يستضيف المعهد الثقافي الفرنسي في دمشق ابتداء من 24 الشهر الحالي معرضاً للصور الفوتوغرافية القديمة بعنوان "دمشق: صور من الماضي 1840-1918" يترافق مع صدور الطبعة العربية من كتاب الباحث بدر الحاج بالاسم نفسه. وكان المعرض ذاته اقيم في باريس قبل أشهر بمناسبة صدور الطبعة الفرنسية من الكتاب. يعتمد المعرض والكتاب مجموعة شاملة من الصور الفوتوغرافية النادرة التي جمعها الباحث بدر الحاج على مدى سنوات عدة لتصبح واحدة من أهم مجموعات الصور القديمة التي تتناول بلاد الشام خصوصاً ومنطقة الشرق الأوسط بصورة عامة. واستطاع الحاج خلال الفترة ذاتها أن يغني هذه المجموعة بالعديد من الأبحاث والدراسات القيمة التي تربط الصور الفوتوغرافية بالأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في بلاد الشام خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وإذا كان المعرض يتشابه مع معارض مماثلة تقوم على الصور الفوتوغرافية النادرة، فإن الكتاب يشكل إضاءة موثقة ليس لفن التصوير الفوتوغرافي في سورية القرن التاسع عشر فقط، وإنما للخلفيات السياسية الاستعمارية التي حكمت نظرة الرحالة والمصورين الأوروبيين الذين أمّوا المشرق العربي مدفوعين بغايات واستهدافات لا علاقة لها بالبحث العلمي أو الاستكشاف الجغرافي. يرصد بدر الحاج في دراسته الشاملة، وهي المقدمة الضرورية لمجموعة الصور الفوتوغرافية التي يحتويها الكتاب، بداية التصوير الفوتوغرافي في دمشق ابتداء من العام 1840، ويستعرض أهم المصورين الغربيين الذين استفادوا من اختراع اسلوب التصوير الأول المعروف باسم "الداغيروتايب" واستخدموه في بعثاتهم الاستكشافية، وكانت الأولى سنة 1839-1840 بقيادة الكندي من أصل سويسري بيار غاسبار دو لو تبينيير. وكانت الصور الأولى لدمشق بعدسة غوبيل فيسكه الذي ترأس بعثة ثانية انطلقت مع البعثة الأولى. لكن للأسف ضاعت صور فيسكه، غير أن صورة داغيروتايب لدمشق التقطها دو لو تبينيير لا تزال معروفة وهي تعود إلى شباط فبراير 1840. ويمضي الباحث بدر الحاج في استعراض دقيق وشامل وموثق لكل المصورين والرحالة الذين زاروا سورية والتقطوا صوراً في دمشق، ويعود إلى مراجع نادرة وكتب قديمة يحتفظ بها في مجموعته القيمة ليقدم حصيلة ما انتجه ذلك القرن على الأصعدة المختلفة: رحالة وبعثات آثارية وأخرى عسكرية وزيارات المسؤولين الأجانب أمثال أمير ويلز مطلع العام 1862 والقيصر الألماني غليوم الثاني 1898، وصندوق اكتشاف فلسطين، والمصورون المحترفون المقيمون في سورية، والمصورون العثمانيون، والحجاج والمبشرون، والصحافيون المصورون، والمستوطنة الأميركية في القدس، وعلماء الآثار، ورجال السياسة، وأخيراً التصوير الجوي مع بداية الحرب العالمية الأولى. وفي خضم هذه الفصول المتنوعة والمزدحمة بالتفاصيل الوثائقية، يبرز فصلان مهمان هما: أوّل المصورين السوريين، والمصورون الدمشقيون. وهذان الفصلان في الواقع يمكن أن يدرجا في سياق واحد، لأنهما يكشفان عن أن المصورين السوريين بادروا إلى استخدام هذا الفن الجديد بعد أقل من عشر سنوات على