لقد عادوا. وامتلأت بهم مجدداً الشاشات الرياضية المتخصصة، والملاعب الخضر للكرة المستديرة في كأس أفريقيا 2008 التي انطلقت مبارياتها في غانا أخيراً. عادوا لپ"ينططوا"الكرة بأقدام اللاعبين المحبوبين ويتلاعبوا بأخيلة المشاهدين. إنهم صُنّاع إعلانات الشركات الكبرى التي وجدت في المسابقة الكروية الافريقية مناسبة جديدة لتتمدّد بصور منتجاتها على الشاشات. تجدر الاشارة الى ان احتكار فضائية لحقوق بث تلك المسابقة لم يُثر نقاشاً واسعاً كالذي أثارته حقوق مشابهة في كأس العالم لكرة القدم 2006، ما يوحي بأن حقوق المشاهد البصرية لم تترسخ كموضوع للنقاش العام عربياً، بل ما زالت تخضع للمناسبات في إثارة الاهتمام بها. وكالعادة، لم تكتف تلك الاعلانات بشاشات التلفزة، بل زنّرت الملاعب وصولاً الى وضع لوحاتها خلف الشباك التي تترصدها الأعين بدقة"إضافة الى تحويل أجساد اللاعبين إلى"موديلات"لعرض ملابس وأحذية رياضية من ماركات مرموقة. ويُلاحظ أن إحدى شركات الملابس استفادت من إعطاء الحق الحصري لشاشة معيّنة عربياً، فحوّلت أجساد المذيعين والمعلقين الى واجهة لعرض منتجاتها أيضاً. وكالعادة أيضاً، دلّت هذه الاعلانات على السوق الهائلة التي ترافق كرة القدم الحديثة، والتي يرى بعضهم أنها تتحكم بمصائرها أيضاً. وعلى الشاشة العربية المحتكرة للبث الحصري لهذه المسابقة، تقدّم تلك السوق منتجات لشركات عملاقة في صناعة السيارة"شيفرولية"والخليوي"سوني اريكسون"والكاميرا"كانون"والأجهزة الالكترونية"سامسونغ"والمأكولات"كي أف سي"وپ"تشيبسي"والمشروبات"بيبسي"وپ"غينيس"، إضافة الى الخدمات المالية"ويسترن يونيون"وپ"ستاندرد بانك"وپ"ستانبك بنك"والملابس"بوما"وخدمات الانترنت"تي ايه داتا"والمنتجعات السياحية بورتو السخنة"ومواد البناء"حديد عز"وغيرها. يكاد حال الإعلانات المتلفزة تنطق بالقول ان ما نراه ليس كرة قدم، بل سوقاً تسوّغها بصرياً الساحرة المستديرة، بعدما احكمت الشركات العملاقة قبضتها العاتية عليها. ما تشاهده الأعين ليس كرة بل مصالح وأموال لا حد لسطوتها. والأرجح أن الارتفاع الصاروخي في"أسعار"اللاعبين ما هو سوى جزء يسير من تلك السوق الهائلة. ويلفت الحضور القوي للإعلانات المتلفزة عن شركات الاتصالات الخليوية، التي تولى اثنان منها رعاية منتخبات وطنية عربياً. وبالصوت، يُكرّر الإعلان التلفزيوني لشركة"اتصالات"المصرية التي ترعى منتخب الفراعنة، هتاف"شَجّع مصر"تردده مجموعات تشاهد الكرة في المقاهي والملاعب، ويركّز على عبارة"عيش فِ الملعب، مصر بتِلْعَب". وتركز صُوَره على قدرة الهاتف الخليوي في أن يصبح تلفزيوناً بيد متابعي البث المتلفز للمباريات، إضافة الى استخدامه كاميرا لالتقاط صورها وصنع أشرطة عنها. ويتفق ذلك مع سعي"اتصالات"الى نشر"تلفزيون الخليوي"وغيرها من خدمات شبكات الجيل الثالث التي دفعت الشركة ملايين الدولارات لتنال رخصتها في بلاد النيل. وعلى خطوها، تسير شركة"اتصالات المغرب"، التي يقدمها إعلانها التلفزيوني بصفتها"الراعي الرسمي لكرة القدم الوطنية". ويلفت في ذلك الاعلان بساطة تركيبته واعتماده بصرياً على قميص المنتخب المغربي وألوانها. وعبر الشاشة الحصرية عربياً، أدخلت شركة أخرى لاتصالات الخليوي، هي"فودافون"، اعلانات متلفزة تختتم بجملة"ما تفوّتش لحظة". ويُلاحظ أن تلك الاعلانات تُركّز على لاعبي نادي"الأهلي"المصري، خصوصاً صانع الالعاب محمد أبو تريكة. ففي إعلان له أكثر من نسخة، يظهر عدد من لاعبي الأهلي كأنهم مجموعة من مراهقين أميركيين يتدربون بملابس"كاجوال"في كاراج منزلي. ويبرز بينهم لاعبون يشاركون في منتخب بلادهم، مثل عصام الحضري حارس المرمى وأبوتريكة وعماد متعب قلب الهجوم، وآخرون