سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المصادر الإيديولوجية والاجتماعية ل"اليسار الجديد" في لبنان . مجموعات من الشبان المتعلمين خرجت على بيئاتها وراحت تبحث عن انتماءات ايديولوجية وثقافية 1 من 2
} نقل بعض الصحف اللبنانية عن القاضي عدنان عضوم، النائب العام التمييزي في بيروت، قوله إن "لقاءه" توفيق الهندي اثناء التحقيق معه في وزارة الدفاع، "كان ودياً"، و"تجاذبا أطراف احاديث" حلّلا فيها "الأوضاع السياسية في لبنان والمنطقة" اليوم "حينما كان الهندي ناشطاً يسارياً قبل 11 عاماً. ونقل عضوم عن الهندي قوله إنه التقى مسؤولاً إسرائيلياً قبل 11 عاماً. أي أيام كان بعدُ في صفوف اليسار. لكن "سيرة" توفيق الهندي التي نُشرت مقتطفات منها في بعض الصحف اللبنانية، أكدت انه لم يمكث في صفوف منظمة العمل الشيوعي اللبنانية إلا سنوات قليلة في النصف الأول من السبعينات، قبل انضمامه الى "حركة فتح" وعمله في صفوفها في النصف الثاني من السبعينات. وفي خضم ما آلت إليه الأوضاع في لبنان الحرب، لا سيما اثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحرب الجبل و"حركة 6 شباط" 1984، انتقل الهندي من الشطر الغربي من بيروت الى شطرها الشرقي، فانخرط هناك في علاقات وأنشطة في اجهزة "القوات اللبنانية" المسيحية. أما زوجة توفيق الهندي، الصحافية كلود ابي ناضر، فقد نقلت عنها الصحف اللبنانية نفيها "إلصاق تهمة التعامل مع إسرائيل بزوجها" الذي يعتبر الدولة العبرية "عدواً لدوداً"، على ما تدل كتاباته ومناظراته في صحيفة "السفير" اللبنانية العروبية، وتشهد على "عروبته وخطه العربي". وأشارت الزميلة ابي ناضر أن زوجها كان يرفض زيارة بيت اهلها في جزين، لأنه ما كان ليحتمل ان يمر على حواجز "جيش لبنانالجنوبي" الموالي لإسرائيل. وعن شريط الفيديو الذي عرضته محطات التلفزة في بيروت، وصُوّرت فيه "اعترافات" زوجها، قالت أبي ناضر إنه خضع "لعملية مونتاج واضحة"، وذكرت ان اكثر من طبيب نفسي "أكدوا" لها ان زوجها "بدا" في الشريط "ثقيل اللسان مضطرباً، وحركاته غير متناسقة"، فيما هو يتكلم. كما ان صوته لم يكن واضحاً، على عكس صوت المدعي العام، القاضي عدنان عضوم". وأكدت أبي ناضر ان الهندي كان، إلى يساريته، ناشطاً في "حركة فتح" و"حارب إسرائيل في العام 1975"، على ما "تشهد تلال كفرشوبا"، القرية اللبنانيةالجنوبية على حدود اسرائيل وتخوم مزارع شبعا، والتي كانت منذ العام 1968، محجة جيل من الشبان والشابات اليساريين والثوريين اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، وقبلتهم لنصرة النضال الفلسطيني المسلح في لبنان ومن لبنان. فمن هو ذلك الجيل الشاب الذي كان توفيق الهندي في عداده وما هي مساراته ومصائره؟ في النصف الأول من ستينات القرن الماضي، وقبل ظهور حركة المقاومة الفلسطينية ومنظماتها المسلحة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وفي جنوبلبنان بعد هزيمة حزيران يونيو 1967، كان النشاط السياسي اليساري والشيوعي في لبنان يقتصر على "الحزب الشيوعي اللبناني"، ذي العقيدة الماركسية - اللينينية السوفياتية التقليدية، وعلى مجموعات وشلل من الشبان المتعلمين، راحت متطلباتها ومناقشاتها الإيديولوجية والثقافية تخرجها من صفوف "حركة القوميين العرب" الناصرية الوحي والميل، وصفوف "حزب البعث العربي الاشتراكي" صاحب العقيدة القومية. وربما كان هذا الخروج ثمرة تأثر شبان من هذه المجموعات والشلل واحتكاكها الثقافي بالتيارات اليسارية الأوروبية التي زودتها مصادر ايديولوجية تؤمن لها التميز عن الأحزاب الشيوعية التقليدية، وعن احزاب الحركة القومية العربية في آن. وشكلت هذه المجموعات والشلل النواة الأولى لما سيعرف في النصف الثاني من الستينات والنصف الأول من السبعينات بتيار "اليسار الجديد" في لبنان. لكن هذا التيار لم يقصر نشاطه مشهوداً على مسرح العمل و"النضال" السياسيين في الجامعات والمدارس وبين العمال والحرفيين وفي الشارع في لبنان، إلا بتأثير عاملين وحدثين متداخلين ومتزامنين: - هزيمة 1967 العربية المدوية، واندفاعة الثورة الفلسطينية المسلحة، كرد وجواب على هذه الهزيمة التي مُني بها النظامان الناصري في مصر والبعثي في سورية. - الطفرة الشبابية اليسارية التي توجتها الثورة الطلابية في فرنسا 1968، معطوفة على الثورة الفيتنامية، وعلى فكرة البؤرة الثورية والثورة الدائمة وحرب الغوار التي انطلقت مع تشي غيفارا في كوبا وأميركا اللاتينية، وعلى الانتفاضة التي عُرفت باسم "ربيع براغ" ضد النظام الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا 1968، وقامت الدبابات الروسية بسحقها فوراً وفي المهد. والتيار اليساري الجديد في لبنان تجمّع من مصادر اجتماعية لبنانية شتى شديدة التباين والتنوع، وشكلت "منظمة العمل الشيوعي" قطبه الجاذب في نهاية الستينات ومطلع السبعينات. فبعدما شكلت الشهابية مدار الحكم اللبناني وقطبه التسووي الجامع عقب حوادث 1958 الدامية، رست الركيزة الداخلية لهذا الحكم على قطبين اهليين اساسيين: "حزب الكتائب اللبنانية" بزعامة الشيخ بيار الجميل في الشارع المسيحي، و"الحزب التقدمي الاشتراكي" بزعامة كمال جنبلاط الدرزي، إضافة الى غيرهما من الزعامات التقليدية السنية في المدن الساحلية بيروت، طرابلس، وصيدا. وفي الأثناء انقض الحكم الشهابي على "الحزب السوري القومي الاجتماعي" في لبنان، غداة انقلابه العسكري الفاشل عام 1962. وكانت الضربة الشهابية لهذا الحزب قاسمة، فانفكت عنه اجنحة من نخبه وأخذت بالفكرة اللبنانية، فيما هادن "الحزب الشيوعي اللبناني" الحكم الشهابي على قاعدة الإصلاحات الاجتماعية والإدارية والتنموية التي شرع بها. غير ان فئات واسعة من الأجيال اللبنانية الشابة، المتعلمة والمتباينة المصادر الاجتماعية والطبقية والمناطقية، راح ما حصلته من وعي وحساسية جديدين يحملها على الخروج على ثقافة الأهل وولاءاتهم وقيمهم "التقليدية"، وعلى ثقافات القوى السياسية الحزبية والعقائدية الناشطة في الستينات. - ففي الوسط المسيحي صار من الصعب على "حزب الكتائب اللبنانية"، في أفكاره وثقافته وحضوره في الحياة اليومية العامة، ان يستقطب فئات من الشبان المتعلمين، ابناء الأسر الميسورة والمنفتحة على نمط الحياة الغربية وثقافتها. وبما ان الستينات كانت حقبة الطفرة الشبابية الغنائية للتحرر الفردي والاجتماعي والجنسي والثورة