الأحد 5/10/2008 : سياحة الآلام الحراك السياسي والاجتماعي في لبنان يتغذى بالتحويلات المالية من الخارج، ويختلف الناس باختلاف أصول التحويلات ويتصارعون وفق مفردات وتوقيتات صراعاتها، هذه الخريطة صارت مألوفة على غرابتها ويصدقها الناس لأنها خريطتهم/ حقيقتهم الجديدة. ولكثرة التدخلات الخارجية واستغراقها عقوداً من الزمن صارت بلادنا بعيدة مما كنا نألف. هذي بلاد بلا أهل ونحن سياح نجول في ربوعها الجميلة، جبال تعانق النجوم، وسهل يخصّب الشجر والبشر، وساحل للماء والضوء والملح، ساحل الأحلام المتحققة إذ نهاجر ونعود لنهاجر ولنعود، نلامس هذا الذي كان وطناً فصار مكاناً لسياحتنا، نكتم عواطف الانتماء الى بيوت/ فنادق يشاركنا فيها غرباء سعداء. هناك من يشتهي وطنه في وطنه فيغص بالدمع ويصمت. وطن نعانقه للوداع ونحبه لنفقده ويفقدنا، هل يفقدنا حقاً؟ وطننا، الأرض التي كانت أرضنا تغفر لأبنائها حين تطويهم أو تلفظهم لكنها لا تنسى، هكذا الأرض شاهدة عصية على النسيان. الحرية، الحرية، شعار لبناني قديم لم يتحقق. وعلى صخور قرب مساقط الماء، ننقش أسماءنا، مثل جيوش عبرت. لا ينقش المقيمون أسماءهم على صخر، ينقشونها على رمل يمحوه الماء، على جذع يتضخم فيبتلع الأسماء، يدخلها نسغه المحيي. بلادنا الكثيرة النقوش، بلا أهل. يفرح متلقي التحويلات المالية A وقريبه السائح، ويخاف متلقي التحويلات المالية B وأقرباؤه السياح، يترقبون معاً محطة جديدة من الصراع في البيوت/ الفنادق. الاثنين 6/10/2008 : التداخل لم أطلع على رواية يوسف زيدان الأولى"ظل الأفعى"التي نشرتها دار الهلال في القاهرة عام 2006، لكن"عزازيل"الرواية الثانية للباحث المصري في شؤون التراث، رافقتها الضجة منذ صدورها قبل شهرين عن دار الشروق في القاهرة، وحجبت الضجة مجالات التعريف بالرواية فظلمتها وظلمت مؤلفها حين اتهمته بإبراز الصراعات داخل الكنيسة. الرواية التي تدور أحداثها في حوالى القرن الثالث الميلادي، تحاول تصوير آلام الفرد المثقف الحساس في المراحل الانتقالية بين معتقد شمولي وآخر، فبطل الرواية فتى مصري شاهد والده الوثني يُقتل بأيدي مسيحيين فيما ينظر آخر كهنة الفراعنة الى المقتلة من أعلى أسوارهم ولا يستطيعون منعها، كما أن والدة البطل تتزوج من أحد قتلة أبيه، فيربيه عمه في أخميم صعيد مصر ويدفعه الى حياة الرهبنة التي تميزت الكنيسة المصرية في التشدد بها، وتدفعه الرهبنة الى الاسكندرية حيث يشاهد مقتل هيباتيا الفيلسوفة، بعدما يهوي الى علاقة جسدية مع امرأة وثنية، هي أيضاً مثقفة. وينتقل في ما يشبه الهرب الى أورشليم حيث يستقر راهباً وطبيباً، وهناك يتعرف الى الراهب نسطور الذي يصبح صديقه ويقنعه بالرحيل الى دير يقع ما بين حلب وأنطاكية. من الدير المنعزل يشهد بطل الرواية صراعات الكنيسة، خصوصاً بين العقليتين الاسكندرانية والانطاكية، كما يشهد الصراع داخل نفسه