"موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها" كان عنوان آخر محاضرة ألقاها العلامة محمد عبدالله درَّاز في مؤتمر الأديان في لاهور في باكستان في كانون الثاني يناير سنة 1958، إذ وافته المنية أثناء عقد المؤتمر، حيث كان يمثِّل الأزهر. ولد دراز عام 1894، وتلقى تعليمه في معهد الاسكندرية الديني، وتخرج في الأزهر عام 1916، ثم تعلم الفرنسية بمجهود شخصي ويكتب فيها مدافعاً عن الإسلام ضد مهاجميه، درَّس في الأزهر إلى أن ابتعث عام 1936 إلى فرنسا لتحضير الدكتوراه، فالتحق بالسوربون لدرس الفلسفة والمنطق والأخلاق وعلم النفس والاجتماع، وكان من أساتذته ماسينيون وليفني بروفنسال ولوسن، ثم شرع في الإعداد لرسالة الدكتوراه في بداية الأربعينيات حول"دستور الأخلاق في القرآن"وناقشها في 15/12/1947 ونال بها درجة الشرف العليا، وكان أعد رسالة أخرى حول"التعريف بالقرآن". وكان له نشاط واسع في فرنسا أثناء إقامته، فأسهم بفاعلية في أنشطة"نوادي التهذيب"التي أسسها الجزائري الفضيل الورتلاني والتي اهتمت بتعليم اللغة العربية ونشر مبادئ الإسلام ومحاربة الرذيلة في صفوف المسلمين المقيمين في فرنسا، كما كان على اتصال بالعلماء الجزائريين العاملين في فرنسا وداخل الجزائر، فضلاً عن صلاته مع المصريين المقيمين في باريس والدارسين فيها. وفي مصر انتدب إثر عودته لتدريس تاريخ الأديان في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة فألقى فيها عدداً من المحاضرات في تاريخ الأديان، دعاه لإلقائها صديقه الدكتور علي عبدالواحد وافي، رئيس قسم الاجتماع في الكلية، وكان من ثمرات محاضراته فيها كتابه"الدين: دراسة ممهدة لتاريخ الأديان"، وألقى في كلية دار العلوم محاضرات في تفسير القرآن الكريم، وكان كتابه المتميز"النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن"، ويقال إنه لم يكتب هذا الكتاب بيده، وإنما جمعه تلامذته من محاضراته، وقلما تجد كتاباً أو دراسة في مجال الإعجاز البياني لم تُشر إلى هذا الكتاب أو تُثني عليه. كما درس فلسفة الأخلاق في كلية اللغة العربية، وكتب فيها رسالة موجزة، سماها"كلمات في مبادئ علم الأخلاق"، فضلاً عن أطروحته الشهيرة حول الأخلاق في القرآن. وأسند إليه الكثير من أعمال اللجان اللجنة العليا لسياسة التعليم - اللجنة الاستشارية للثقافة في الأزهر - المجلس الأعلى للإذاعة، عضوية جماعة كبار العلماء، إضافة إلى عضويته في المؤتمرات الدولية ممثلاً لمصر والأزهر، وترك 14 كتاباً وبحثاً. وللشيخ دراز أثره في تلاميذه، فمنهم الشيخ يوسف القرضاوي الذي أشاد به ضمن مذكراته، وأخذ عنه حسن البنا فكرة التفسير الموضوعي، كما كان له دور بارز في القضايا الوطنية والاجتماعية، وقد تدخل مرات عدة لدى شيخ الأزهر لمصلحة تلاميذ ابن باديس، الذين راسل في شأنهم ابن باديس علماء الأزهر لتأمين دراستهم، كما كانت بينه وبين الأستاذ مالك بن نبي مناقشات وسجالات فكرية أثناء إقامته في مصر. لم يترك الشيخ دراز مؤلفات كثيرة، لكنها كانت نوعية ومتميزة، لما فيها من عمق وإضافة، منها: النبأ العظيم، الدين، التعريف بالقرآن، دستور الأخلاق في القرآن، المختار من كنوز السنّة. وله رسائل عميقة في موضوعات كتبها للمشاركة في مؤتمرات علمية، مثل رسالته عن الربا التي قدمها لمؤتمر الحقوق الدولي في باريس سنة 1951، ورسالته عن"الإسلام والعلاقات الدولية"ورسالته عن"موقف الإسلام من الأديان الأخرى"، وله كتب شرع فيها، وظهر منها بعض الملازم ولم يكملها، مثل كتاب:"الميزان بين السنة والبدعة"، كأنما كان يريد أن يحدِّث به كتاب"الاعتصام"للشاطبي - بحسب تلميذه الشيخ القرضاوي -. هذا ويمكن اعتباره في العصر الحديث أول من حاول استخراج المذهب الإسلامي في الأخلاق من خلال القرآن، وكان هدفه الرئيس في أطروحته إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من القرآن من الناحيتين النظرية والعملية، وكان يحاول فيها أن يسد ثغرة في مؤلفات علم الأخلاق العام، إذ وجد فيها قفزاً من الوثنية الإغريقية إلى أديان اليهودية والمسيحية إلى العصور الأوروبية الحديثة مع إغفال ما يمس علم الأخلاق القرآني، وما وجد من محاولات استشراقية كانت تلفها أخطاء ترجع إلى الترجمة أو التلخيص السيئ، فكان هدفه الصريح"ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوروبية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للاخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا". أما المكتبة الإسلامية فهي الأخرى كانت تعوزها مثل دراسته هذه، إذ يرى أن كتب الأخلاق فيها كانت إما نصائح عمليه هدفها تقويم الأخلاق، وإما توصيفاً لطبيعة النفس وملكاتها ثم تعريفاً للفضيلة وتقسيماً لها، ترتب غالباً على النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وربما تعاقب المنهجان معاً كما في كتاب"الذريعة"للأصفهاني وفي كتب الغزالي. وما وجد من مقاربات لقضايا أخلاقية في العلوم الإسلامية كالحسن والقبح والمسؤولية والأخلاق الصوفية، فإنها كانت أفكاراً متناثرة في مختلف المذاهب، وكانت تصدر عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، والقرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة شاهداً أو برهاناً على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها، وكذلك الشأن في الأخلاق العملية التي لم تحظ بتأليف متماسك. فهاجس التأليف المنهجي والتصنيف الجامع المأخوذ من القرآن الكريم كان همه الأول، لكنه عالج المسائل الأخلاقية بحسب المفاهيم التي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين، فدرس النص القرآني باحثاً عن سمات الواجب وعن طبيعة السلطة التي ينبعث عنها الإلزام أو التكليف، وعن درجة المسؤولية الإنسانية وشروطها، وعن طبيعة الجهد المطلوب للعمل الأخلاقي، والمبدأ الأسمى الذي يجب أن يحفز الإرادة للعمل، فاستخلص صيغاً تجيب عن سؤاله الجوهري: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟ فصاغ من عمله ما يمكن اعتباره إضافة نوعية في دراسة النظرية الأخلاقية في الإسلام. هذه الإضافة في دراسة الأخلاق لا تقل عنها أهمية إضافته العلمية في دراسة علوم القرآن والتفسير وكذلك دراسة الأديان، فكانت كتبه متميزة تمثل حلقة لا يمكن إغفالها في الدراسة العلمية لموضوعها، وهي جديرة بالإحياء والمتابعة، وكذلك نشر ما لم ينشر من أعماله ورسائله أو إعادة نشر ما طبع منها، على ألا يكون هذا أقل الوفاء له بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته. * كاتب سوري