على القيم التقليدية، والخروج على اليسارية الكلاسيكية التي تمثلها الأحزاب الشيوعية الرسمية، والنقد اللاذع للستالينية والفاشية، فإن "حزب الكتائب اللبنانية" في شعاره "الله، الوطن، العائلة"، و"الحزب الشيوعي اللبناني" الأرثوذوكسي و"الكسول"، ما عادا يرضيان متطلبات هذه الفئة من الشبان وطموحاتها وتوقها الى الغنائية والتحرر، على ما روى فارس ساسين وبول أشقر. وهكذا راح ينشأ في اوساط هذه الفئة من الشباب ما يشبه "دوائر علانية عامة" للتعارف والتبادل والمناقشة في الجامعات والمدارس الثانوية واللقاءات في المقاهي. ومن هذه الدوائر تشكلت النواة الأولى لما سُمي "اتحاد الشيوعيين اللبنانيين"، وكان جامعها المشترك تحدرها من أوساط مسيحية متوسطة وميسورة، ونفورها من تقليدية "حزب الكتائب" الأبوية ومن "صوفيته" المسيحية الشعبية التي تحوّل إليها في الستينات، إضافة الى نفورها من الأرثوذوكسية الكسولة ل"الحزب الشيوعي اللبناني". - هناك مصدر آخر، اجتماعي وثقافي، لتيار اليسار الجديد في الوسط المسيحي اللبناني، على ما يروي ملحم شاوول. فإثر انعقاد "المجتمع المسكوني" الفاتيكاني الثاني في اواسط الستينات، صدرت توصيات دعت الشبيبة المسيحية في العالم الى التزام قضايا الفقراء والجياع والمعذبين في الأرض. وبناء على هذه التوصيات نشأت جمعيات شبابية مسيحية في لبنان، تصدر بعضها رجال دين ومطارنة: غريغوار حداد، مكرم قرح، جورج خضر. وكان هدف هذه الجمعيات التزام القضايا الاجتماعية للفقراء، وصولاً الى إضفاء وجه اجتماعي وإنساني ملتزم على الإيمان الديني المسيحي. وفي نهاية الستينات عُقد مؤتمر عام لهذه الجمعيات الشبابية في لبنان عُرف ب"مؤتمر يسوع الملك" الذي كان تجسيداً لبروز "يسار الشبيبة الطالبية العامة المسيحية" المتأثر بأجواء الأفكار الماركسية العامة في معاكسة الفكر القومي في اشكاله المختلفة. لكن هذه "اليسارية المسيحانية" كانت على نفور من الشيوعية السوفياتية الرسمية، ومتعاطفة مع قضية الشعب الفلسطيني المشرد، المضطهد والمعذب، اضافة الى اعتبار مدينة القدسالمحتلة رمزاً ومهداً للمسيحية. ومن الأسماء التي كانت ناشطة في ذلك التيار الشبابي: غسان سلامة، عبدو قاعي، جورج ناصيف، سليم نصر، انطوان مسرة، بطرس لبكي، وجورج قرم. - في الخمسينات ومطلع الستينات كان حضور "الحزب الشيوعي اللبناني" ضعيفاً في الوسط الإسلامي العام في لبنان، قياساً الى حضوره في الوسط المسيحي. وعلى قاعدة ولاء الجمهور السني المديني ولاء عاماً وفضفاضاً للناصرية عشية احداث 1958 وفي اثنائها وبعدها، وإبان الوحدة المصرية - السورية، استقطبت الأجهزة والإدارة الشهابية وجهاء وأعياناً من الصف الثاني في العائلات والأحياء السنية، وجعلتهم ركناً إسلامياً لحكمها الذي حظي بمباركة ناصرية لا تخلو من التحفظ. اما التيارات القومية العروبية الأخرى المنظمة، ك"حزب البعث العربي الاشتراكي" و"حركة القوميين العرب"، فكانت تستقطب الشبان المتعلمين من سنّة المدن والأرياف. وإذا كان الولاء القومي العروبي، في الوسط الأهلي والشعبي كما في أوساط المتعلمين، قد شكل حاجزاً منيعاً بين المسلمين السنّة عموماً، وبين إقبالهم على الانتماء