة الحنو وفي عراقة يندر أن تجدها قريناً في حرارة العناق. استدرجني صديقي الرائع أمين الزاوي لإلقاء محاضرة في المقهى الأدبي الذي يقيمه بين الأروقة المعرفية للمكتبة الوطنية الجزائرية التي يشرف عليها. اتفقنا على العنوان "خشبة الحياة، الكتابة، الحرية" كما اتفقنا قبل ثلاث سنوات على أن نتقاسم معاً العمل على نصوص غارسيا لوركا في مدينة "كان" عبر محترف مسرحي مع ممثلين فرنسيين. والمكتبة الوطنية في الجزائر تتحول على يد الزاوي أمين الى حديقة ثقافية مزهرة لإعادة تفعيل حيوية، يرتقي فيها، الثقافي والجمالي، في تشابك جزائري، عربي، أوروبي، يطلق فيه مناخات جدل حرّة ورحبة تسهم في اعادة الطابع المدني واسترجاعه لجزائر كانت وما زالت حبلى بالجمال والمعرفة. يجري هذا النهوض الثقافي برعاية أو مباركة وزيرة الثقافة الجزائرية خليدة نومي التي حسمت خياراتها ونضالاتها الوطنية المشهود لها في الشارع الجزائري، بالوقوف مع جزائر الثقافة، والمثقفين من دون زركشة ولا "بوزات" ومن دون عناية بجرثومة كرسي السلطة التي تبطل ثقافة التنوير في الكثير من البلدان. برهافة وعمق معرفي وممارسة حرة وعفوية يندر أن تجد لها مثيلاً في أجندة الوزارات العربية والأوروبية، قال عنها مخرج سينمائي جزائري وبطفولة غير معهودة "إن الله رزقنا أخيراً هذه الوزيرة الإنسانة ليغسل لنا كل مراراتنا التي قاسيناها لفترات طويلة". كل من رأيت في الجزائر من فنانين وكتّاب وصحافيين يرددون روح الانتماء نفسه، لا لشيء إلا لأنها تعيد تفعيل الثقافة بحرية عالية الرحابة، يجرى ذلك ليس فقط على صعيد الشراكة مع أمين الزاوي في تثوير طاقات ومواهب شبابيّة جزائرية، ولكن أيضاً مع محمد بن قطاف والمسرح الوطني الجزائري في تحالف مثمر لاستعادة مبدعين مسرحيين هاجروا مثل سونيا، التي تدير المعهد المسرحي الجزائري من منظار حرفي أصيل. السينما والمسرح والفنون التشكيلية الجزائرية، كلها يعاد تفجير بؤرها لاعادة احياء الإنسان المعذب في فردوس جزائري تعرض دائماً لجراحات قيصرية واجهاضات تدميرية. انه عيد العودة الى أمان مفتقد لسنوات طويلة من النزيف... وكأن الكابوس الأصولي الذي أدمى روح الثقافة الجزائرية واغتال أبناءها من فنانين وصحافيين وعلماء ومبتكرين، هو نفسه يحول العراق اليوم الى ميدان لتصفية النزاعات الكارثية بين الطوائف والقبائل والأشخاص الذين انخرطوا في تنظيمات تشهد على انبثاق كوكتيل أصولي، يحول بلاد الرافدين منصة لتصفية الحسابات مع أميركا. بزيارتي للجزائر يكون قد مرّ أكثر من خمس عشرة سنة على عرض مسرحيتي "خيوط من فضة" على مسرح ابن خلدون حيث اشتعل في رأسي مرة أخرى ذلك الجمهور العريق الذي صفق ذات يوم لندى حمصي وعبدالرحمن أبو القاسم ولينا البانخ ومفيد أبو حمدة وهاني السعدي، ولفلسطين، معشوقة أهل الجزائر آنذاك. وبينما كان أمين الزاوي يدخل معي الى صالة المسرح الوطني الجزائري، حيث محمد بن قطاف مدير المسرح