عندما دعتني الزميلة الإذاعية سميرة الأشهب الرئيسة السابقة لمصلحة الموسيقى في الإذاعة الوطنية في الرباط للمشاركة في برنامجها الأسبوعي المباشر عن الموسيقى المغربية، اقترحتُ عليها أن أصطحب معي الى الاستوديو أعضاء مجموعة"الفناير"المراكشية الشابة، التي سبق لها أن فازت العام الماضي بجائزة"شارع الموسيقيين الشباب"في الدار البيضاء. سألتني سميرة التي كانت تريد تخصيص تلك الحلقة لدرس علاقة الأغنية المغربية بالجمهور:"هل هذه الفرقة معروفة؟"أجبتها:"طبعاً معروفة. فحفلاتها في مراكشوالدار البيضاء تستقطب بين عشرين وثلاثين ألف متفرج". طبعاً الصحافيون يبالغون أحياناً، هكذا فكرت سميرة الأشهب. فقد كان واضحاً من صوتها على الهاتف أنها لم تصدقني. أما أنا فكنت أعرف أن للموسيقى معنى ضيقاً جداً لدى إذاعتنا الوطنية المحتضن الرسمي للأغنية المغربية بحسب زعم العاملين بها. مع ذلك، حافظَتْ سميرة على درجة من اللطف أثناء الحوار وسمحت لمحسن تيزاف عضو"الفناير"جمع فنار بالحديث مباشرة على أمواج الإذاعة. لكنَّ أحد حراس الأذن الموسيقية المحنطة ممن شاركوا معنا في تلك الحلقة واستفزته على ما يبدو ملابس أعضاء الفرقة الذين رافقوني، لم يُخفِ استياءه من اعتراف الإذاعة بمثل هذه الأشكال واستضافتها. كما لم ينس تذكيرنا في نهاية الحلقة بأن من المستحيل أن تقبل لجنة الكلمات في الإذاعة الوطنية مثل هذا الكلام"الساقط"الذي يريد هؤلاء الشبان"المارقون"أن يلوثوا به مشهدنا الفني النظيف. فاجأني أن أعضاء الفرقة لم يردوا إطلاقاً على الاتهامات القاسية التي وجهها لهم ذلك الضيف الكريم. لذا تصديت شخصياً للدفاع عنهم باعتبارهم شباباً اختاروا أسلوبهم الخاص في الفن والحياة. أسلوب يبدو أنه قد نجح في صقل أرواحهم وترويضها وتحصينها ضد العنف. لأنني صراحة لو كنت في عنفوانهم وعضلاتهم وتلقيت نصف ذلك التعريض، لوضعت الأخ الكريم في سلة وهربت به إلى أقرب زقاق غير مُضاء لأرد عليه براحتي. نبتة برّية ليست مجموعة"الفناير"سوى نبتة برية لافتة للانتباه وسط حديقة النبات الشوكي المذهلة التي عرفها المغرب الفني مع بداية الألفية الجديدة. موسيقيون شباب اختاروا الراب والهيب هوب وبدأوا يمارسون عشقهم لهذه الاختيارات الفنية الشبابية بحرية قبل أن يجدوا أنفسهم مدعوين إلى قاعات المحاكم فيما عُرف قبل سنوات بمحاكمة"عبدة الشيطان"التي سيتحول اسمها بعد الإفراج عنهم إلى محاكمة"الموسيقيين الشباب". ولأن المحاكمة التي استحوذت على اهتمام الرأي العام المغربي لبضعة شهور، أنصفت هؤلاء الشباب، فإنهم سيمارسون المزيد من التغلغل في الشارع المغربي الذي أجاد احتضانهم. وجاءت تظاهرة"شارع الموسيقيين الشباب"التي تنظمها مجموعة من جمعيات المجتمع المدني وبعض المنابر المغربية المستقلة التي تؤمن بحق الشباب في التعبير عن نفسه بالطريقة التي تناسبه، لتؤسس أحد أكبر الاحتفالات الموسيقية المغربية التي لا علم للإذاعة والتلفزيون بها. في الدورة السابعة لشارع الموسيقيين الشباب التي احتضنها كل من ملعب"الكوك"وملعب"الريك"في الدار البيضاء قبل أيام فقط، تألقت"الفناير"من جديد بأغانيها التي تستلهم الموسيقى الشعبية المغربية بمختلف ألوانها وإيقاعاتها وتقدمها في حلة جديدة بآلاتها الموسيقية الغربية الحديثة: الغيتار، الساكسو، التشيلو.. قدمت"الفناير"هذه المرة أغنيتها الجديدة"ما تقيسش بلادي"لا تنل من بلادي التي تحتجّ بروح شبابية عاشقة للحياة على دعاة الموت والتطرف وتدين تفجيرات 16 أيار مايو التي تعرضت لها الدار البيضاء قبل سنتين."هوبا هوبا سبريت"أيضا كانوا هناك. مجموعة من مكناس تمزج الفولك بالريغي والكناوي، ويعتبر أعضاؤها أنفسهم مخلوقات موسيقية غير مُعرَّفة. تحاول هذه الفرقة عبر أغانيها التعبير عن هموم الشباب وانشغالاتهم الحيوية. أما الشكل الموسيقي الذي يقترحونه فهو"الحيحة ميوزيك"أي موسيقى الصخب والفرجة والاشتعال. مجموعة"آش كاين؟" أي: ماذا هناك؟ التي تولي أهمية خاصة للبحث واجتهاد الموسيقيين كانت بدورها على الموعد. صحيح أنّ أعضاء هذه الفرقة يعتبرون مضمون الكلمات عنصراً أساسيا في أغانيهم مثلهم مثل بقية فرق الراب والهيب هوب الأخرى، لكنهم يصرون على تقديم أنفسهم كموسيقيين بالأساس."نحن موسيقيون ولسنا متخصصين في صناعة الضجيج والفوضى كما يتهمنا البعض"، يردد الديدجي خالد قائد المجموعة التي يقوم عملها على المزج بين عدد من الأجناس الموسيقية المختلفة: غربية وشرقية. فحينما تمتهن الموسيقى تنبت لك أجنحة سرية تحلق بعيداً هناك حيث لا حدود. ولهذا تحرص فرقة"آش كاين"بشكل خاص على الجانب الموسيقي. إنهم يحاربون المشككين في تجربتهم بالمزيد من التألق في مجال البحث والأداء الموسيقيين. ويبدو أنهم قد نجحوا في كسب هذا الرهان. المشكلة تكمن فقط في العقليات المحافظة التي ما زالت غير قادرة على استيعاب أن هؤلاء الشباب مغاربة بدليل بطاقة الهوية أولاً، والإيقاعات والألوان الشعبية المغربية التي أجادوا توظيفها في بحثهم الموسيقي والتحام كلماتهم بالشارع المغربي وهموم المغرب العميق ومشكلاته التي يتجنبها مطربو دار الإذاعة والتلفزيون. أعضاء"هوبا هوبا سبريت"لهم ما يضيفونه في هذا الصدد. لنأخذ رأيهم:"إن كل موسيقى أبدعها فنانون مغاربة هي موسيقى مغربية. هناك الراب، الروك، الراي، الشعبي، الكناوي، العيساوي، العلاوي، الغرناطي، هذه كلها ألوان قريبة منّا يبدعها فنانون مغاربة، لكنها لا تحظى مع ذلك باهتمام التلفزيون. نحن نحترم الفنانين الرواد مثل عبدالوهاب الدكالي وعبدالهادي بلخياط، لكننا نرفض أن نجعل الأغنية المغربية حكراً عليهم، فيما يضعوننا نحن خارج الإطار ويصنفوننا ضمن الموسيقى الغربية فقط لأننا نستعمل الغيتار والباتري. نحن أيضاً فنانون مغاربة ولنا جمهور بالآلاف. ففي"بولفار الشباب"ما قبل الأخير، حضر 50 ألف شخص، لكن المنتجين والموزعين والتلفزيون غابوا جميعاً عن التظاهرة. لكن هذا كله لا يكفي لإلغائنا". طبعاً سيكون من الصعب إلغاء الظاهرة فقط بتجاهلها. ففي الدورة السابعة من"البوليفار"شارع الموسيقيين الشباب التي احتضنتها الدار البيضاء أخيراً، تجاوز عدد الفرق التي قدمت طلباتها من أجل المشاركة السبعين. وكان الجديد هذه المرة هو دخول الصبايا على الخط من خلال فرقة"ميستيك مودس"البيضاوية التي تضم خمس صبايا نجحن في انتزاع واحدة من أهم جوائز البوليفار هذه الدورة. أما الجمهور الشاب الذي يتابع هذه الفرق ويتنقل من مختلف المدن المغربية إلى الدار البيضاء أو مراكش أو مكناس لمتابعة عروضها، فهو جمهور يشبه أعضاءها من حيث السن والوَلَه واللباس. شباب في سراويل جينز فضفاضة وملابس رياضية غربية، إضافة إلى قمصان لاعبي كرة السلة الأميركيين، من دون أن ننسى الملابس الداخلية ذات الألوان الفاقعة. وصبايا جميلات بأحذية عسكرية ضخمة وتنورات جلدية يرتدينها فوق سراويل الجينز. بعضهن يضعن فوق رؤوسهن قبعات قروية من تلك التي ما زال يعتمِرُها أحبابُنا البدو حينما يزوروننا في المدينة، فنخجل منها ومنهم. لكن الصبايا يحرصن من خلالها على إضفاء اللمسة المغربية على لباسهن الغريب. طبعاً نجح هؤلاء الشباب في أن"يُمَغرِبوا"الهيب هوب باستلهام الإيقاعات الشعبية الكناوية والغيوانية وألوان العيطة الشعبية في أغانيهم. وأيضاً بكتابة نصوصهم انطلاقاً من لغة الشارع المغربي الحية والعارية، المنفلتة وغير المُروَّضة. في ما يتعلّق بالثياب، تقول ياقوت التي كانت ترقص أمامي في حفلة"هوبا هوبا سبريت"التي احتضنها فضاء"باب إغلي"في مراكش قبل أسابيع،"أنا مغربية أصيلة من أسرة فاسية عريقة وأحب الهيب هوب، فأين المشكلة؟". صحيح... أين المشكلة؟