كيف تقضي ليلتين في فندق تركي جيد المستوى في الوسط التجاري لإسطنبول، ومن دون أي معرفة باللغة التركية سوى ذلك"الرنين"الذي تسمعه من أهل البلد؟ اليد على الريموت كونترول لتُقلّب ثلاثين محطة، هي كل ما جادت به شاشة ذلك التلفزيون المتوسط الحجم، الذي يبدو كعين رمادية تحدّق بالسرير طوال الوقت. في تلك المحطات، لا تسمع اللغة الانكليزية إلا في 4 أقنية:"سي أن أن"هناك"سي أن أن"أخرى بالتركية، و"بي بي سي"و"بي بي سي برايم"و"سبور تي في". يلفت أن قنوات مثل"يوروسبور"الرياضية الأوروبية و"فوكس"و"سي ان بي سي"الأميركيتين و"ناشيونال جيوغرافيك"و"ديسكوفري"تنطق بالتركية. ثمة قنوات مشابهة بالعربية بالنسبة الى القنوات الثلاث الأخيرة. وهناك قناة وحيدة تنطق بالألمانية. بينما تتحدث المحطات الباقية كلها مثل"تي آر تي"1و2و3"و"كي آر آيه ال""و"هابير تورك""و"كنال تورك""و"باور تورك"وغيرها بالتركية. تعرض بعض المحطات الناطقة التركية مثل"تي آر تي 2"و"تي في 8"و"آن تي في""أفلاماً أميركية مُدبلجة إلى تلك اللغة، وتنطق باللسان عينه مسلسلات مثل"فريزر"و"فريندز"و"كينغ أوف أول كوينز"و"سكس آند ذي سيتي". تتبادر إلى الذهن فوراً قلّة المسلسلات والأفلام الأجنبية المُدبلجة إلى اللغة العربية، في مقابل وفرة المسلسلات المكسيكية الناطقة بلغة الضاد! ما الذي يجعل تلفزيونات العرب"مُضربة"تقريباً عن دبلجة الأفلام والمسلسلات الأجنبية، خصوصاً الأميركية، على رغم شيوع اللغة الانكليزية دولياً في ظل عولمة تقودها أميركا بلسان انكلوفوني. لعل أطرف ما قيل في هذا الصدد ذات مرّة، أن غياب الدبلجة هدفه تشجيع اتقان اللغة الانكليزية! ويعرف من يزور دول أوروبا، حتى تلك التي كانت جزءاً من المعسكر السوفياتي السابق والتحقت بالركب الغربي منذ قرابة عقدين من الزمن، أن شاشاتها وكذلك صالات سينماتها تمتلئ بالمواد السمعية - البصرية الأميركية المُدبلجة باللغة المحلية. وعليك ان تُصدق أن الدول الأوروبية، التي تشيع فيها دبلجة المسلسلات والأفلام الاميركية والانكليزية بما فيها تلك التي تُعرض في صالات السينما، قليلة الحفاوة بأن يتقن أهلها اللغة الانكليزية، وأن العارفين بتلك اللغة في تلك البلاد هم أقل ممن يتقنونها في الوطن العربي، أو أن أوروبا هي أبعد ثقافياً وحضارياً عن الانكليز والأميركيين من بني عدنان وقحطان! تبدو حجة الإحجام عن الدبلجة بهدف نشر الانكليزية في ربوع بلاد العرب أقرب إلى النكتة السمجة، والى التبرير المتعجرف والمختبئ خلف"تغريدة"إنشائية، مما هي تبرير واقعي للأمور. يذهب الذهن إلى شيء مُعاكس من نوع أن انتشار الدبلجة يقتضي انتشاراً واسعاً للغة الانكليزية في أوساط العاملين في تلفزيونات العرب وفضائياتهم وكذلك استديوات السينما أيضاً. وربما كان إتقان النخب الإعلامية اللغة الانكليزية عاملاً يساهم في تعريف أبناء العرب تلك اللغة، أكثر من الاكتفاء بالقلة من المترجمين الذين تظهر أعمالهم في السطور البيض التي تلتمع أسفل الشاشات عند عرض المسلسلات والأفلام التلفزيونية الانكليزية على الشاشات الفضية العربية. وكذلك يخطر في البال فوراً أن أفلام الكرتون المصنوعة بالاسلوب المعروف باسم"الأحياء بالكومبيوتر"أي"كومبيوتر أنيميشن"تروج فيها الدبلجة بما في ذلك استعمال اللهجات العربية المحلية وترحب بها عيون الناشئة العربية التي يُلاحظ ميلها القوي لالتقاط اللغة الانكليزية! واستطراداً، يُذكّر ذلك بقوة حركة الترجمة، وخصوصاً عن الانكليزية، في الدول الأوروبية مقابل هزالها في الوطن العربي كما برهنت عليه مجموعة كبيرة من التقارير والدراسات. وتكفي زيارة عابرة لمكتبة في مدينة بولندية اقليمية، مثل فراتسلاوف، لتلحظ العين الحركة النشطة من الترجمة تتابع ما يصدر باللسان الانكلوفوني، بحيث يُترجم ما يظهر من سلاسل الكتب العلمية شبه المتخصصة في عالم الكومبيوتر مثلاً، بعد فترة وجيزة من صدورها في الولاياتالمتحدة. وتلك مفارقات جديرة بنقاش واسع. ما الذي يبقى في الذهن بعد ليلتين في اسطنبول؟ يبقى أن تركيا لم تُفكر، الى الآن، في صنع فضائية تركية تنطق بالعربية وتوجّه إلى بلاد الدول العربية على نحو ما تفعل ايران وفرنسا وأميركا وروسيا التي تجمعها وبلاد أتاتورك علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية تتعاظم باضطراد. ما الذي يمكن قوله أيضاً بعد ليلتين من"التلفزة التركية"؟ من المستطاع الإشارة إلى أن قناتي"كي آر آيه أل"و"باور تي في"تعرضان فيديوكليبات تركية، تثير مشاهدة بعضها سؤالاً في الرأس عن سبب تقاربها مع مجموعة من أشرطة الفيديو كليب العربية! بل يمكن مدّ الملاحظة عينها على كثير من الأشياء في تلك الصناعة المرئية - المسموعة منها أوضاع الأجساد وعلاقاتها خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأنثى والملابس وطريقة صنع"قصة"الشريط وطريقة التعاطي بصرياً مع الفئات العمرية المختلفة وغيرها. هل هي مجرد مصادفة أم أننا نصل قريباً للقول ان نسبة الفيديو كليب التركي في ما تصنع أيدي العرب ربما ليست أقل من نسبة الموسيقى التركية وألحانها ومقاماتها في الموسيقى العربية؟ وقد نشأ التقارب الموسيقي من تجربة تاريخية فيها الاندراج المشترك في مُكوّن سياسي وثقافي واجتماعي، فهل تفتح الأشرطة المرئية - المسموعة باباً أمام تفاعل من نوع آخر أو لتجارب في السياسة من نوع آخر؟ مجرد أسئلة عابرة...