لم يشعر المغني الياس كرم، بعد، بأنه أضاع فرصاً كثيرة كان يمكن أن تمنحه أبعاداً نجومية أكبر. بين سورية ولبنان، والأردن أحياناً كان يتقلّب كرم. في الآونة الأخيرة انحسر حضوره في لبنان والأردن الى حدود ضيّقة، ولم تبق أمامه إلا الساحة السورية. أي تضاءل حجم الياس كرم الى المحلي بعدما كان يسعى الى جمهور عربي واسع. ما هو الخلل الذي أدى الى اضعافه بهذا الشكل وهو الذي اخترقت شهرته آفاقاً جيدة في منتصف التسعينات وكان يمكن أن يكون نجماً عربياً خصوصاً بأدائه الأغاني الملونة لبنانياً وسورياً ومصرياً وخليجياً أو بدوياً؟ على رغم اعتبارات الياس كرم الخاصة التي تردّ الخلل إذا اعترف به! إلى الأجواء العامة التي تحكم حركة الإنتاج الغنائي العربي، وحركة الإعلام الفضائي، وحركة الجمهور العربي المَلُول... فإن ثمة من يضع اصبعه على الجرح الأساسي في حال كرم وهو قراره العنيد الذي لا يتزحزح بتلحين جميع أغانيه، جميعها من دون استثناء. من هنا تبدأ القضية، على ان تلاقيها في منتصف الطريق قضية أكثر تعقيداً ربما هي تأثر كرم بصوت وديع الصافي تأثراً يكاد يمحو في بعض المواقف الغنائية شخصيته الخاصة، على رغم مرور ما لا يقل عن عشرين سنة على احترافه الغناء كان ينبغي للتأثر خلالها ان يذوب أو يذوي أو يتحول الى مادة أدائية تتم إعادة إنتاجها أو صوغها من جديد، في قالب خاص. لم يفعل كرم ذلك بل فعل العكس مكرّساً وجود ملامح وديع الصافي الأدائية في صوته، ومعلناً احتكار التلحين لصوته، في أدق مرحلة غنائية وجماهيرية يبحث فيها الجميع عن الخصوصية والتنوع في آن... لا يعترف الياس كرم، حتى الآن، بأن الصافي يسكن صوته من حيث يدري أو لا يدري، وربما من حيث يريد أو لا يريد. ولا يعترف أيضاً بأن ألحانه تتكرر وتدخل في دوامة وأن هناك حاجة الى الاستفادة من ألحان الآخرين التي لا بد من انها قد تفتح مساحات أدائية لم يتنبّه كرم لها من قبل. انهما قضيتان تحاصران الرجل جملة وتفصيلاً ويعتقد بأن مجرد نفيهما ينفي وجودهما! ومع ان كل اغنية جديدة يقدمها كرم يقدم دليلاً اضافياً على وجود وديع الصافي"سعيداً"في صوته، وبرهاناً ثابتاً على مسألة الروتين التلحيني، فإنه يوغل في المكابرة ويرفض الاعتراف ويصرّ على الموقف! ومن أغانيه، ينتقل كرم في الحفلات الغنائية الى الأغاني القديمة التي يدخل بعضها حقاً في خانة الخلود نظراً للمقومات الفنية العالية التي تتميز بها. وبما أن صوته طيّع وقادر على بلوغ المقامات الموسيقية والنغمية المتعددة، فإنه يجيد اداء تلك الأغاني لكن بأسلوب خاص به فيه من أسلوب وديع الصافي وفيه من المبالغة وليس فيه من أسلوب المغني الأصلي للأغنية أي أثر! لا"انت عمري"تبقى"انت عمري"الكلثومية، ولا"سيرة الحب"تحافظ على"سيرة الحب"، ولا حتى المواويل داخل الأغاني تحافظ على هوية منشأها. كله يتغير. كله يتبدل. كله يصبح شيئاً آخر. الياس كرم هو الوحيد الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يتحرك قيد أنملة في ما يفعل. كأنها اقتناعات مطلقة يسمح فيها الياس لنفسه بممارسة هواية التصرف الفني... وبمزاجه. من الصعب ومن النادر جداً ان يعثر المستمع على"نشوز"في أداء الياس كرم، لا في تسجيلاته في الاستوديو، ولا حتى في الحفلات الحية. صوته صلب وصامد وقوي وذكي يعبر المواقف الغنائية المحرجة بأكبر قدر من الاحتراف الرفيع والمهنية البارعة. لا يؤمن ب"النشوز"ولا يعرفه إلا في ما قلّ... ودلّ على ظروف طارئة. ولا يقبل بالخطأ أو بتكرار الخطأ إذا ارتكبه عن غير عمد. فكيف لمن يملك هذه الإمكانات الكبيرة ان يصرّ على"احتلال"وديع الصافي لصوته ردحاً من الزمن، أو أن يعترض على دعوة تناديه الى فك أسر هذا الصوت من الألحان الجاهزة التي يضعها هو... أو لا أحد، أو أن يتخلى عن المبالغات الادائية التي تُفقد الأغاني روحها؟!