منذ القرن الرابع الميلادي "تعرضت المسيحية لخلافات مذهبية وعقائدية متعددة ومتنوعة" ص107. وبرزت اجتهادات في حقول اللاهوت والفلسفة واللغة بتأثر من الثقافة اليونانية ومعتقدات الحضارات القديمة بلاد الرافدين، الشام، ووادي النيل فظهر رجال الدين الرهبان الآباء القبادوقيين في نهاية القرن الرابع الميلادي، وظهر يوحنا الفم الذهبي في الرها إديسَّا، الذي ولد في انطاكية سنة 345م وارتحل الى واد العاصي هرباً من الامبراطور والنس 364 - 378م الذي كان يميل الى الاريوسية ص110. انقسام الدين وتفكك الدولة عاد يوحنا الى انطاكية في وقت بدأ الانقسام في الدولة الامبراطورية الرومانية تظهر علاماته، فأخذ يوعظ الناس الى ان اندلعت ثورة انطاكية سنة 381م فلعب دوراً في تهدئة الناس والتخفيف من ويلاتهم. جاءت الثورة عشية انقسام الامبراطورية الرومانية في عهد ثيودوسيوس 395م بين ابنيه: هنوربوس في الغرب رومة واركاديوس في الشرق بيزنطية. آنذاك اختير يوحنا بطريرك القسطنطينية سنة 398م، فعمد الى تطهير الكنيسة ومؤسساتها من الفساد، فازداد خصومه واجتمعوا واتفقوا على خلعه سنة 403م، وأبعد سنة 404م الى طوروس وقضى هناك ثلاث سنوات الى ان توفي سنة 407م ص114. واعتبر القديس يوحنا من "أعمدة الارثوذكسية بالنسبة الى ذلك العصر"، وواحداً "من كبار الكتّاب المسيحيين في العصور المسيحية الاولى"، وواحداً "من المفسّرين الاوائل للكتاب المقدس". وجمعت رسائله ومؤلفاته في 13 مجلداً ص115 - 116. ترافق انقسام الدولة والكنيسة مع ظهور تيار ثالث مال الى العزلة الرهبنة والابتعاد من العالم ومشكلاته، فتحولت المناطق المعزولة في بلاد الشام ومصر الى ملاجئ للتنسّك. وقويت تلك النزعة في نهاية القرن الرابع الميلادي، احتجاجاً "على تبدل في شكل العلاقة بين المؤسسات المسيحية والدولة" ص117. وكانت مصر "المنطلق الاول للتنسّك ثم للرهبنة" ص118، فتطورت الرهبنة من افراد الى نظام فأصبح الدير "مستقلاً في اموره مكتفياً ذاتياً" ص119. إلاّ ان نظام العزلة لم يعف الأديرة من التأثر بالمحيط والعالم الخارجي، فانقسمت الرهبنة لاحقاً بين آرامية في بلاد الرافدين وهلينية في بلاد الشام. وأصبحت المسيحية "دين الأسر العربية الحاكمة" ص125، وتطورت السريانية "على انها لغة المسيحية" ص126. وبسبب من ذاك الاتساع اختلفت مدارس الرهبنة وتنوعت وظائفها وتحولت الى امر مألوف في المنطقة في القرن الخامس الميلادي، وكان من ابرز نسّاك المنطقة الشمالية السورية مار مارون توفي سنة 410م الذي عاصر يوحنا الفم الذهبي ووصلته رسائل منه واستخدم السريانية لنشر دعوته في لبنان، وسمعان العمودي توفي سنة 459م. وعلى رغم تنوع الاجتهادات وتعدد الانقسامات "أقبل الناس على المسيحية إقبالاً شديداً"، وبدّل هذا "الانتقال السريع الى المسيحية" في "تركيب المجتمع المسيحي"، إذ نضج الفكر اللاهوتي وتعمّق و"ازدهر الفن وتحسن وضع المؤسسات المهتمة بعمل الخير" ص135- 137. وكان تعدد الاجتهادات يعود كل فترة الى الضغط على وحدة العقيدة انطلاقاً من خلافات مذهبية ومناطقية