غائبون عن كأس أفريقيا مثل عماد النحّاس قلب الدفاع وأحمد شديد قناوي ظهير أيسر. وتعطي تلك المجموعة من الإعلانات اهتماماً خاصاً لأبو تريكة أيضاً، الذي يعتبر من أشهر لاعبي مصر والعرب راهناً. ويُذكّر ذلك باختفاء إعلان من صنع احدى شركات الاتصالات الخليوية عن المنتخب المصري ظهر فيه لاعب خط الوسط حسام غالي، الذي لم يلتحق بالمنتخب كما كان مقرراً، لكنه غادر الى انكلترا حيث يلعب محترفاً في أحد الأندية، فترك وراءه نقاشاً كبيراً". والمعلوم أن هذه الشركة ترعى النادي الأهلي، وتضع اسمها وشعارها على أجساد لاعبي ذلك النادي. والتحقت إعلاناتها بالمسابقة الكروية مع التحاق لاعبي الأهلي بمنتخب بلادهم في غانا. صياغة بصرية لخيال الكرة في مطعم إحدى الشركات المشهورة في صناعة دجاج"البروستد"، يتقاسم لاعبا النادي الأهلي محمد بركات ظهير أيمن ووائل جمعة مدافع أيمن علبة من تلك السلع، ويصلان الى آخرها، حيث قطعة وحيدة متاحة لكليهما. يقترح النادل، من دون صوت، أن يتباريا في مهارات الكرة لنيلها. يحمل بركات الكرة ويتلاعب برشاقة ويتناقلها بين أطراف جسده الضامر، كأنه يرقص. ويأتي الدور على جمعة، المتميز بقامته الطويلة وبنيته القوية. فيضع الكرة على طاولة الأكل، ويهوي عليها بضربة رأس ساحقة، فتقفز قطعة الدجاج من قعر العلبة الى الهواء. وتلتقط يد جمعة البروستد ليقضمه، فيما يعطي الى بركات الكرة المتهاوية. ذلك نوع مباشر من الاعلان، ربما يحمل روح المرح، لكنه لا يذهب أبعد من اللعب على القدرات البيولوجية المباشرة للاعبي كرة القدم. تندفع الى الشوارع حشود غرائبية تضم روبوتات عملاقة وفرقاً موسيقية من بلدان مختلفة ومغنين وممثلين ورياضيين، إضافة الى وجوه مختلفة الاشكال والألوان. وتواصل تلك الحشود سيرها لتقف أمام باب بيت عادي. إنها الأخيلة التي صنع منها إعلان عن الانترنت. ويبدو ما يشير إليه الاعلان واضحاً: إنه قدرة الشبكة الدولية على جلب أشياء هائلة التنوّع، بما فيها الترفيه والرياضة والاخبار والاتصال مع الجمهور العالمي للانترنت"وإيصالها الى كومبيوتر المستخدم العادي. ويسير هذا الاعلان في خط تحويل خيال السلع الى شريط مرئي- مسموع، ما يعتبر أمراً شائعاً في صناعة الإعلانات عموماً، خصوصاً المتلفزة منها. وسارت في المنحى ذاته مجموعة من الاعلانات التي نُسجت حول خيال كروي، خصوصاً تلك الهالة الحُلمية التي تُحيط بمشاهير اللاعبين. وفي أحدها، يظهر رجل داكن البشرة كأنه يرأس اجتماع قبلي في غابات بعيدة. وبلغة مستعارة من حكايات القبائل، يتحدث عن افريقيا، وتحديداً عن كأس افريقيا التي نالتها مصر في عام 2006. ويُبدي رهبته من"ساحر"اسمه أبو تريكة، الذي يظهر أثناء تسديده كرة في مرمى أحد الفرق. وقريب منه إعلان آخر استعمل خيال السحر نفسه ليضعه حول ذلك اللاعب ذاته، فظهر محاطاً بدائرة نار متلاعباً بالكرة في عتمة ليل إفريقي. وليست تلك الأشياء غريبة عن صناعة الاعلانات المتلفزة. والارجح انها المرة الأولى التي تستعمل فيها هذه الصيغة من الاعلانات لاعبي الكرة العرب. وقد يرى بعضهم في ذلك ضربة حظ نالها أولئك بفضل السيطرة المتصاعدة للتلفزة على مساحات الترفيه اليومي للناس في العالم العربي. ولعلها تعبر عن استيلاء الخيال التلفزيوني على مساحات أكبر من"البنى الخيالية"، بحسب وصف المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس، في مجتمعات العرب أيضاً. ويُشبه ذلك ظهور بعض الممثلين في الاعلانات المتلفزة عن المسابقة الكروية الافريقية"مثل أحمد السقا وأحمد حلمي"ما يعتبر أيضاً استمراراً للفرصة التي اتاحها الوضع القوي للتلفزة راهناً لظهور الممثلين واستعمالهم في الاعلان المرئي- المسموع.