ظهوره مع الرحالة الأجانب في المشرق العربي. بل إن أحدهم، لويس صابونجي 1833-1931، كان مخترعاً إلى جانب احترافه التصوير. وتمكن بدر الحاج من العثور على تفاصيل اختراعين له سجل الأول منهما في لندن بتاريخ 21 أيار مايو 1875 وهو عبارة عن "تحسينات على الجهاز المستخدم في طبع الصور الفوتوغرافية"، وسجل الثاني في باريس بتاريخ 28 تشرين الأول اكتوبر 1875 باسم "آلة فوتوغرافية أوتوماتيكية معروفة بالفوتوغرافيا الآلية". أما أول مصور فوتوغرافي معروف حتى الآن فهو عبدالله محمود العظم الذي درس هندسة السكك الحديد في باريس وعندما عاد إلى دمشق سنة 1875 أحضر معه آله تصوير. أما الفصل الأهم في الكتاب كله فهو الأخير الذي أعطاه المؤلف عنوان "الرؤية الاستعمارية". يقول بدر الحاج في مطلع هذا الفصل: "... إن قراءة هذه الصور الآن يمكن أن تتم فقط من خلال استيعاب الاطر السياسية والاقتصادية والثقافية التي التقطت فيها. فهذه الصور لم توجد في فراغ، وإنما هي نتاج مرحلة من المعرفة الأوروبية المنظمة لسورية، كما وأنها تختزن الموقف الغربي تجاهنا تماماً". ويلاحظ الحاج ان توجهات المصورين الفوتوغرافيين الأوائل كانت - بصورة عامة - متناغمة مع الغايات الاستعمارية الأوروبية ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر. ويقول: "إن المصورين الفوتوغرافيين الأوائل، في العقدين الأولين من بدء التصوير الفوتوغرافي 1840-1860، كانوا مهتمين فقط بالتقاط مناظر المعابد القديمة والمواقع التوراتية، وكانوا يتجولون لغايات دينية وآثارية". ويضيف: "ومن ناحية أخرى، فإن معظم المصورين الأوائل لم يبدوا أي اهتمام بالأنماط الحياتية للسكان المحليين، بل كان تركيزهم الأساسي على المعابد القديمة والآثار ... حتى أن عمدة وستمنستر، خلال الاجتماع السنوي لصندوق استكشاف فلسطين سنة 1880، اقترح على الكولونيل كوندور ان كل الصور الفوتوغرافية لفلسطين يجب أن تكون من دون استثناء للمباني والاطلال. ويبدو لي دائماً أن صور المناظر الطبيعية لا قيمة لها إجمالاً". وما أشبه اليوم بالبارحة، فإذا كانت الصورة خلال القرن التاسع عشر هي أبرز الوسائل الإعلامية، فإن المصورين الغربيين عمدوا إلى التشويه المقصود للاساءة إلى صورة السكان المحليين. ويعطي بدر الحاج مثالاً على ذلك: "ويمكن ملاحظة أمثلة متنوعة على هذا التزوير والتركيب الفوتوغرافي في الكثير من أعمال مؤسسة بونفيس ومصورين آخرين. ومثال على ذلك صورة بونفيس لسيدتين جالستين وقد كشفت احداهما عن ثديها، وصورة أحد الفلاحين الفقراء في لقطة هو نفسه كشحاذ في لقطة أخرى، أو ذلك المنظر المركب داخل الاستديو لشيخ يدرس بعض التلاميذ وقد ظهر الجامع الأموي في الخلفية". ومع ذلك، فإن الصور الفوتوغرافية النادرة التي جمعها بدر الحاج ودرسها ونشرها في هذا الكتاب، ويقدمها حالياً في المعرض الدمشقي، "تشكل ذكريات بصرية تجمدت في لحظة زمنية محددة. ومع أنها تحمل المواقف الغربية بكل جوانبها السلبية، فإنها ما زالت الشاهد الوحيد على التغييرات التي أزالت إلى الأبد معالم كثيرة من بلادنا".