ومنافسات بين الكنائس وترتيبها ومواقعها، وحصل الخلاف الأبرز بين كيرللس ونسطوريوس في مطلع القرن الخامس للميلاد، وتركز على طبيعة المسيح، فتدخلت الدولة لحسم الموقف ونجح كيرللس في كسب الامبراطور ثيودوسيوس الثاني لمصلحة رأيه في مجمع افسوس سنة 431م. إلا أن الخلافات استمرت فأصدر الامبراطور سنة 448م قراراً حرّم فيه تعاليم نسطوريوس وكل المصنفات التي تخالف نصوص نيقيه اعتبر القانون النيقاوي اساس الاعتراف بالإيمان وقرارات مجمع افسوس ص140- 141. وحاول الامبراطور مرقيان 450- 457م ضبط الخلافات في مجمع مسكوني عقد في خلقيدونية سنة 451م وأقرّ المجمع وجهة نظر ان المسيح اقنوم واحد له طبيعتان، ودان رأي نسطوريوس وقسم البطريركيات الى خمس بالترتيب: رومة، القسطنطينية، الاسكندرية، انطاكية والقدس. وأسفر المجمع الخلقيدوني عن حصول انشقاق كبير حين قام الرهبان الآراميون السريان بثورة في فلسطين تلتها ثورة في مصر الاسكندرية التي اخذت كنيستها بقاعدة الطبيعة الواحدة ص144. واستمر الانشقاق الى ان اعتلى يوستنيان العرش 527- 565م في مطلع القرن السادس الميلادي مركّزاً نشاطه على اعادة احياء الامبراطورية الرومانية، وإحلال الوفاق في الكنيسة ص145. وفشل في مهمته لأن الانقسام الكنسي بين الطبيعة الواحدة والطبيعتين كان اقوى من قدرة امبراطور على توحيده. ولم يكد يمضي القرن السادس الميلادي حتى انقسمت الكنيسة الشرقية نفسها على طبيعة السيد المسيح، فقالت القسطنطينية والمناطق الساحلية السورية واليونانية بالطبيعتين، أما مصر وفلسطين والأجزاء الداخلية من سورية وأرض الرافدين فقالت بالطبيعة الواحدة 146. المسيحيون العرب استقرت الخلافات اللاهوتية في القرن السادس الميلادي على ثلاثة اتجاهات: اتباع الخلقيدونية طبيعتان، المونوفيستيون طبيعة واحدة اطلق عليهم اليعاقبة، والنساطرة السوريون الشرقيون اتباع نسطوريوس. ولم تكن تلك الخلافات بعيدة من تنوع المنابت القبلية والثقافية واللغوية وتعدد البيئات الاجتماعية والجغرافية، اضافة الى تدخل الدول المجاورة في شؤون الكنيسة وظهور صراع آرامي - يوناني ضد الدولة البيزنطية. فالمحيط الجغرافي - السياسي شجع تلك الخلافات وأخذت كل دولة منافسة تؤيد أحد المذاهب ضد الآخر. فالدولة الساسانية الفارسية شجعت اتباع المذهب النسطوري النساطرة، والامبراطور البيزنطي يوستين الاول 518- 527م اضطهد الكنائس العربية في سورية وطردهم الى الصحراء، والكنيسة المصرية القبطية انفصلت عن الكنيسة الرسمية، بينما قبل الموارنة بالطبيعتين ص158. واستغلت دول الجوار عصبيات القبلية العربية وزادت من خلافاتها وتنافسها على كسب المواقع وضمان الدور، فانقسمت القبائل العربية في بلاد الرافدين وأرض الشام الى حلفاء بيزنطية بنو غسان وقام الحارث بن جبلة الغساني بتطوير علاقاته مع البيزنطيين منذ سنة 529م، بينما أقام خصومها من التنوخيين سكنوا في منطقة تقع بين نهر الفرات وخط من المدن يمتد من قنسرين الى حمص عبر حماة علاقات خاصة مع الساسانيين. وأدى الصراع المذهبي النسطوري - اليعقوبي