في البداية، يبدو المشهد مألوفاً: انه نقل مباشر من الملعب لمباراة في كرة القدم. يصاحب اللعب الصوت المألوف للتعليق الرياضي على مباريات كرة القدم، مصحوباً بضوضاء الجمهور. ثم تتقلص الشاشة فجأة، تصبح صغيرة يحملها بين يده: إنها شاشة لتلفزيون الخليوي. يراقب تلك المباراة شاب صغير السن يسير في أمكنة تشبه طريقاً في حي مصري راق. يبدو غافلاً عما حوله، وينظر بثبات الى تلك الشاشة. تصف الكلمات السابقة إعلان لشركة شهيرة في مصر عن خدمة تلفزيون الهاتف النقال. وثمة إعلان لشركة أُخرى، يظهر فيه متفرج على شاشة الخليوي، يراقب مباراة أثناء جلوسه على المقعد الخلفي من التاكسي. ويراود عقله أخيلة من تلك المباراة، يجسدها الإعلان في ظهور حارس مرمى النادي الأهلي عصام الحضري وصانع ألعاب ذلك النادي محمد أبو تريكه، والمهاجم عماد متعب والمدافع شادي محمد. ولا يتردّد ذلك الإعلان في ربط هذا النوع الجديد من التلفزيون بالجيل الثالث من شبكات الخليوي، التي تتميز بالنقل بالحزم العريضة برود باند. وتحرض تلك الإعلانات الدماغ على استعادة ذكريات أخرى عن الهاتف النقّال. ولا يحتاج المرء الى ذاكرة طويلة لاسترجاع المشاهد الأولى لدخول الخليوي الى المجتمع المصري، في تسعينات القرن الماضي. وحينها، سارت الألسنة بالنكات على حملة الهاتف النقّال"بل بدا استعماله في بعض الأمكنة، مثل وسائط المواصلات العامة مغامرة تُعرض صاحبها لسماع سيل من الانتقادات عن التناقض بين"أبهة"امتلاكه الخليوي و"فقر"الحافلة التي يستقلها. وحينها، نُظر الى الخليوي كوسيلة ترف، وكطريقة لإعلان ترفع صاحبه عن بقية"خلق الله"ممن لا يملكون ثمنه ولا يطيقون سداد فواتير مكالماته. من الطريف القول إن كل ذلك بات جزءاً من الماضي"وينظر اليه بعضهم باعتباره رد فعل جماعي على"الصدمة الأولى"التي أحدثها دخول الخليوي الى مصر. ربما ثمة درس مستفاد أيضاً، عن طريقة التعامل مع التكنولوجيا في قبولها ونقدها. فأحياناً، يتصدى بعضهم لكل مستجد تكنولوجي بنوع من رد الفعل المحافظ ضد التجديد والتغيير والخروج عن المألوف وما يشبهها من المشاعر. لذا، فإن نقد التكنولوجيا هو أمر فائق الصعوبة، ما يعني أنه مهم جداً ويجب أخذه بالكثير من التفكير والتبصر والتأمل والتفكير الخلاق. إن نقد التكنولوجيا، وهو أمر مألوف في الغرب، هو مدخل للتعامل الجدي مع التقنية ومعطياتها. ثمة مغزى في هذه المقدمة. فقد مر عقد على"الصدمة الأولى"شهد خلاله الهاتف المحمول في مصر كماً مذهلاً من التغيير. وبات اليوم جزءاً من مقتنيات المواطن العادي في السيارة والباص العام والميكروباص وحتى بعض سكان العمارات يعتمدون عليه كوسيلة للعثور على"البواب". وفي رقم يحمل دلالة لافتة، تشير التوقعات الرسمية في وزارة الاتصالات المصرية إلى احتمال وصول عدد مشتركي المحمول خلال الربع الأول من العام المقبل إلى 30 مليون مشترك. وربما يصلح ما يحمله هذا الرقم من دلالة على انتشار الخليوي، مع ذكريات"الصدمة الأولى"لذلك الجهاز عينه، كمدخل للنقاش عن تلفزيون الخليوي، الذي أصبح موضوعاً لنقاش حساس في مصر أخيراً. وأثار الإعلان عن خدمة التلفزيون الخليوي الكثير من الهرج والمرج في صفوف المصريين من حملة ذلك الهاتف. والمفارقة ان النقاش يبدو وكأنه يصدر، هذه المرة، عن انبهار جمهور الخليوي مصرياً بالتقنية الجديدة التي دقت أبوابهم والمتمثلة في إمكان مشاهدة القنوات التلفزيونية على شاشات الأجهزة التي يحملونها، ولكنهم لا يصنعونها بأدمغتهم لأنها مشغولة في الغرب المتقدم في العلم والحضارة. ويمني كثيرون منهم النفس بأنه إذا استطاع نفر قليل تحمل كلفة تلفزيون الخليوي لاحقاً، فلربما تسير الأمور