إذا نظرتَ إلى شذر الحياة البشرية وتأملت في طبيعتها أكثر تجد قلة من ينظر إلى يقين الأشياء، ولا جرم أن هذا الأمر يحتاج منا إلى رياضة نفسٍ وعقلٍ وجسد، ولعلني بدأت بالنفس لأنها هي المبتدأ والرغبة الجامحة حينما تهوى أشياءها الخارجية من مأكل ومسكن ورفاهية، وكل هذه المعطيات إذا لم تجعل العقل حاضرًا؛ سوف تتحكم بوجودك المطلق وتسلب منك إرادتك وتضعفها، فالعقل مركز الأشياء وحاكم النفوس الثلاثة التي بجسد الإنسان. فالجسد مادة والمادة دون عقل، ورغم أن بعض المفكرين أشاروا بوجود عقل للجسد ولكنه وضيع محدود الإرادة! أي أن هناك عقل أسمى مطلق يتصل بكل ما هو عظيم كالأجرام السماوية حينما نُحدق فيها من خلال عيوننا نُجذب إلى سحرها وإلى بريقها النوراني. إنها قصة مفصلية بين الشعور الأرضي والشعور العلوي وهل بينهما اتحادٌ وحلول؟ إنها الفكرة إذا جانستها في مخيلتك ومن ثم تنغرس في عقلك الباطن تحلق في وجودك الأعلى وتشاهد نفسك كأنك في علياء السماء مسافرٌ بين آمالك البعيدة. هذا الشعور هو سفرٌ بين العقل والحق؛ لا بد لهذا العقل أن لا ينسى أصله الأول المرتبط في ملكوت السماء الذي خرج منه منذ لحظة الانعتاق، ذلك الذي يسمى الانفجار الكبير تنافرت شظاياه منذُ مليارات السنين؛ وهذا على الصعيد العلمي الفيزيائي المادي المحض، ولكن في مفهومنا المثالي فنحن موجودون وراء طبيعتنا أي قبل أن نتطبع بطبائع المادة ومؤكد أنها قابلة للفساد فهي حادثة وليست قديمة متقدمة، فجل الموجودات صدرت من القديم خالق العقول والنفوس. حيث هناك ثمة أشياء نسترجع إليها قبل الولوج في هيكل الماضي، أن لا نمكث فيه وقتًا طويلًا؛ لأن العقل الخالص يمنعنا من ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ). فالشواهد كثيرة في الحفاظ على النفس من انفصامها عن جادة الصواب، فالعقل هو مستودع النبأ الصحيح في اختيار طريق يؤدي نحو الاهتداء نهو الرعاية الإلهية، فالعقل الأسمى هو المرشد الذي يخبرنا ذلك الحدس الداخلي ولا أقول الحدس الخارجي أي المتعلق بالأشياء المادية من حولنا كسحبٍ مثلًا أو شجر وغيره فهذه المعطيات متعلقة بفكرنا الزمني، إنما فكرنا الروحي مختلف اختلافًا كُلياً سوى المنطقة الوسطى أي الرابطة الوجودية بينهما وهو الشعور اللحظي بالآنية، ولا خلاف في ذلك عندما أدرك هذا الإدراك وأستخرج لحظتي من صراع الأضداد وأتصالح مع كينونتي منطلقاً من إيمانٍ عميق هو في صلب القلب بل هو لبه في اتخاذ وسيلة مؤدية إلى عملٍ متقن فيه إصلاح ما تركته الأعوام الزمنية أو أشياء يستجد بها لخلق صيرورة ماكثة على الدوام. فماذا يعني إذًا أن أكون مطلًا من شرفة الزمان إلى شيءٍ أقدس مما أنا فيه؟ هل هو شعورٌ بالدونية أي الدنيا التي أعيش في أحضانها، ماكثٌ فيها يُخيل إليَّ أني بلا حراك؟ كلّا.. ليس هذا هو المراد بل لأن الإنسان على نفسه بصيرة، في كل حركاتنا المتحركة نقف في محطة للتأمل ثم نطلق عناننا إلى زوايا عديدة هي روح العقل؛ لها رغبتها الجامحة للحركة؛ ثم إلى محراب السكون ثانيةً، حتى ينجلي الليلُ ويخرج النهار مبصرًا لقصةٍ جديدة.