اللوحة الاستشراقية أحد مظاهر الاستشراق الفني، الذي تجلى في الرسم والأدب والموسيقى، والذي ساهم بالاستناد الى الأساس الذي بني عليه"الاستشراق الجديد"في وضع الحدود الجديدة للشرق والغرب، وفي تكوين المعرفة الجديدة للغرب بالشرق التي تمهد للسيطرة عليه. وكان الاستشراق الأوروبي قد أخذ بعد بداياته الأولى في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث تأسست أولى كراسي الدراسات العربية الإسلامية وأقسامها في هولندا وايطاليا وألمانيا وفرنسا وانكلترا، في اكتساب منحى إيديولوجي جديد مع تنامي الروح الأوروبية الجديدة بعد انحسار الخطر العثماني خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتحول نحو النزعة الامبراطورية الامبريالية التي تحتاج الى ما يشرع سيطرتها على أطراف العالم. وفي هذا السياق أصبح من الواضح، بالاستناد الى كتاب ادوارد سعيد"الاستشراق"، كيف ان المعرفة الجديدة المؤدلجة الاستشراق الجديد وظفت في خدمة القوة الجديدة للسيطرة على"الشرق"الذي كان على الاستشراق أن يصفه وفق معايير معينة. كان للاستشراق الفني، دوره في تخييل"الشرق"وفي تكريس الصور النمطية السلبية عنه. ومن الصعب هنا أن نفصل اللوحة الاستشراقية عما مهد لها سواء في شمال المتوسط أو في جنوبه من أحداث وتطورات جديدة. وفي هذا الاطار لا بد من ذكر دور ترجمة غالان ل"الف ليلة وليلة"خلال 1704-1711، والاقبال الكبير على طبعاتها اللاحقة، في خلق وتكريس صورة نمطية عن"الشرق"في المخيلة الشعبية: الدموي، المضحك، الساذج، المتعصب دينياً، المادي، الحسي، الخ . وفي ما يتعلق بالخارج، جنوب المتوسط، فقد كان لحملة نابليون بونابرت على مصر 1798-1801 وما آلت إليه دور كبير في الاهتمام الجديد بالشرق. وفي هذا السياق كان لوصول محمد علي باشا الى الحكم في 1805 وانفتاحه على فرنسا وصولاً الى اتفاق 1814 أثره الكبير في فتح أبواب مصر أمام عشرات الكتاب والفنانين الأوروبيين، حتى أنه بلغ عدد الفنانين الفرنسيين فقط الذين زاروا الشرق في النصف الأول للقرن التاسع عشر حوالى 150 فناناً. ومن الواضح أن الأحداث السياسية والاكتشافات العلمية كان لها أثرها ايضاً في اندفاع المزيد من الفنانين الى الشرق. ففي ذلك الحين 1831-1841 كان محمد علي يجتذب بحروبه في المشرق مع الدولة العثمانية اهتمام بعض الكتاب والفنانين به وبمشروعه، ويثير بدوره"المسألة الشرقية"على المستوى الديبلوماسي التي أدت الى التدخل العسكري الأوروبي في المنطقة خلال 1840-1841، كما أن الاكتشافات العلمية الأولى في وادي النيل وبلاد الرافدين اجتذبت بدورها عشرات الرسامين لتوثيق هذه الاكتشافات. يمكن الحديث عن اللوحة الاستشراقية ودورها في تخييل وتكريس الصور النمطية عن"الشرق"في النصف الأول للقرن التاسع عشر من خلال الأسماء المعروفة التي برزت في هذا المجال مثل ف. فوربان وأوغست جيل روبير وأوجين ديلاكروا وهوراس فرنيه وغيرهم. وهكذا بعد غرو الذي مهد للاستشراق الفني برز أوغست جيل روبير بتأثيره على الجيل الجديد من الفنانين الاستشراقيين ديلاكروا وجيريكو وفرنيه. وزار روبير الشرق اليونان وتركيا وبلاد الشام ومصر في 1817 وأثار الاهتمام بعد عودته سواء بأحاديثه أو لوحاته عن الشرق. والمهم هنا أنه مع روبير يبدأ التوجه في اللوحة الاستشراقية نحو الغرائبية في العالم، وبخاصة في إبراز الجانب الخفي المتعلق بالمرأة الذي كان يرتبط بالصور النمطية السلبية عن الحريم والجنس. الثورة اليونانية في 1821 دخلت بسرعة في اعمال كبار الفنانين الاستشراقيين آنذاك كديلاكروا في لوحته"مذبحة هيوس"وآري شيفر في لوحة"آخر المدافعين عن ميسولنجي"وغيرهما. ويلاحظ هنا في هذه اللوحة اشارات وايحاءات واضحة حول ثنائية الشر- الخير والشرق- الغرب والإسلام - المسيحية. وفي شكل عام يمكن القول ان اللوحة الاستشراقية في النصف الأول للقرن التاسع عشر قد ساهمت بدورها في ما أراده الاستشراق الجديد: انتاج معرفة مبتسرة عن جزء متخيل من العالم باسم"الشرق"مع صور نمطية عما فيه من خراب وعنف وتعصب وخواء واسترخاء الخ تبرز للقوة التي تقف وراء هذه المعرفة على تحقيق أهدافها في ذلك"الشرق". ولكن في الوقت الذي وصلت اللوحة الاستشراقية الى أوج تأثرها في منتصف القرن التاسع عشر كانت أوروبا تشهد بداية ثورة معرفية جديدة نتيجة لاكتشاف الصورة الفوتوغرافية التي غدت تنتج معرفة جديدة بالشرق كما هو عليه في الواقع. الوصول الى هذا الاكتشاف استغرق عقوداً عدة من التجارب في فرنسا الى أن نشر هنري تالبوت بلندن في 1844 كتابه"قلم الطبيعة"الذي دون فيه خلاصة تجاربه وطريقته في طبع الصور وهي التي لا تزال الى اليوم أساس فن التصوير الفوتوغرافي. ولم تمضِ سنوات حتى تأسست في لندن"الجمعية الفوتوغرافية الملكية"التي عنت بعقد المؤتمرات الدورية لتوصيف ماهية الصورة الفوتوغرافية وعلاقتها بالفن. وبعد حوالى ربع قرن سمح تطوران آخران لهذا الاختراع الثوروي ان يواصل زخمه وتأثيره على المستوى العالمي. في 1878 سمح استخدام الجيلاتين بدلاً من الكولودين في ألواح التصوير في تحقيق سرعة تصوير قياسية واجراء تظهير الصورة في أي وقت وليس عقب التصوير مباشرة كما في السابق. وفي ذلك الوقت أيضاً بدأ انتاج آلات التصوير الجديدة التي يسهل حملها، مما شجع على الاقبال عليها وانتشار التصوير والصورة الفوتوغرافية في العالم. وكما كان الأمر مع الرسامين من قبل فقد شجع هذا الاختراع الجديد الكثير من المصورين على السفر الى الشرق، بعدما أصبح من السهل حمل آلات التصوير الى هناك وتظهير الصور بسرعة، حيث عادوا بحصيلة معرفية جديدة عن الشرق مقارنة ب"المعرفة"التي كانت توفرها اللوحات الاستشراقية. ففي 1839 كان بروسبير ميريميه و"لجنة الآثار التاريخية"في باريس أول من تنبه الى أهمية هذا الاختراع الثوروي لخدمة علم الآثار. وأشار العالم آراغو بهذا الصدد الى أن العمل لنسخ آلاف النقوش الهيروغليفية في معابد طيبة وممفيس والكرنك كان يحتاج الى سنوات وفرق من العمل لانجاز ذلك، بينما أصبح الآن بوسع مصور واحد أن ينجز ذلك بمفرده من دون أي خطأ. وفي ذلك العام تم تصوير الأماكن المقدسة في فلسطينالقدس والناصرة، التي ظهرت في باريس منذ 1841 لتثير الاهتمام بدورها وتفتح الطريق امام ما أصبح يسمى"الرحلة الكبرى"للمصورين التي أصبحت تنطلق من انكلترا وفرنسا وايطاليا باتجاه اليونان وتركيا وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا. وهكذا بعد أن قام جورج سكين كيث بتصوير البتراء في 1844 انطلق أرنست بينيك الى زيارة بلاد الشام في 1852 ولحقه جيمس غراهام واغسطس سالزمان في 1854، ثم جاء ريفرند أ. إساكس في 1856 وجون أنتوني في 1857، وولهلم هامرشمدت في 1859. وفي هذا الاطار لا بد من الاشارة بشكل خاص الى المصور الروسي المقيم في لوزان غابرييل دي رومين الذي رافق الغراندوق الروسي قسطنطين، ابن القيصر نيقولا الأول، في رحلته الى القدس خلال 1857-1859، التقط دي رومين الكثير من الصور التي سرعان ما صدرت في باريس في"لا غازيت دو نورد"لتثير الاهتمام اكثر بالمشرق كما بدا في الصور الجديدة. البطاقة البريدية ولا بد من أن نتوقف عند جانبين آخرين مهمين في علاقة الصورة الفوتوغرافية بالشرق، وبالتحديد في الدور الذي لعبته الصورة الفوتوغرافية كمصدر جديد ومختلف للتعرف على الشرق، ألا وهما استخدام البطاقة البريدية ودخول الصورة الفوتوغرافية في الصحافة الأوروبية. يمكن القول إن بروز الدور الجديد للبطاقة البريدية التي تحمل صورة مدنية أو تفصيلاً ما من مدينة في تعريف الأوروبيين بالشرق كما