إلى التيارات اليسارية غير القومية، فإن هشاشة الولاء للقومية العربية في الوسط الشيعي سهلت انتماء متعلمين وأبناء عائلات دينية شيعية الى "الحزب الشيوعي اللبناني"، بعد ترك بعض هؤلاء الأبناء المشيخة والعمامة حسين مروة، وغيره من معممي آل شرارة. وهذا إضافة الى أن التيارات القومية الأخرى خصوصاً "حزب البعث العربي الاشتراكي" كان له حضوره المشهود في اوساط المتعلمين وأبناء العائلات الشيعية، كآل الأمين وشرارة وبيضون وغيرهم. لكن توسع القاعدة الاجتماعية للتعليم في الوسط الشيعي في العهد الشهابي، معطوفاً على تفكك العلاقات "الإقطاعية" العشائرية القديمة، وعلى النزوح الشيعي الكثيف من الريف الى المدينة وضواحيها، وعلى نضوب الإقبال على طلب التعليم الديني والمشيخة في جبل عامل، إن هذا كله ادى بفئات من المتعلمين والموظفين الشيعة في سلك التعليم غالباً الى تجديد ثقافتها بالخروج على القيم الأهلية والعائلية، وعلى الوعي القومي وأحزابه. وذلك في خضم الطفرة الشبابية اليسارية العامة في الستينات. وإذا كانت الهزيمة العربية الحزيرانية ناءت بثقلها المحبط على التيارات القومية العروبية، وظهرت "البشائر" الأولى للعمل الفلسطيني الثوري المسلح، فإن مروحة واسعة من المتعلمين الشيعة والسنّة بنسبة اقل ربما راحت تنضوي في دوائر تجمعها الرغبة الملحة في تلقف الأفكار اليسارية والماركسية المتنوعة المصادر والبعيدة نسبياً عن ماركسية "الحزب الشيوعي اللبناني" الكسولة والمستقرة. ومن هذه الدوائر تشكلت "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين" و"حلقة لبنان الاشتراكي" اللتان راحتا تخوضان تجارب "نضالية" متقاربة ومناقشات لتبادل الخبرات والتثقيف الإيديولوجي، ما أدى الى اندماجهما في هيئات وأطر تنظيمية مشتركة في نهاية الستينات، قبل التحامهما في تنظيم واحد، هو "منظمة العمل الشيوعي في لبنان". وفي مطلع السبعينات، وفي ما يشبه طفرة جامحة، شكلت هذه المنظمة الاندماجية المحور الفاعل لليسار اللبناني الجديد في الجامعات والمدارس الثانوية وفي بعض الأوساط العمالية والحرفية والأطر النقابية والتحركات المطلبية في الشارع. مصائر اليسار اللبناني الجديد الأرجح ان ما سمي "منظمة العمل الشيوعي في لبنان" كانت في أطرها التنظيمية شبه المفتوحة، الرجراجة والقلقة، مختبراً ايديولوجياً وثقافياً وحياتياً، أو دائرة كبرى، واسعة وجامعة، ل"العلانية العامة"، راحت تستقطب وتجذب إليها فئات شبابية عريضة ومتنوعة البيئات الاجتماعية والثقافية والطائفية، فتقيم بينها جسوراً للتعارف والتبادل والتداول والاختلاط في لبنان ما بين نهاية الستينات وعشية الحرب عام 1975. كأن هذه المنظمة كانت في نشوئها وطفرتها المحمومة، الثمرة المحلية الأبرز في البلدان العربية للحركة الشبابية والطلابية التي ظهرت في اوروبا وعلى المسرح العالمي في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. وهي الحركة التي أطلقت احلام الشباب الغنائية والرومنطيقية الصاخبة في التعبير والإنشاد الجمعي، وفي "التغيير" و"الثورة الدائمة" ضد "الثقافات التقليدية" و"الإمبريالية" والاستعمار ونهب شعوب العالم الثالث الفقيرة، ولمناصرة حركات التحرر الوطني في فيتنام وكوريا وفلسطينوكوبا. لكن ما هي السمات والملامح المحلية لهذه الحركة في نشاطها على مسرح الحياة العامة في لبنان، وما هي مصائرها؟ يشار اولاً الى أن بروز هذه الحركة المشهود في السبعينات تزامن مع ظهور فئة جديدة من الشباب المسيحي في الحركة الطلابية. كانت هذه الفئة من بيئات اهلية ريفية ومصادر اجتماعية شعبية "عصامية" جذب توسع التعليم الجامعي في المدينة ابناءها الذين اختطوا لأنفسهم اغنية وحلماً ونشاطاً خارج الأطر اليسارية التقليدية الحزب الشيوعي والجديدة، وخارج "حزب الكتائب اللبنانية" المتصل نشاطه عضوياً بالوسط الاجتماعي والأهلي المسيحي. ومن تلك الفئة من الشباب نشأت "حركة الوعي - جبهة الشباب اللبناني" التي ظهرت على مسرح الحياة الطلابية في الجامعة اللبنانية، وانطفأت مع بداية الحرب في لبنان عام 1975. أما الجماعات الشبابية المسيحية المتحدرة من فئات متوسطة وميسورة، وصاحبة الميول اليسارية الجديدة، فكانت "معاقلها" الأساسية في معاهد التعليم "العلماني" الخاصة معهد الآداب العليا، معهد الرياضيات العالي، التابعان لجامعة ليون في فرنسا، ومدرسة الليسيه الفرنسية والمدرسة والمعهدان في منطقة واحدة هي منطقة المتحف، على "طريق الشام" في بيروت. فبول أشقر الذي كان طالباً ثانوياً في "مدرسة الجمهور" في العام الدراسي 1967 - 1968، حمله ضيقه بالأجواء السائدة في تلك المدرسة انظمة صارمة، عدم اختلاط بين الجنسين، إدارة مدرسية رهبانية على طلب الانتقال الى مدرسة "الليسيه الفرنسية" في بيروت منطقة المتحف، حين كانت تتكاثر حلقات "اتحاد الشيوعيين" بين الطلاب، وتقوم بأنشطة ولقاءات مشهودة تستجيب لرغبات شبابية في الاختلاط والتفتح الشخصي الحر. وفي تلك الحقبة بين نهاية الستينات ومطلع السبعينات، كانت تلك الحلقات اضافة الى نظائرها في "الإيكول دو ليتر"، تجمع ما بين 200- 300 شاب وفتاة، على ما يقدّر أشقر، وذكر منهم نخلة مطران، سمير فرنجية، اليكو بيضا، سليم نصيب، احمد الحسيني، غسان فواز، خليل شميل، ونواف سلام... وطقوس الحياة اليومية وشعائرها في تلك الحلقات كانت تخلط بين اقامة حفلات موسيقية وسهرات ولقاءات، وبين القيام برحلات جماعية بالباصات التي ترفرف عليها اعلام حمراء الى عيترون في جنوبلبنان، دعماً للمقاومة الفلسطينية ضد الجيش اللبناني بعد صداماته الأولى مع المسلحين الفلسطينيين. والمدخل الى القضية الفلسطينية في مخيلة تلك الحلقات كانت الثورة الكوبية والفيتنامية. ف"فلسطين كانت فيتنامنا"، على ما قال بول أشقر. وفي مناسبة مرور سنة واحدة على "ربيع براغ" واجتياح الدبابات السوفياتية تشيكوسلوفاكيا أضرب طلاب "الليسيه الفرنسية" استجابة لدعوة "جبهة القوى الطلابية" F.F.E. الناشطة فيها وفي "معهد الآداب العليا" و"معهد الرياضيات العالي" وفي هذا الأخير كان توفيق الهندي طالباً، قبل سفره، لاحقاً، الى فرنسا لمتابعة دراسته في الرياضيات. وعلى ما ذكر أشقر ان طلاباً من F.F.E.