مونوفيستيون الى ترحيل اليعاقبة وذهابهم في سنة 527م الى "نجران الواقعة الى الغرب من الحيرة" وانتشر هؤلاء "بين البدو من العرب" ص161. وكان اساس الاختلاف المذهبي، اضافة الى التنافس القبلي، ضعف الثقافة الهلينية في المناطق الآرامية، ما جعل المسيحية تنمو وتنتشر في سياق مختلف عن المسيحية اليونانية في وقت كانت تحولت الى دين "زعماء القبائل العربية" التي هاجرت بكثافة في القرنين الثالث والسادس الميلاديين، وخصوصاً هجرات بني تنوخ وبني تغلب وقبيلة الأزد. فالانقسام القبلي الموروث تحول الى خلافات مذهبية مسيحية. فاستقر عدد كبير من النساطرة في الحيرة كانت تحكمها اسرة عربية لخمية، واستقرت قبيلة تغلب في منطقة بين الخابور ودجلة والفرات انتشرت بينها الدعوة اليعقوبية /طبيعة واحدة، واعتنق الغساسنة الذين وصلوا الى مشارف الشام في القرن الثالث الميلادي المسيحية، وانتشرت المسيحية في الاجزاء الشرقية من الجزيرة وساد فيها المذهب النسطوري. ص162- 164. وانعكس الصراع الساساني - البيزنطي على القبائل العربية فانعقدت تحالفات متناقضة مع الفرس والترك البيزنطيين وأخذ كل قبيل يؤسس حلفه فأسس الغساسنة حلفاً مع بني أسد القرشية، وأنشأ حُجر بن عمرو حلفاً من كندة وربيعة وبعض معد، واعتنقت القبيلة الرئيسية في كندة المسيحية وكذلك غالبية بني كلب وحلف تميم وبني ايوب ص167. وعلم رغم هذا الانتشار المعقول لم تصل المسيحية الى اعماق العرب وظل الانجيل هامشياً بسبب الشعور الجماعي - القبلي، وربط العرب بين المسيحية والبيزنطية ص171. ويضيف، زيادة، الى العاملين المذكورين، مسألة لغوية، وهي إحجام الأساقفة العرب عن الكتابة عن المسيحية باللغة العربية. فهم استخدموا السريانية واليونانية للتخاطب ونشر الدعوة ولم يكترثوا بترجمة الأناجيل الى العربية في تلك الفترة، كما حصل في أرمينيا والكرج جورجيا. المسيحية عشية الفتح وخلاله بدت على الامبراطورية البيزنطية في نهاية القرن السادس ومطلع القرن السابع "امارات الضعف والعجز بسبب الاضطراب المالي" والصراع مع الدولة الساسانية على بلاد الشام. وحتى ايام هرقل البيزنطي استولى الساسانيون على مناطق من الشام وعاد هرقل واستعادها منهم قبل سنوات من الفتح العربي - الاسلامي. وإلى الصراع الاقليمي الذي اضعف هيكل الدولة وتنظيمها العام وصلت الانقسامات المذهبية - القبلية الى درجة عالية من التوتر، الامر الذي دفع بعض الكنائس المصرية والسورية الى الوقوف بجانب الجيوش العربية. فقبل الفتح كان وضع الكنائس المسيحية كالآتي: اعتبرت الكنيسة اليعقوبية غير شرعية مثلها مثل النسطورية في نظر البطريرك الأنطاكي اليوناني الملكي. وكان المونوفيستيون هم اكثرية السكان في سورية اهل ريف بينما قصر الملكيون المسيحيون وجودهم على المدن. وفي زمن الفتح قاتل عدد من أتباع الخلقيدونية المشيئة الواحدة من السكان الأجانب الجاليات اليونانية مع الجيوش البيزنطية بينما وقف فئات من سكان مصر بسبب الاضطهاد الذي لاقته من الدولة البيزنطية نتيجة الخلاف على طبيعة المسيح وبلاد الشام