ينتظرنا، كان كل كوكبة المسرحيين الجزائريين يرتقون المنصة، بين جمهور محتشد، ينشد التنوير وحياة مدنية مرتقبة طالما حلم بها ونزف من أجلها. ولعل عودة عدد كبير من الفنانين والمثقفين والأساتذة الجامعيين الى الجزائر بعد سنوات طويلة من الغياب، هي اشارة حيوية الى رغبة هؤلاء في استعادة التلاحم مع الجزائريين الذين بقوا داخل الوطن ولم يغادروه على رغم التعسف والاغتيالات والموتى. ان الجزائريين أثبتوا جدارة كبيرة في تجاوز حساسيات مميتة بين مثقفي الداخل والخارج وعبور آفة الوقوع في فخ المناصب واصطياد الفرص وتصفية الحسابات والدخول مرة أخرى الى النفق المظلم. ولعل هذه العقلانية المبنية على احساس وطني فريد في اعادة بناء الجزائر لاستعادة الحياة المدنية بسرعة غير عادية، ولعل المؤسسات الإعلامية وخصوصاً الصحافة وصحافييو الجزائر القادمون من ثقافات مسرحية وسينمائية وجامعية أثبتت جدارة بالغة القيمة على صعيد اشاعة الألفة والجدل الحر ونبذ العنف والاحتكام الى الحوار البارد، تكفل كلها حياة لينة ورحبة تنهض بالبلاد الى منصة الحكمة وابداع مفردات جديدة لبناء الإنسان الجزائري الشغوف بالحرية. في هذا المناخ المشتعل بلهفة الصداقات تصير الأماسي التي قضيتها في الجزائر دواء مؤثراً لغسل جروحي ولهفتي لعراق يحترق بنار لا مثيل لعدوانيتها. دائماً كنت أقول لأمين زاوي وربيعة جلطي الشاعرة العذبة وسواهما، إنكم تزيحون عن كتفي غباراً سميكاً من الألم. وربما تكون احدى لحظات المؤانسة غير المتوقعة هي التقاء حميد عياش الممثل المسرحي العتيد الذي انزلقت روحه الى الصحافة، يختارها لتكون الجسر الأكثر ضراوة الى التفاعل ومجادلة عموم الجزائريين. بطفولة وعذوبة غير معهودتين. دعاني حميد عياش للقاء مع الصحافيين جميعهم في الجريدة بحضور كاتب رواية "حارة النساء" أمين الزاوي، في جلسة حوار يندر أن تجد قريناً لها على صعيد التشابك مع الآخر، وطرح الأسئلة الحيوية من جهة ثانية. عائلة "الجزائر نيوز"، بإدارة حميد عياش تكشف صورة جيل جديد من الشبان الصحافيين الذين يقدمون شبابهم ومعارفهم الى بلدهم الجزائر. تذكرت خلال هذه الزيارة شغف سعدي يوسف شاعر العراق الفذ، وغنائياته العذبة عن سيدي بلعباس وعن وهران، الناس والبحر وثقافته ضربت في عمق العرب وأفريقيا وأوروبا بروائيين كبار ومسرحيين مجددين وسينما ضاربة في العمل الاشكالي الحياتي. وقتها كان مارسيل خليفة حاضراً وزياني شريف ونور الدين فارس وفائز الزبيدي وعدد كبير من المثقفين العرب الذين لجأوا الى جزائر الرحم الروحي إبان الانهيارات السياسية وتصاعد العنف وكارثية السلطات الاستبدادية. البحر وحده يلملم أوجاع صيادي المؤانسة، الأرصفة الممتدة، على طول جسد الجزائر تزهر مرة أخرى بصبيان كرة القدم في شوارع مفتوحة، مقاهٍ حميمة، وشوارع تحمل بيوتاً صبغها أهلها ببياض أرواحهم، وشبابيك أليفة مطلة على المارة، وحركة شارع تعود الى صخبها الهادر.