، قاموا برشق شاشة "سينما الحمراء" في شارع الحمراء بالبيض، لعرضها فيلم "القبعات الحمر" الذي رأوا انه يقدم "دعاية اميركية" ضد الثورة الفيتنامية. اما في أعياد رأس السنة فكانت جماعة طلاب ال F.F.E. تحيي حفلات راقصة مشهودة يشارك فيها عدد كبير من الشبان والفتيات المولعين بأغاني "البيتلز" و"الرولينغ ستون". ولشدة ما كان هذا التيار الطلابي فاعلاً وحاضراً راح يثير سخط الطلاب الكتائبيين الذين شكلوا في مواجهته، إبان صدامات الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين، "عصبة انصار الجيش" لمواجهة طلاب الF.F.E. المناصرين للفلسطينيين. وقد دفع السخط مرة الطالب الكتائبي بول عريس الى القول: "نحن ماركسيين لكن لبنانيين". وفي مطلع السبعينات راح طلاب "اتحاد الشيوعيين" يلتحقون تباعاً ب"منظمة العمل الشيوعي" التي كانت هيئاتها العليا التنظيمية والإيديولوجية من جماعة "لبنان الاشتراكي" و"حلقة الاشتراكيين اللبنانيين"، ومنهم وضاح شرارة، احمد بيضون، فواز طرابلسي، محسن ابراهيم، عباس بيضون، وحسن قبيسي. اما من لم يلتحق من الاتحاد بالمنظمة الاندماجية، كمي غصوب وأندريه كسبار وجيلبار وبول أشقر، فأنشأوا مجموعة تروتسكية باسم "التجمع الشيوعي الثوري". غير ان بول أشقر مع مجموعة صغيرة عاد والتحق بالمنظمة وبقي فيها حتى العام 1974، وما لبث ان توقف عن النشاط السياسي المباشر. وطوال "حرب السنتين" 1975- 1977 ظل أشقر مقيماً في منزله في محلة زقاق البلاط غرب بيروت المسلم، حتى احتل المهجرون الأكراد البناية التي يقيم فيها، فغادر الى قرية عين عار في المتن، مسقط رأسه، وحيث يقيم اهله. اما ملحم شاوول الذي انخرط في مطلع السبعينات في "منظمة العمل الشيوعي" وتركها لينضم كثيرون غيره الى المنظمات الفلسطينية المسلحة، فقد ظل مقيماً في رأس بيروت حتى "انتفاضة 6 شباط 1984". ومن روافد "منظمة العمل الشيوعي" ايضاً مجموعة من شبان/ طلاب "الحزب السوري القومي" أبرزهم وليد نويهض، جوزف سماحة وحازم صاغية، راحت تتجه اتجاهاً يسارياً ماركسياً في مطلع السبعينات وبعد خروج هذه المجموعة من "الحزب السوري..." نحو 15- 20 شاباً. على ما روى نويهض، سرعان ما تشققت وتوزعت، إضافة الى المنظمة، على "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"فتح". وفي فرنسا، على ما روى سعود المولى وفارس ساسين، كان لليسار الجديد اللبناني، روافد من الطلاب الجامعيين اللبنانيين هناك. وهؤلاء التحقوا مباشرة بالعمل الفلسطيني وتحلقوا حول الكوادر الفلسطينية لمنظمة "فتح" في باريس، كعز الدين القلق ومحمود صالح والياس صنبر وليلى شهيد وابراهيم الصوص. وبعض من عاد من أولئك الطلاب اللبنانيين الى بلدهم في النصف الأول من السبعينات وفي أثناء "حرب السنتين" التحق مباشرة بمنظمة "فتح"، أو ب"منظمة العمل الشيوعي". لكن هذه المنظمة الأخيرة لم تشهد استقراراً ولا ثباتاً في مسارها التنظيمي وثقافتها السياسية والإيديولوجية. ففيما هي تشكل القطب الرئيسي الجاذب لجماعات التيار اليساري الجديد المختلفة المصادر الاجتماعية والمناطقية والطائفية والطبقية والفكرية في لبنان نهاية الستينات والسنوات الأولى من السبعينات، كانت من وجه آخر تشهد خضات تنظيمية وإيديولوجية متلاحقة، منذ نشوئها. وهذا ما يبديها اليوم في صورة "مدرسة" ناشطة لإعداد الكوادر وتخريجهم في المجالات التنظيمية والتثقيفية والإعلامية في