تحتفل قناة الموضة الشهيرة "فاشن تي في" بعيدها العاشر، ويبدو الكلام عليها مكروراً إلى حد السؤال عن جدوى استعادته... بعضه رَفَعَ من شأن هذه القناة معتبراً أياها دليلاً بصرياً متواصلاً"في ذروة عصر التلفزيون وامساكه بأخيلة الجمهور، وبعضه الآخر لا يكلّ من الاشارة إلى صعود المرأة وأزيائها وحضورها ومكياجها وخيالها. ويشهد لتلك القوة النسوية بصرياً أن قناة"فاشن"تحل في المرتبة الرابعة عالمياً، وفي المرتبة الثالثة في الولاياتالمتحدة. وتملك القناة التي تستضيف فرنسا مقرها الرئيس، موقعاً متطوراً على شبكة الانترنت، يُعرّف بأهدافها وعروضها وبرامجها وعارضاتها ومنتجاتها وشركائها التجاريين ومقارها ومكتبتها البصرية، وكذلك يقدم أشرطة مُعدّة خصيصاً لجمهور الخليوي. ويعكس الموقع الذائقة الكوسموبوليتية لهذه القناة التي تبث عبر 31 فضائية متلفزة. وكذلك تملك مقار رئيسية في سويسرا وبولندا وليتوانيا واليابان والبرازيل. وقبل بضعة أشهر، أطلقت قناة موجهة الى الدول العربية "فاشن تي في أرابيا". ومنذ خريف 2006، يرعى مقرها في سنغافورة، قناتها الموجّهة الى آسيا، وهي من أحدث أقنية بثها. مساواة ثمة من لاحظ أن انطلاقة شاشة "فاشن تي في" على يد مايكل آدامز ليزويسكي سنة 1997، ترافقت مع أول مسابقة للروبوتات في كرة القدم"روبو كاب"، ووصول الروبوت الأول"سوجورنر"إلى سطح المريخ، وكذلك تألّق الذكاء الاصطناعي عبر هزيمة لاعب الشطرنج الاسطوري غاري كاسباروف على يد الكومبيوتر"ديب بلو". وتلك أشياء متفرقة يجمع بينها التخلي التدريجي للرجل عن سطوات راسخة تاريخياً، تنطق عن الهيمنة القوية اجتماعياً للذكور. ولعل التبلوّر التدريجي لصورة"عارض الأزياء"، يسير أيضاً في منحى من"المساواة"بين الجنسين. واستطراداً، لعل تلك القناة نجحت في نقل التحدي، في لعبة الاغواء المتجاذبة بين الجنسين، إلى ملعب الرجل أخيراً! ولكن، كل ذلك قيل كثيراً. وفي الاتجاه المُغاير أيضاً، ثم ما جدوى تكرار الإشارة إلى أن"فاشن"هي تلفزيون لصناعة الأزياء وپ"قواها القاسية"، حيث الترويج لشركات الموضة وأثوابها يسير عبر تسليع أجساد العارضات واستلابهن حياتهن؟ يبدو ذلك قولاً ضئيلاً بالمقارنة مثلاً مع القوة الهائلة التي عرّى بها المخرج الأميركي الراحل روبرت آلتمان صناعة الأزياء وإعلامها ومهنها وأقنعتها وزيفها وبهارجها وقسوتها، في فيلمه الشهير"ملابس جاهزة" 1994. إذ يصعب نسيان المشهد الختامي لذلك الشريط حينما ينكشف السر، ويسقط الزيف عن تلك المهنة، فتسير العارضات والعارضون في عري"ينطق"بأن ما تُروّج له تلك العروض هو الأجساد وحيواتها ونضارتها وأخيلتها. إذاً، لنحاول ان نتفرج على شاشة"فاشن"بعين أخرى. لننظر اليها مثلاً، بعين مجموعة من أحداث حلّت بعارضاتها، وهن مادة الفرجة البصرية الاساسية، مثل وفاة الارغوانية إلينا راموس 18 سنة هذا العام، وقبلها شقيقتها لويزل راموس 22 سنة والبرازيلية آنا