بين متطلبات الرهبنة ومتطلبات الجسد، بين الصلوات ونداءات"عزازيل"الطالعة من الذات، وهي كناية عن وسوسات شيطانية. "عزازيل"رواية عن العقيدة بين القسوة والتسامح، بين حضورها النخبوي وتشييئها لدى العوام. وإذا كان يوسف زيدان رسم روايته بخطوط مسيحية شرقية قديمة، فذلك لينسحب معناها على العقائد كلها حين تقترب من الإنسان ثم حين تنفصل عنه لتصبح مؤسسة تفرض نفسها بذريعة الإيمان. بعدما روى الراهب هيبا بطل الرواية لنسطور حكاية مقتل والده: "أخذني النشيج فقام نسطور ليأخذني في عباءته، وقد انكمشت مثلما فعلت أول مرة. جلس في جواري وهو يربت على رأسي ويردد: اهدأ يا ولدي، ثم قال: يا ولدي حياتنا مملوءة بالآلام والآثام. أولئك الجهّال أرادوا الخلاص من موروث القهر بالقهر، ومن ميراث الاضطهاد بالاضطهاد، وكنتَ أنتَ الضحية. أعرفُ أن ألمك عظيم، أنا أشعر به، فليشملنا الرب الرحيم بعطفه، قم يا ولدي لنصلّي معاً صلاة". ويعزو يوسف زيدان نتائج مجمع نيقية الذي حرم آريوس الى مصالح الإمبراطور قسطنطين. يقول بلسان نسطور:"قبلها بعام واحد كان الإمبراطور يقضي حياته مشغولاً بأمر وحيد هو تثبيت سلطانه بالحرب ضد قدامى رفاقه العسكريين. ولما انتهى من حروبه الى الظفر بهم، أراد الظفر بالولاية الدينية على رعاياه، فدعا كُلَّ رؤوس الكنائس للمجمع المسكوني، وأدار جلساته وتدخل في الحوار اللاهوتي، ثم أملى على الحاضرين من الأساقفة والقساوسة القرارات. مع أنه، في ما أظن، لم يقرأ كتاباً واحداً في اللاهوت المسيحي! بل انه لم يكن يعرف اللغة اليونانية التي كان يحتدمُ بها الحوار اللاهوتي بين الأساقفة في نيقية، ولم يكن يهتم أصلاً بالخلاف اللاهوتي بين القس آريوس وأسقف الاسكندرية في زمانه، اسكندر. يظهر ذلك من رسالة الإمبراطور إليهما، التي يصف فيها خلافهما حول طبيعة يسوع المسيح، بأنه خلاف تافه وسوقي وأحمق ووضيع! ويؤكد عليهما أن يحتفظا بآرائهما في باطنهما، وألاّ يشغلا بها الناس. الرسالة مشهورة، وفي الأسقفيات نسخ منها. ثم انتصر الإمبراطور للأسقف اسكندر ليضمن قمح مصر ومحصول العنب السنويِّ، وحرَم الراهب آريوس، وحرَّم تعاليمه، وحكم بهرطقته كي يرضي الأكثرية من الرعية، ويصير بذلك نصير المسيحية... لقد ضيّع الإمبراطور قسطنطين قديماً، حكمة آريوس مثلما تضيع اليوم بأيدي الجهلة الذين يزعمون أنهم أتباعه، ويتخذونه مدخلاً للهرطقة ونقض الديانة. إن الآريوسيين الذين يملأون اليوم البلاد من حولنا، يجنون على آريوس مثلما جنى عليه الإمبراطور قسطنطين قبل مئة عام". ... لا مجال هنا للإحاطة بالسجالات العقائدية التي يتضمنها الكتاب/ الرواية، لكنه يشهد إجمالاً على أن العقائد الجديدة لا تلغي ما قبلها إنما يحدث صدام وعداء وتحريم تتحول مع الزمن الى شيء من التداخل، فلا عقيدة نقية في واقع معقد وإنما توج توجد في إحساس معتنقها وحده. الثلثاء 7/10/2008 : خريف