هو عليه انما يرتبط بتزايد الوجود الأوروبي الأفراد والشركات والجيوش في الشرق نتيجة للتطورات التي تلاحقت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر فتح قناة السويس، الاحتلال الانكليزي لمصر، ارساء الحماية الفرنسية على تونس، الخ. ومع هذا الحضور الأوروبي المتزايد في المنطقة يلاحظ أن هذا"الاختراع"الجديد البطاقة البريدية قد أخذ يغطي أوروبا بآلاف ثم عشرات الآلاف من البطاقات البريدية التي تحمل الصور الجديدة من الشرق كما لم يعرفه الأوروبيون من قبل. تحولت هذه البطاقات البريدية في العقود الماضية الى مصدر مهم لدراسة التطور العمراني والحياة الاجتماعية في مدن وبلدان معينة كتاب فؤاد دباس"بيروت ذاكرتنا"نموذجاً. أما في ما يتعلق بالجانب الآخر دخول الصورة الفوتوغرافية في الصحافة اليومية فقد كان هذا خلال آذار مارس 1880 في الصحافة الاوروبية بينما تأخر في الصحافة العربية الى 1908. وإذا أخذنا في الاعتبار ما كانت عليه الصحافة الأوروبية من انتشار في ذلك الوقت لأدركنا أن دخول الصورة الفوتوغرافية القادمة من الشرق في الصحافة، وتزايد الاعتماد عليها كقيمة جدية، كان له دوره الكبير بطبيعة الحال في توفير معرفة بصرية جديدة عن الشرق كما هو عليه في الواقع. وبالاستناد الى كل هذا يمكن القول مع تشارلز هنري فافرود ان الصورة الجديدة بالأبيض والأسود قد كسرت الحاجز الوهمي الذي بنته اللوحة الاستشراقية بين"الشرق"وپ"الغرب"، حيث أظهرت هذه الصور الجديدة للأوروبيين وجود تداخل بشري وحضاري في بلدان حوض المتوسط من اشبيلية الى استانبول ومن مضيق جبل طارق الى قناة السويس. فمظاهر المدن والمباني من اشبيلية الى دمشق، وملامح الناس في هذه المدن، أصبحت توضح في الوقت نفسه ما هو مختلف وما هو مشترك أيضاً بين شعوب وحضارات المتوسط لتحل محل الصورة المتخيلة التي كانت عن"الشرق"قبل ذلك. جاءت الصورة الفوتوغرافية في الوقت المناسب، أي حين كانت اللوحة الاستشراقية في أوج نفوذها، لتقطع ما قام به الاستشراق من شرقنة هذا الجزء من العالم باسم"الشرق"ولتنتج معرفة جديدة بالشرق كما هو عليه في الواقع. "بيروت" بونفيس في ما يتعلق بالمشرق لدينا رائد فرنسي دخل في تاريخ الصورة الفوتوغرافية ألا وهو ف.بونفيس الذي استقر في بيروت منذ 1867 مع زوجته وابنه ادريان وأنشأ استوديو هناك في محلة باب ادريس ليصبح خلال أربعين سنة من أهم استوديوات التصوير الفوتوغرافي في المنطقة. وكان بونفيس قد جاء لبنان في العشرين من عمره ضمن القوة العسكرية التي أرسلتها فرنسا في 1860 لوقف الحرب الأهلية هناك، التي ضمت بعض المصورين من بينهم المصور المعروف غوستاف لوغري، ولكنه أحب لبنان وآثر ان يعود لاحقاً مع زوجته وابنه ليستقر فيه. وبعد سنوات عدة 1871 كان بونفيس يكتب ل"الجمعية الفوتوغرافية الفرنسية"أن لديه 591 صورة أصلية عن مصر وفلسطين وسورية واليونان مع آلاف النسخ. ومع انه اضطر للعودة الى فرنسا في 1878 بسبب مرضه الا أن زوجته وابنه ادريان بقيا في بيروت ليطورا العمل في هذا الاستوديو الرائد، الذي أصبح أرشيفاً للصور الفوتوغرافية عن المشرق، حيث ضم مصورين محليين إليه لويس صابونجي وحكيم. وقد بقي هذا الاستديو قبلة الزوار وحاضنة الصور الفوتوغرافية عن المشرق حتى 1918، حين توفيت السيدة بونفيس وآلت ملكيته الى مصور أرمني. وفي الوقت نفسه الذي كان بونفيس يستقر في بيروت 1867 ويحفظها في صور كانت الاكتشافات والتطورات في مصر تجتذب إليها عشرات المصورين الأوروبيين وصولاً الى افتتاح قناة السويس التي خلدتها الصورة الفوتوغرافية. ومع الصور الجديدة عن مصر وبلاد الشام، التي أثارت الاهتمام بطبيعة الحال في أوروبا، أمكن لتوماس كوك أن يعلن في 1869 عن برنامج رحلاته لزيارة وادي النيل وفلسطين وسورية.