لمحة سريعة في زمن مضى، وعالم ولى، وأناس رحلوا، شوارع، وصور شخصية، ومناظر طبيعية، ومبانٍ أثرية من سورية العثمانية، وفلسطين ومصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. صور التقطها المصور الفوتوغرافي الفرنسي الأول وأحد أوائل المصورين الأوروبيين الذين استقروا في الشرق الأدنى. اسمه فليكس بونفيس 1831-1885 افتتح لنفسه "ستوديو" في بيروت عام 1867. وإليه يرجع الفضل في نقل وقائع الحياة اليومية في الشرق الأدنى صوراً فوتوغرافية ولقطات باهرة تدمج الواقع بالشعر والجمال. وهو لم يقدم على هذا العمل وحده، بل شاركته زوجته ليدي 1837-1918 وابنه أدريان 1861-1929. عملت العائلة في "ميزون بونفيس الفوتوغرافي" من 1864 إلى 1916. وكان لبونفيس اهتمام خاص بالتصوير المعماري ذي الأهمية التاريخية، وترجم اهتمامه هذا الى عمل مكثف في مصر واليونان بصفة خاصة. وفي أواخر حياته، أقام شبكة من علاقات دولية بين كل من القاهرة والاسكندرية وباريس ولندن والقدسودمشق وسويسرا. تزوج فليكس من ليدي كاباني في فرنسا في عام 1857، وانجبا طفلين هما فليسي وأدريان. وتخصصت الزوجة في التقاط بورتريهات النساء في الاستوديو في بيروت. وأغلب الظن ان هذا يعود الى العادات والتقاليد التي كانت تمنع الرجال من التقاط صور النساء. وعهد الى زوجها بمهمة إدارة الاستوديو، بينما كان منشغلاً بالتصوير في الخارج. اما الابن ادريان فالتحق بالمدرسة في بيروت، وتمكن من اللغة العربية. وبعد فترة تدريب وجيزة، دخل مجال التصوير الفوتوغرافي مع والديه. وبعد موت والده، آلت إدارة الاستوديو اليه، فأضاف مواهبه الخاصة الى ما تعلمه من والديه. فأضفى حيادية والده الى صور البورتريه، واقترض تقنية والدته الفنية ليستخدمها في الصور الخارجية. إلا أن أدريان سرعان ما هجر عالم التصوير، مفضلاً عليه دخول مجال الفنادق الاكثر ربحاً، ما دعا ليدي الى تكليف ابراهام غيراغوسيان إدارة الاستوديو. ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى تم ترحيلها من بيروت الى القاهرة. أما غيراغوسيان فاستمر في إدارة الاستوديو في بيروت الى 1938. دار النشر في الجامعة الاميركية في القاهرة، اختارت 59 صورة ابيض وأسود من بين ما يزيد على 1100 صورة محفوظة في أشكال مختلفة في أرشيف متحف جامعة بنسلفانيا للآثار والانثروبولوجيا في فيلادلفيا، وطبعتها في كتاب فاخر تحت عنوان "الاراضي العربية: مجموعة بونفيس". من القاهرة التُقطت صورة بديعة للطريق المؤدي الى أهرامات الجيزة في موسم فيضان النيل، واخرى لشارع في منطقة طولون، وثالثة لفرقة راقصة من الفتيات. وكأن الزمن توقف في منطقة خان الخليلي، تبدو لقطة محل لبيع السجاد في عام 1890 كما لو أنها التقطت بالأمس، باستثناء الطرابيش التي يرتديها الباعة. ومن باحة المسجد الأزهر، صورة لمجموعة من الطلاب. وأخرى لجمّال من سيناء، وثالثة لجمال يحمل أحدها هودجاً. ومن القدس، صورة بوابة يافا، وأخرى لحائط المبكى في يوم جمعة، ولقطة بانورامية لطبرية وبحيرتها، وثالثة لدرج يؤدي الى المذبح المقدس في القدس. ومن بيروت وسورية حلاق وزبونه، وفلاحان يلعبان الطاولة. ويبدو أن عائلة بونفيس أولت البورتريه اهتماماً خاصاً في بيروت. فهذه شابة لبنانية، وهاتان شابتان سوريتان في المنزل، ومجموعة سيدات سوريات من البدو، ومجموعة من الجنود اللبنانيين على طريق دمشق. واهتمت اسرة بونفيس بالعمارة في سورية، فهوذا شارع الصالحية في دمشق، وهي ذي باحة منزل الاسطمبولي وقوس النصر في دمشق أيضاً. ويحوي الكتاب سبع صور ملونة للشاطىء الشمالي من البحر الميت، وكمنزل دمشقي من الداخل، وصورة لبيروت، والأعمدة الستة، والعمود المائل في بعلبك، ورعاة من سورية، وسيدتين سوريتين في بيروت. منسق قسم السمعيات والمرئيات في مكتبة والتر ريذر في جامعة واين ستيت في ديترويت الاميركية يلقي الضوء على التقنية التي استخدمتها عائلة بونفيس. ففي هذه الفترة، كان التصوير