بلادنا الخريف يليق بهذه البلاد، ينسجم مع بطء الأفكار وحذرها وتكرارها العريق. والربيع السريع يأتي فقط للتذكير بأن الأرض يمكن أن تطلق ألوانها الحبيسة فلا تكتفي بلون قرميدي. خريف بلادنا لا يعد بشتاء يحرّك فيجدّد، ولا بربيع يحتفل بالتنوع. خريف بطيء يعادل أخبار الصحف وكلام الزعماء ووعيد المحاربين وشيخوخة الشبان وغياب الطفولة. وترابنا اليوم غير التراب، كأنه مغطى بمادة غير مرئية تمنع تنفس الأرض واتصالها بالهواء، بالفضاء العليّ. ثمة من يخسف الأرض الى جحيمية اليباس ويدفع الهواء الى علوية لا تعترف بالجسد. بلاد الخريف المديد بلادنا، لا ندري أين نضع أجسادنا، كيف ننميها، نحميها من الكلام، كيف نمنعها من التحول الى صور على الجدران، ولافتات إعلانية. الأربعاء 8/10/2008 : لغتان تزايد مبيعات الكتب التراثية في معارض الكتب العربية منذ ثلاثة عقود، وظهور علماء الدين الكثيف في وسائل الإعلام، لا يقتصر تأثيرهما على الشأن الفكري والسياسي، وإنما أيضاً على نوع اللغة الذي يحل محلّ العربية الحديثة. ما نشهد هو صعود لغة معقدة الصياغة أو ملتبستها، لغة الجمل الطويلة حيث يضيع القارئ في إحالة الضمائر الى الكلمات. لغة القرون الوسطى تحل محل لغة العصر بجملها القصيرة التي تكسب النص حيوية وحركة وتجعل المعاني حاضرة نابضة. ونكاد نقول إنه لولا بعض الاختلاف في اختيار المصطلحات، فإن الكتب المترجمة هي الأكثر تقارباً في النتاجات الثقافية العربية اليوم، فيما الكتب الموضوعة متباعدة. نحن في زمن تضيّعنا فيه الكلمات، فيما كانت الكلمات تقودنا الى المعاني ببساطة أو تحملنا بمودة على بساط الريح. الجمعة 10/10/2008 : هدير عكا هدير عكا استجابة لهدير بحرها الذي ضربت به الأمثال. 15 جريحاً ومئات السيارات والمحال المحطمة، نتيجة صدامات بين يهود المدينة وعربها في عيد الغفران الذي يعني في ما يعني عند اليهود امتناعاً عن العمل وميلاً الى الصمت. بدأ الصدام حين اعتدى فتية يهود على سائق عربي بدعوى أن سيارته تتسبب بضجة مسيئة الى شعائرهم. ويشكل العرب حوالى 50 ألفاً، أي ثلث عدد سكان المدينة التاريخية الصغيرة وتتركز إقامتهم في الحي القديم. اشتباكات يمكن أن تتجدد سنوياً إذ تجد في الشعائر الدينية ذريعتها، ذريعة مزقت مجتمعات كبرى. كانت شرارة تقسيم شبه القارة الهندية وإنشاء الدولة الانفصالية المسماة باكستان خلافاً"بسيطاً"بين مسلم وهندوسي، الأول يذبح بقرة ويأكل لحمها والثاني يقدسها ويمتنع عن إزعاجها حين تعوق مرور السيارات والحافلات. والشعائر الدينية يتخذها البعض ذريعة لمنع الاختلاط بين أهل العقائد، وللحجر على البشر في غيتوات ودفعهم الى التشابه القسري فيبدون متكررين مثل كعك العيد. هذا النقاء مستحيل التحقق، وإذا افترضنا تحققه فهو يعني نهاية حضارة الإنسان. النقاء العرقي أو الديني أشبه بزواج المحارم، مع ذلك يطالب به متدينون.