لاحقاً الى تخفيض تكلفة تلك الخدمة تدريجاً بالترافق مع انتشارها! ومن المعلوم أن تلفزيون الخليوي يستعمل تقنيتين متنافستين:"بث الفيديو للأجهزة المحمولة يدوياً"وپ"بث مواد الميلتي ميديا للأجهزة المحمولة يدوياً". تُعرف الأولى باسمها التقني"ديجيتال فيديو برودكاستنغ"Digital Video Broadcasting، واختصاراً"دي في بي"DVB. وتُسمي الثانية"ديجيتال ميلتي ميديا برودكاستنغ"Digital Multimedia Broadcasting. وتُعتبر الثانية الأقرب إلى مُسمى تلفزة الخليوي أو"موبايل تي في"Mobile TV. والمعلوم أيضاً أن الحصول على تلفزة الخليوي يقتضي اتصال أجهزة الجمهور مع شبكات سريعة، مثل تلك التي توفر اتصالهم بنظام"الدخول السريع إلى وصلات الانزال"High Speed Downlink Packet Access، الذي يُشار إليه بمصطلح"آتش اس دي بي آيه"HSDPA. ويسمح"آتش اس دي بي آيه"للخليوي بإرسال كميات كبيرة من المعلومات مثل التلفزيون ومواد الميلتي ميديا من الانترنت وعقد مؤتمرات الفيديو وغيرها. سؤال مقلق للشاشة الفضية يمثل الخليوي وجمهوره الطرف الأول والأساسي في معادلة تلفزيون الهاتف النقّال. والأرجح أن التلفزيون التقليدي، الذي يعيش مرحلة الفضائيات والبث الرقمي - ديجتال وضمنه التلفزيون العالي الوضوح"هاي ديفينشن"والتفاعلي"انترأكتف"، القسم الآخر من المعادلة عينها. وبعبارة أخرى، كيف يُفكّر صُنّاع التقنية الإعلامية المتلفزة بهذا المستجد التقني؟ وما مدى إدراك العاملين في مجال الصحافة والإعلام التلفزيوني لمعنى مواكبته على صعيد معادلة البث والتلقي التي تتحكم بعملهم؟ وهل تدفعهم هذه التقنية الجديدة إلى تغيير أو تطوير أو تحسين ما يقدمون من مواد تلفزيونية؟ أم أنهم ينوون الاستمرار على المنوال ذاته واضعين نصب أعينهم المشاهد التقليدي القابع على الأريكة المواجهة للتلفزيون؟ أثار السؤال الأخير ضحك المخرج في التلفزيون المصري عمرو عابدين الذي علّق بابتسامة ساخرة عريضة بالقول:"شيء مثير للضحك أن نسأل عن التغيير الذي سيطرأ على محتوى البرامج أو طريقة التقديم أو الشكل العام لأي عمل تلفزيوني بسبب تكنولوجيا التلفزيون المحمول". ويجزم عابدين بلهجة قاطعة"هذا التغيير لن يحدث". ويُبرّر ذلك بأن غالبية المواد التي سيسعى جمهور التلفزيون المحمول إلى مشاهدتها هي مواد درامية من أفلام ومسلسلات وأغان وفيديو كليب. أما البرامج التلفزيونية، فإن الهاتف المحمول ليس الوسيلة المناسبة لمشاهدتها، بحسب رأي عابدين. ويستطرد في تمسكه بالشكل التقليدي للبث المرئي - المسموع، ليقول أن التلفزيون المحمول لن يؤثر على التلفزيون ومتابعة المشاهدين له. ويضيف:"لنتذكر أن التلفزيون هو الأصل... وسيبقى البث التلفزيوني على المحمول خدمة ضمن خدمات أخرى يقدمها ذلك الهاتف للمستخدم، بمعنى أنها ليست الخدمة الرئيسية... وهذا يُعاكس طريقة عمل التلفزيون بشكله الراسخ منذ عقود طويلة". وفي المقابل، يتوقع عابدين أن تنشأ قنوات خاصة بالبث التلفزيوني عبر أجهزة المحمول:"في هذه الحال سيراعي القائمون على أمر هذه القنوات خصائص الوسيلة التي ستعرض فيها برامجها وميزات شاشتها وعلاقاتها مع الجمهور وغيرها من العناصر التي تتحكم بمعادلة البث والتلقي بين صُنّاع الاعلام المرئي - المسموع وجمهوره". في المقلب الآخر من المشهد عينه، ينفي هشام عبدالحميد، مخرج برنامج"90 دقيقة"الذي يذاع على قناة"المحور"الفضائية الخاصة، امكان ظهور هذا الاحتمال تماماً. ويميل الى التأكيد أن تقنية التلفزيون المحمول لن يكون لها تأثير في طريقة تقديم البرامج أو محتواها. كما يعتقد بأنها لن تؤثر في المواد الدرامية من برامج ومسلسلات:"هذه الأشياء تمثل المحتوى البصري لخدمة ترفيهية