الغساسنة واليعاقبة الى جانب الفاتحين وحدة العنصر واللغة والقرابة. وحين مالت كفة المسلمين غادر معظم الجاليات الاجنبية المدن وظل في البلاد سكانها من عرب وآراميين أو آراميين متعرّبين ص196. ومن جهتهم، كان الفاتحون، كما يذكر زيادة، يعرفون المسيحية والمسيحيين من خلال التبادل التجاري او الصلات القبلية الغساسنة والتغالبة في وقت جاءت الاشارات القرآنية الى المسيحيين قليلة وهادئة. وحين تم الفتح اعتمد الفاتحون على الاجتهاد الشخصي او الأوامر الخاصة. فلم تكن هناك تجربة واضحة عن كيفية التعامل مع اهل الكتاب، فتعامل الفاتحون مع المسيحيين كفئة واحدة اذ لم تكن لديهم فكرة واضحة عن الفِرق المسيحية وتنوع مذاهبها. وحين جاء هرقل 610- 641م بفكرة جديدة بعد هزيمة جيوشه تقول ان "المسيح له طبيعتان، لكن له مشيئة واحدة" وكان قصده وضع حد للخلاف "بين المونوفيستيين والخلقيدونيين" رفضها بطريرك القدس العربي صفرونيوس الذي اصبح اعتباراً من مطلع سنة 638م تابعاً "للدولة العربية الاسلامية الجديدة" ص179. فالبطريرك كان سلّم مفاتيح القدس للخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب وأصدر الخليفة "عهدة عمر" التي تحولت "قاعدة اصلية للتعامل مع سكان البلاد من المسيحيين" ص193. المسيحية بعد الفتح ويتحدث المؤرخ زيادة عن المسيحية وأهلها في مصر وبلاد الشام بعد الفتوحات العربية - الاسلامية فيشدد على التسامح الديني والتعاون بين الدولة وأهل الكتاب. وأساس التعاضد لا يعود الى وحدة اللغة والقرابة فقط بل الى خصوصية العلاقة التي قامت على احترام الاختلاف وضمنتها معاهدات ومواثيق. فحين دخل العرب بلاد الشام كان بطريرك انطاكية هو اثناسيوس الجمال، بطريرك اليعاقبة المونوفيستيين الطبيعة الواحدة فساعد اليعاقبة العرب في فتوحاتهم اخوة الدم واللغة مثل الغسانيين ومن سار مسيرتهم، فقامت الدولة الجديدة بالتعاطف معهم وتكريمهم، فخرج منهم يوحنا الدمشقي ولد في دمشق سنة 675م، وضع التسابيح الكنسية وكتب في اللاهوت وتوفي سنة 749م. عموماً، اتصف حكم المسلمين خصوصاً في الفترات الأولى بالتسامح والعدل وشغل العلماء اليعاقبة والنساطرة مراكز مرموقة في بلاط الخلفاء ص197. فاليعاقبة استفادوا من توحيد الشام ومصر وبلاد الرافدين تحت الحكم العربي وبشّروا بآرائهم وبرز منهم كبار العلماء على رغم تنافس مذهبهم الطبيعة الواحدة مع المذهب النسطوري اصحاب الطبيعتين. وشهدت الكنيسة القبطية حرية دينية - مذهبية حين استقر الوضع السياسي، فاستعادت بعض الكنائس التي انتزعت منها سابقاً، وشغل اتباعها الكثير من الوظائف الرسمية التي شغرت بسبب مغادرة الروم اليونان البلاد. كذلك حافظ النساطرة على وضعهم الخاص فازدهرت شؤونهم في "العهد الاسلامي المبكر" 201 وكان لهم مراكز علمية مهمة في نصيبين وجنديشابور ومرو، وزودت مدارسهم الدولة بالموظفين والمحاسبين والكتّاب. وتمتعت الكنيسة النسطورية خلال "القرون الثلاثة الاولى بكثير من الحرية والامتيازات" وازداد دورها في عهد الخليفتين العباسيين المنصور والمعتضد، وبرز