كارولينا 21 سنة خريف العام الماضي. تصلح كارولينا نموذجاً، وقد أثار موتها بسبب حمية صارمة، رد فعل عالمياً. منحت كارولينا جسدها لشركات"فورد"للسيارات، و"إليت"للأزياء، و"ليكيب"للترويج، بحسب عقود مألوفة في تلك المهنة القاسية. ثم ماتت. وصار موتها شاهداً على وفيات الحمية القاسية التي تفرضها الشركات على الاجساد التي توقع عقوداً صارمة تمنعها من تجاوز الحدود المنحوتة بقسوة للعارضة. وبقول آخر، فإن تلك العقود هي يد الثوب الذي يستولى بها على الجسد، فيفرض عليه مقاييس صارمة ولو بالضد من انسانيته وشروط وجوده البشري البسيط والبيولوجي. الأرجح أنها نموذج من موت الجسد الأنوريكسي في القرن 21. إخفاء الحقائق لننظر إلى تلك الشاشة من زاوية حدث مثل وفاة آنا نيكول سميث 39 سنة التي سارت من ممر العرض الپ"كات ووك"إلى كاميرا الأفلام الاباحية، كما لامست العقد الرابع مثقلة بالمخدرات وعلاجاتها وبالأطعمة الاصطناعية للتنحيف، وهي مما يُستخدم لإدامة رشاقة الجسد، بالتالي قدرته على الاستمرار بالمظهر المتلفز لعروض الأزياء. كيف يُصار الى تغييب سياقات هذه الأحداث في العروض التي تكرّ ليل نهار على تلك الشاشة، التي تصف نفسها بأنها معنية بالموضة والجمال والشكل وصُنع المتعة المُبهجة؟ لماذا يبدو"حدث"الأجساد الميتة للعارضات، باستخدام تعبير المفكر الفرنسي جيل دولوز، بعيداً من السياق الذي تصنعه يوميات البث في تلك الشاشة؟ أي قوة بإمكانها أن تقطع، كأنما بضربة سيف خفي، حدث فناء الأجساد عن مسار حياتها البصرية وهو الذي أوصلها إلى موت يشبه استنفاد الجسد بالانوريكسيا والادمان وأفلام تسليع العلاقات البشرية الأكثر حميمية، وقبلها بعروض الأزياء؟ ولعل ذلك يصلح مدخلاً للإجابة عن أسئلة أخرى: كيف تستمر شاشة للتلفزة بكل هذا التكرار الظاهري؟ ما الذي يصنع الفارق في التكرار اللانهائي لعروض الأزياء، وللاقدام السائرة بتقاطع على ممر"كات ووك"؟ ما الذي يصنع الفوارق الفائقة الرهافة، والتي تستطيع ان تصنع فارقاً بصرياً، بحيث تتجدّد الفرجة ويتجدّد الاستيلاء على العيون والسطو على المخيلات، وكأن كل بث طازج ويحدث للمرة الأولى؟ الأرجح أن ثمة قسوة هائلة تنجح البهرجة البصرية لقناة"فاشن"في إخفائها خلف مشهد الضربات المرهفة لفرشاة المكياج على الوجنات، وللتفنّن في مُلاعبة الأوهام في المسافة بين الثوب والجسد. تصنع تلك التلفزة، يومياً وعلى مدار الساعة، كرنفال المدينة الحديثة بالاحرى خيالها في الأزمنة الحديثة وأجسادها. وإضافة إلى القسوة المنثالة من رهافة الثوب والأجساد والنظرات، تكرّر"فاشن تي في"انتاج ميل متوحش في الظاهرة التلفزيونية لالتهام البشر ووجوهها وحضورها، كأنها"زومبي"مُعاصر يسعى دوماً لالتهام جسد نضر يتكرر دوماً، ويتجدد أبداً. وفي سرعة كبيرة، لم تعد أسماء العارضات تصنع هالات، فيما سارت أسماء مثل ناعومي كامبل وكلوديا شيفرز وسيدني كراوفورد بسرعة إلى ظل الأساطير.