ومعظم ما يقدم فيها من مواد معد سلفاً بمقاييس ومعايير العمل التلفزيوني... لن يتغير بتغير وسيلة العرض التي قد تكون وسيلة مرتبطة بوقت أو ظروف معينة يشاهد من خلالها الشخص مقاطع أو أجزاء غير كاملة بحكم الظروف الوقتية". ومن ثم لا يتفق عبد الحميد مع زميله عابدين في توقع ظهور قنوات تلفزيونية متخصصة في البث المحمول. من جهة أخرى، يصف عبد الحميد هذه الخدمة التكنولوجية الجديدة بپ"الجيدة"إذ أنها تمثّل"التطور الطبيعي للتقدم التقني والرقمي في العصر الحالي، وهي نتيجة طبيعية وتراكمية للتغيرات الحادثة". ويتوقع عبد الحميد أن تنخفض كلفة هذه الخدمة شأن ما سبقها من خدمات تكنولوجية تتعلق بالكومبيوتر أو الإنترنت أو المحمول. وكذلك يتوقع أن يعتادها المصريون بمرور الوقت، ما يشكل ملامح متفردة لنوعية المشاهدة الخاصة بالتلفزيون المحمول. خيال عن الآتي من البث المرئي - المسموع من جهته، يعطي المذيع الشهير تامر أمين الذي يقدم برنامج"البيت بيتك"اليومي على شاشة التلفزيون المصري، لمستقبل البث المتلفز على الهواتف الخليوية:"هذه التقنية الجديدة تمكنني من معرفة ما فاتني من أخبار سريعة وعاجلة، أما في ما يتعلق بالمشاهدة التلفزيونية العادية... فيظل جهاز التلفزيون"الثابت"هو القناة الشرعية الوحيدة للمشاهدة الحقة". ويؤمن أمين بپ"التخصص"، ويرى أن"التلفزيون للمشاهدة ومتابعة الأحداث والاستمتاع، أما المحمول فللتحدث مع الآخرين، وإن كان له استخدامات أخرى ففي أضيق الحدود وتبعاً للحاجة الطارئة". ويبدو أن لأمين بعض المخاوف من التلفزيون المحمول، إذ يخشى احتمال أن يسلب التلفزيون جانباً من إبداعه، كما يعتقد بأن من شأن الخليوي وتلفزيونه أن يشتت من التركيز في المتابعة التلفزيونية التقليدية. ولا يستبعد أمين إمكان تأسيس قنوات تلفزيونية متخصصة في البث المحمول، إلا أنه ينعتها بپ"البيزنس الخالص". ويميل للقول إنها لن تهدف إلا إلى تحقيق الربح المادي بغض النظر عن أي مكاسب ثقافية أو مجتمعية أخرى. ومن منطلق ضرورة التعامل مع الأمر الواقع بأفضل صورة ممكنة، يميل المذيع في قناة النيل للأخبار المصرية محمد موافي الى القول إن تكنولوجيا التلفزيون المحمول"أمر واقع لا نملك إلا التعامل معه بالأسلوب الأمثل لتحقيق أفضل نتائج منه وتعظيم الفائدة بالنسبة إلى المنتفعين منها". وعلى عكس كل من سبقوه، يؤكد موافي أن التكنولوجيا الجديدة ستؤثر إن عاجلاً أو آجلاً في أسلوب العمل التلفزيوني، على الأقل في ما يختص بطريقة التقديم:"البث التلفزيوني العادي يتسم بالهدوء والرصانة، ونظراً لطبيعة المحمول وصغر الشاشة مهما بلغت من كبر بالنسبة لأجهزة المحمول، سيتحتم على القائمين على صناعة التلفزيون إضفاء المزيد من الحيوية على المواد المذاعة، بالإضافة إلى ابتكار أفكار جديدة للتغلب على صغر حجم الشاشة". ويشرح موافي:"التلفزيون المحمول لن يقلّل نسب المشاهدة التلفزيونية، بل بالعكس من شأن هذه التكنولوجيا أن تؤدي إلى زيادة الإقبال على مشاهدة التلفزيون العادي". ويفسر وجهة النظر تلك في ضوء إيمانه بأن من يشاهد مقتطفات أو أجزاء على الهاتف المحمول، سيشعر حتماً بالرغبة في مشاهدة برنامج ما أو فيلم بعينه شاهد مقتطفات منه على شاشة التلفزيون العادية. ويتفق موافي كذلك مع زملائه من العاملين في التلفزيون على ترجيح تأسيس قنوات خاصة بالبث المحمول، إلا أنه يرجح أن تكون متخصصة في بث المواد التلفزيونية القصيرة والمقتطفات المنتقاة من فيديو كليب ونتائج المباريات الرياضية وما شابه. ويرى، أخيراً، ان"شاشة الخليوي لن تهتم بمتابعة الأفلام والأعمال الدرامية التي تُفقدها الشاشة الصغيرة الجحم الكثير من متعة المشاهدة".