علماء النسطورية "في بيت الحكمة في بغداد وغيرها" ص201. وأفاد الموارنة من الفتح حين شغر كرسي البطريركية الانطاكية لمدة طويلة بعد هزيمة الدولة البيزنطية، فتقدم الموارنة الى المنصب وانتخبوا سنة 685- 686م احد رهبان مار مارون بطريركاً و"كان اول بطريرك ماروني وعندها ظهر للمارونية كنيسة مستقلة لها بطريرك، ولها إطار وظائفي اداري". فمار يوحنا مارون كان البطريرك الماروني الاول ص204. تبدل المقام والأحوال يرى زيادة ان حال المسيحيين ومقامهم اخذا يتبدلان منذ مطلع القرن الثالث للهجرة وتحديداً من ايام الخليفة المعتصم 218- 227ه /833- 842م. ويربط المؤرخ المسألة بسيطرة العنصر التركي على الدولة العباسية حين أدخل المعتصم الترك جنداً في جيشه لمساعدته في صد الهجمات وإرسال حملات الفتوح. ومن الجيش انتقل التسلط على الخليفة الى الخلافة وخصوصاً في عهد بني بويه 320- 454ه /932 -1062م ثم السلاجقة 470- 707ه /1077 -1307م. ففي تلك الفترات المديدة تبدل العدل وحلّ مكانه الساطور في عهد "المسلمين المحدثين". إذ لم يكن يعني "هؤلاء الأجانب" كما يقول "إلا الاستيلاء على موارد الرزق ومصادر الثروة الرسمية" واقتسام الخلافة الى دويلات أسرية متوارثة، فوقع الظلم "على فئات من الناس، بقطع النظر عن معتقدها" 207. وتكرر في مصر الفاطمية ما بدأ في العراق العباسي، اذ استمر حال العدل حتى العهد الفاطمي ولم يتعكر صفو العلاقة إلا في عهد الحاكم بأمر الله 386- 411ه /996 -1021م الذي اضطهد اهل الكتاب وقام بهدم كنيسة القيامة في القدس و"أعاد بناءها في ما بعد خليفته الظاهر" ص191. الى الجانب العرقي فرس وترك يشير زيادة الى مسألتين مهمتين ساهمتا في تبدل المقام والأحوال. الأولى: التعصب المذهبي الذي أشعلته الفرق الإسلامية فدخل الطمع السياسي الخلاف الديني و"عندما يقوم تعصب ديني بين أبناء الدين الواحد، فليس غريباً ان ينتقل هذا التعصب الى أبناء دينين مختلفين" ص208. والمسألة الثانية: انتقال غالبية السكان الى الاسلام، فمع الوقت تزايد عدد المسلمين وأصبحوا اكثرية في "القرن الخامس أو السادس للهجرة" 11 و12 ميلاديين وتحولت المسيحية الى اقلية نسبية، وباتت مجالات المعرفة على انواعها ملكاً للجميع ولم تعد "حكراً على المسيحيين" كما كان الأمر في مطلع الخلافة العربية وباتت اكثرية علماء البلاط من المسلمين ص209 -210. وزاد الطين بلة اندلاع حروب الفرنجة الحملات الصليبية التي أحدثت تبدلاً في المشاعر حين احتلت أوروبا بيت المقدس في تموز يوليو 1099م. فالحملات التي اندفعت الى المشرق لأسباب دينية واقتصادية استولت على الساحل الشرقي من المتوسط وأغلقت المنافذ البحرية امام المسلمين وقامت بتأسيس مملكة في القدس وثلاث امارات طرابلس وأنطاكية والرها، وأوقعت في بلاد الشام من الأذى "ما لم توقعه حروب اخرى قبلها" ص214. ودفع المسيحيون المشارقة الثمن الى جانب المسلمين لخلافهم اللاهوتي مع المسيحيين اللاتين الكنيسة الغربية. وبسبب الضغوط الافرنجية على البطريركيتين، المقدسية والأنطاكية، أعيد تنظيم الكنيسة وفق