تلك الحقبة. فقد ضمت "منظمة العمل الشيوعي" في صفوفها تيارات ايديولوجية كثيرة، قلقة ومتقلبة، تقلب الأحداث والمنعطفات السياسية والاجتماعية المتسارعة التي اصابت المجتمع والدولة اللبنانيين، تبعاً لعوامل داخلية الهجرة من الأرياف الى ضواحي المدن، التداخل الشديد بين التركيب والتفاوت الاجتماعيين والتركيب الطائفي للمجتمع والدولة في لبنان، ولعوامل اقليمية فلسطينية، سورية، وعروبية ضاغطة تغذي العوامل الداخلية وتزيدها احتقاناً. كأنما "منظمة العمل الشيوعي" كانت، في وجه من الوجوه، مرآة مصغرة للأحداث والمنعطفات التي عصفت بلبنان منذ ما بعد هزيمة 1967، وصولاً الى الحرب الأهلية - الإقليمية في لبنان 1975. ويمكن اختصار الثقافة السياسية والإيديولوجية اليسارية العامة التي سادت في هذه المنظمة، في تيارين اثنين عريضين، على أساسهما وهديهما راحت المنظمة نفسها تتشقق وتذوي وتخرِّج كوادرها: - ثقافة يسارية غير قومية استقت روافدها من كل تيارات اليسار العالمي الجديد، خصوصاً الفرنسي والإيطالي منه. واختلطت في هذه الثقافة افكار "اليسار العمالي" و"العمل المباشر" و"البؤرة الثورية" والعمل الشعبي المطلبي في الأحياء المدينية والأرياف. - ثقافة يسارية قومية، قوام بواعثها البعيدة الوصل بين قومية عروبية، شعبية ونضالية، وبين الجماهير الإسلامية العريضة، على طريق السعي الى "تحرير فلسطين"، القضية القومية الأولى. وعلى هدي هاتين الثقافتين اللتين تتقاطعان في بعض مقدماتهما وأهدافهما، كما تتعارضان ايضاً، كانت الأحداث والمنعطفات في لبنان تتجاذب "منظمة العمل الشيوعي" منذ نشوئها، وحتى ايار مايو 1973. وذلك إبان أوسع الصدامات بين المنظمات الفلسطينية المسلحة والجيش اللبناني الذي راح يناصره "حزب الكتائب اللبنانية". وهذا الأخير راح يشكل بعد تلك الصدامات النواة الأولى لميليشياته المسلحة في الأحياء المسيحية، فيما كانت تناصر المنظمات الفلسطينية جماعات كثيرة مسلحة في الأحياء الإسلامية. وفي خضم تلك الصدامات خرجت المجموعة الأكبر والأكثر نشاطاً من "منظمة العمل الشيوعي" التي تحولت بعدها منظمة ثابتة في إطار احزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" بقيادة كمال جنبلاط. اما المجموعات التي كانت تخرج تباعاً من هذه المنظمة وتنشق عنها، وآخرها وأكبرها ما سمي "المجموعة المستقلة" ربيع 1973 وصيفه، فقد تفرقت ايدي سبأ: - أفراد انسحبوا نهائياً من ميدان العمل السياسي، وانصرفوا الى نشاط ثقافي وتعليمي ودراسات عليا في اوروبا. ومن بين هؤلاء ظهرت لاحقاً ثقافة ليبرالية راحت تتلبنن شيئاً فشيئاً، فيما كان لبنان المستقل والموحد يلفظ انفاسه. - جماعات واسعة التحقت بالنضال الفلسطيني المسلح في مختلف تياراته الإيديولوجية وأجهزته التنظيمية والعسكرية والإعلامية وقد كانت هذه الجماعات خليطاً من المسلمين والمسيحيين. لكن الفئة الأوسع من هذه الجماعات ذات المصادر الماوية والشعبوية اليسارية الأخرى، راحت تنخرط في اجهزة منظمة "فتح" المختلفة والمتنازعة، فتنازعتها هذه الأجهزة بولاءاتها وعصبياتها حتى الحملة الإسرائيلية الكبرى على لبنان عام 1982. * صحافي لبناني. غداً: حمى السلاح الفلسطيني.