استعادت الدار البيضاء مدينة الستة ملايين نسمة خلال 4 أيام زمن الفرح، بعدما قضت أسابيع طويلة من طغيان ثقافة الموت والقتل على أيدي انتحاريين في الأحداث الإرهابية الأخيرة. وتقاطر آلاف الشباب للاستمتاع بموسيقاهم الصاخبة من"راب"و"هيب هوب"وموسيقى إلكترونية"روك - ميتال"و"فيزيون"التي قدمتها 32 فرقة مغربية و17 فرقة أجنبية من لبنان وجنوب أفريقيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا وبريطانيا وسويسرا وأميركا، في إطار فاعليات الدورة التاسعة لمهرجان"بوليفار"للموسيقيين الشباب في الهواء الطلق على حلبتي ملعب النادي الأولمبي وملعب الراسينغ الجامعي، انسجاماً مع هوية المهرجان المتمردة على القاعات المغلقة والرسميات، وترجمة لاسمه"البوليفار"، أي الشارع والفضاء العام المعانق لرحابة الحياة والأمكنة. ومن دورة إلى أخرى، يحظى"البوليفار"بإشعاع أكبر في المغرب وخارجه، ويستقطب جمهوراً أوسع وتجارب موسيقية أكثر، وينفتح على نشاطات موازية، مثل تجريب المزج بين الأصناف الموسيقية الشبابية، وعرض أفلام موسيقية وندوات ومسابقات، لتطوير كل أشكال الإبداع الفني البديل وتربية الذوق الفني الشبابي، لكي يحتمي بالموسيقى في اللحظات الحالكة. فالشاب الذي يحمل القلم ليخط به كلمات وأنغاماً، ويحمل القيثارة أو العود، ليس هو ذلك الشاب الذي يلجأ إلى مخاصمة محيطه، أو تفجير نفسه وقتل الأبرياء، حينما تنسد أبواب الأمل أمامه، لأنه لا يملك القدرة على تفجير طاقاته الإبداعية! ولأن شباب اليوم تربى على موسيقى صاخبة وعنيفة مستفزة لجسده، تدمج الصوت والصورة الثابتة والمتحركة، أدرج المهرجان فقرة حول الأفلام الوثائقية الموسيقية، وهو تقليد جديد بدأ في الدورة الثامنة. وزاوج"البوليفار"بين المتعة والفائدة، وتخللت العروض الموسيقية ندوات طرحت إحداها موضوع"اللغات والتكنولوجيات الحديثة"لأهميتها في حياة المراهقين والشباب، وخصوصاً الهاتف المحمول والانترنت. وتناولت الندوة كذلك ظاهرة انتشار لغة تواصل هجينة بين الشباب، هي خليط من العامية المغربية والعربية الفصحى والفرنسية والإنكليزية، تنصب أكثر مواضيعها حول العلاقة بين الجنسين، سواء في غرف الدردشة أم في المنتديات. ولم يفت المشاركين الاعتراف بنهل الشباب موسيقاهم من كنوز"النت"، لأنها تقدم خدمة مجانية، لا تثقل كاهل موازناتهم المحدودة! وعادت الدورة الثامنة من خلال معرض للصور كان علامة بارزة في دورة 2006، لتنعش ذاكرة الحضور باللحظات التي عاشوها جميعاً مع مصور شاب فرنسي معروف باقتفائه أثر المهرجانات الموسيقية الشبابية الأكثر بروزاً، ونشر جديدها في المجلات المهتمة بالموجات الموسيقية. وحدهم الشباب قادرون على إنتاج كل هذا الصخب والحركة والتعدد في 4 أيام... والذين خانتهم حيوية الشباب، كان بيدهم الاستنجاد بمجلة"الكناش"تعبير مغربي دارج يعني المدونة أو الدفتر لاستكشاف مجريات المهرجان ونبضه، والتحرك في غمار نشاطاته المتنوعة بحسب الاختيار وبأقل جهد، مع إمكان قراءة مقالات تحليلية عن ظاهرة ما يسمى الموسيقى البديلة المغربية، تطورها وروادها وأهم أحداثها ومحطاتها. وتعبر هذه المجلة عن تطلعات جيل من الشباب يطالب بوسائل إعلام تخاطبه بلغة الشارع أو"البوليفار"، أي لغة حياته اليومية التي تحمل معاناته وأحلامه وتنفس عن هواجسه ومخاوفه، وهو يخرج من عالم الصغار الحالم لاقتحام عالم الكبار المعقد. ومنذ أن رسخ مهرجان الموسيقيين الشباب وجوده في عالم الكبار تحتضنه وزارتا الثقافة والشباب الذي أدرك أن هناك شباباً يحتاج فسحة مكان وزمان للتعبير عن نفسه بطرقه الخاصة، أصبح المهرجان يحظى بتغطية إعلامية واسعة في وسائل الإعلام المحلية والدولية "بي بي سي"و"فرانس3"و"إي آر تي"الفرنسية الألمانية، وأصبح أبطاله الكثيرون يجدون أنفسهم على صفحات كاملة من الجرائد والمجلات، يتخللون أخبار الساعة على شاشات التلفزيون والإذاعات، ويحظون بمقابلات صحافية خاصة، تضعهم في مصاف نجوم الموسيقى الحاليين، ولو لزمن يسير. إلا أن أيام المهرجان ليست كلها صخباً وفرحاً، فهناك السكان المجاورون الذي يشتكون من كثرة الضجيج وامتداده في الليل، والتعرض لمضايقات واعتداء على ممتلكاتهم من بعض الشباب المنحرف الذي يجد في المهرجان فرصة للخروج من مخابئه المظلمة. وهناك من يعترض على التوقيت المتزامن مع فترة الامتحانات السنوية، وينتقد آخرون فيه جانب التغريب وبعده عن أصالة الموسيقى المغربية، ومحاولة توجيه طاقات الشباب نحو نشاطات تدور في أجواء مشجعة للانحراف والرذيلة... وكل هذه المؤاخذات موجودة على مكتب السلطات المحلية التي منعت هذه السنة ولوج الشباب سنهم دون ال 16، وأمامها المزيد من المسؤوليات حتى توازن بين رغبات الشباب ومصالحهم العليا وقيم المجتمع وهويته في عالم مفتوح، لكنه يشبه القرية الصغيرة.