النسق اللاتيني واستولت البطريركية اللاتينية على جميع الأوقاف الارثوذكسية وضمّتها اليها. وحين بدأت حرب التحرير أيّدت فئات قليلة الفرنجة وقاتل معظم السكان مع صلاح الدين. وبعد تحرير القدس في الزمن الأيوبي ظل معظم الأوقاف الارثوذكسية ضمن املاك البطريركية اللاتينية ص215 -216. بعد انتهاء حقبة الحملات وعودة القدس عربية، يتحدث زيادة عن فترة المماليك، إذ اعتبرت الدولة الفئات المسيحية مجموعات جوالي تعيش في المجتمعات المسلمة. وفي العهد المملوكي تم نقل "كرسي البطريركية الأنطاكية الى دمشق في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي أو بعد ذلك" ص232. وفي عهد الاجتياح المغولي تعرض المسيحيون الى كوارث وحصل للكنائس ما تعرضت له الجوامع، خصوصاً في الفترات الاولى من الغزو. وفي العهد العثماني قام السلطان سليم الاول بجعل كل الكنائس التي "تقبل الطبيعة الواحدة" تابعة للبطريرك الأرمني، واستبدل "نظام الجوالي" المملوكي بنظام الملل الملّة العثماني وكانت "كل طائفة، عندما تعترف الدولة العثمانية بها، تصبح وحدة اجتماعية علاقتها الرسمية بالدولة تتم عن هذا الطريق الرئيسي الروحي" ص233. وفي القرن التاسع عشر تصاعدت المواجهة بين السلطنة العثمانية وأوروبا الحديثة واندلعت حروب العثمانيين مع الروس حرب القرم في 1853- 1856 فازداد تدخل الغرب في شؤون العالم الاسلامي، مترافقاً مع ازدياد نشاط حركات التبشير في حياة المسيحيين. فأدّى التبشير الى زيادة التوتر الذي اساء اليهم على رغم انه حصلت محاولات لكثلكة الارثوذكس بعد حملة نابليون بونابرت. فالكنيسة الكاثوليكية كانت تنظر الى المسيحيين الارثوذكس العرب على انهم خوارج ص236. واستمر الوضع الى مطلع القرن العشرين وسقوط منطقة المشرق العربي ودخولها تحت مظلة الانتداب في شقّيه البريطاني والفرنسي، فألغي "نظام الملل" وحلّ مكانه نظام الطوائف الذي لا يزال ساري المفعول، خصوصاً في لبنان. وفي الخلاصة، يعتبر كتاب المؤرخ نقولا زيادة من المراجع المهمة لتأريخ نشوء المسيحية في المشرق وانتشارها في العالم وصلة الكنائس بالعالمين الغربي والشرقي. فزيادة يعتبر الارثوذكسية كنيسة عربية في اساسها. وحين بدأ الفتح الاسلامي كانت منطقة المشرق بلاد الشام ومصر جاهزة لاستقباله بسبب التكوين التاريخي القبلي - الاجتماعي اضافة الى اختلاف الأصول الثقافية للكنيسة الآرامية عن الكنيسة الهلينية. وبعد الفتح مرّت المسيحية في ادوار مختلفة من "الجوالي" ايام المماليك، الى "الملل" ايام العثمانيين، الى الطوائف ايام الانتداب ومحاولات الكنيسة الغربية السيطرة على العالم المسيحي وتحديداً الكنيسة المشرقية وتوحيده تحت راية السلطة البابوية. وبرأي زيادة، المسيحية كالإسلام "بذرة واحدة" لكنها انقسمت بعد انتشارها الواسع في بيئات متباينة اجتماعياً وثقافياً وفكرياً ولغوياً. فالتنوع المذكور ساهم في انقسام الكنيسة وهو امر تكرر مع الاسلام الذي "انتشر ايضاً في بقاع متباعدة وأنحاء مختلفة وبين شعوب متنوعة الخلفيات" ص222. * كاتب من أسرة "الحياة".