الفوتوغرافي يؤكد موقعه كوسيلة اتصال، وذلك بُعيد اكتشافه في كل من فرنساوبريطانيا. فالطريقة الفرنسية والمعروفة بالتصوير الفوري كانت وسيلة مباشرة وايجابية تقدم صورة بالغة الوضوح، إلا أن إعادة طبعها مستحيل. وعلى النقيض، فإن الأسلوب الانكليزي كان يسمح بإعادة الطبع مرات عدة، لكن ذلك جاء على حساب الجودة. وفي العام 1850، حدث تطور فوتوغرافي سمح بالجمع بين ميزتي الطريقتين فكانت النتيجة إمكان طبع نسخ عدة بجودة عالية، وهي الطريقة المعروفة ب الكولوديون سائل دبق يخلف غشاء شفافاً صامداً للماء. ويستطرد ريذر شارحاً أن أسلوب الكولوديون كان أبعد ما يكون عن البساطة، والمصور البارع وحده كان القادر على الخروج بنسخ من الصور العالية الجودة. ويشبه ريذر عملية التحميض والطبع تلك باجراء عملية جراحية معقدة. يقول: "تلك الطريقة كانت تتطلب وقتاً طويلاً ومهارة عالية، لكن النتيجة كانت مذهلة". وعن الصور الملونة، يقول ريذر انها لم تظهر في صورة مشرفة إلا في اوائل القرن ال 20. في تسعينات القرن ال 19 اتفق آدريان بونفيس مع شركة سويسرية لتلوين الصور ميكانيكياً. وأطلق على هذه الصور اسم "فوتوكروم" او الصور الملونة. وكانت النتيجة انجازاً اذ خرجت صور ذات تفاصيل دقيقة ملونة. إلا أن ريذر يحذر من أن تلك الصور الملونة اقل صدقاً من الصور الأبيض والأسود، إذ أن عملية التلوين تمت على أيدي أشخاص تنقصهم الدراية بطبيعة المنطقة، ما يعني أنهم اعتمدوا في المقام الأول والأخير على الحس الفني وليس الواقع. وأمضت ليدي بونفيس نحو 50 عاماً في محاولات مستمرة لدهن الورق الذي تحمض عليه الصور بزلال البيض للارتقاء بالنوعية، حتى أنها اثناء ترحيلها من بيروت قالت: "لا أريد أن أشم رائحة البيض بعد الآن". ويتذكر أفراد أسرتها، انها في سنواتها الأخيرة واثناء اقامتها في القاهرة امتنعت عن أكل البيض تماماً". وبعيداً عن البيض تعدّ أعمال عائلة بونفيس تأريخاً معمارياً واثنوغرافياً واجتماعياً لهذا الجزء من الشرق الأدنى. فالاطلاع على مجموعة بونفيس هو بمثابة جولة سياحية ذات أثر رجعي في شرق البحر المتوسط معالم وشعوباً ومدناً، إلا أنها جولة سياحية بعيون أوروبية. ويصف ريذر الصور بأنها احياء للحقب الأخيرة من الامبراطورية العثمانية في تلك الدول قبل ان يمتصها المستعمرون الأوروبيون. ونجحت عائلة بونفيس في تسجيل لمحات من المنطقة - لا تخلو من الجانب الانساني - اثناء ازدياد الوجود الغربي فيها. ولعل صورة محطة العربات بين دمشقوبيروت برهان على التغيير الذي احدثه الوجود الغربي في المنطقة. فالفندق يحمل اسم فيكتوريا ملكة بريطانيا، واللافتة مكتوبة بالفرنسية، وصاحب الفندق اسمه ايطالي ولقبه روسي. ولعل هذه الصورة عكست تحلل الامبراطورية العثمانية مع انتهاء الحرب العالمية الاولى، وانقسامها على يد القوى الغربية. ويشير ريذر الى الصعوبات التي واجهتها عائلة بونفيس في مجال البورتريه، في محاولة لتبرئتهم من الانتقادات الموجهة الى تلك الصور من الناحية الفنية. يقول: "تصوير الاشخاص في هذه البقعة من العالم في ذلك الوقت كان مشكلة. فالتقاليد الاسلامية واليهودية كانت تمنع التصوير الفوتوغرافي. لذا كان من الأسهل تصوير الأفراد القريبين بطبيعة عملهم من الأجانب، او الاستعانة بموديل لتصوير الفئات التي يصعب الوصول اليها. كثيرون من الباحثين يتساءلون: هل صور بونفيس تندرج تحت خانة الوثائق التاريخية، أم الاعمال الفنية، أم التجارة...؟ فالاستوديو كان يبيع الصور للسياح على غرار البطاقات السياحية الشائعة حالياً! وسواء كانت صور بونفيس واحداً من تلك الأنواع، أو كانت خليطاً بينها، فالمؤكد انها أعمال مميزة تتمتع بتقنية عالية التقطها أفراد أوروبيون عاشوا في المنطقة واندمجوا بأهلها ولم يكونوا زواراً عابرين. لذا فإن مجموعة بونفيس تخلو من نكهة التعالي أو روح السخرية التي كثيراً ما تفوح من صور الغربيين الفوتوغرافية لأهل الشرق وبلادهم.