خلال ال12 شهراً الأخيرة أثيرت تساؤلات في الأوساط السياسية والإعلامية الكندية، عمّا إذا كانت كندا فقدت صدقيتها كوسيط محايد في منطقة الشرق الأوسط. وقد انتشر هذا الانطباع في المنطقة، وشمل بعض أوثق شركاء كندا الذين يشعرون بأنها ربما تراجعت مكانتها كوسيط محايد ومحتمل في النزاع القائم في المنطقة. ونحن نعتقد، مبدئياً، أن كندا قدمت بصفتها"قوة متوسطة"، ولا يزال بإمكانها أن تقدم مساهمة قيمة في منطقة الشرق الأوسط، من خلال التمسك بدورها التقليدي المتوازن الذي أكسبها احترام دول المنطقة وتقديرها، وكذلك بقية المجتمع الدولي. فهناك المساهمة الكندية المعترف بها دولياً في دعم عملية السلام، وذلك منذ طرح رئيس الوزراء الأسبق لستر ب. بيرسون حلاً مبدعاً لإرسال قوات حفظ السلام إلى المنطقة في خضم أزمة السويس عام 1956. لا شك أن كندا لا تزال تتمتع بمكانة مرموقة على الساحة الدولية، بفضل التزامها بدعم وتشجيع السلم والأمن الدوليين. لقد كان للسفراء العرب فرصة الاجتماع بوزير خارجية كندا بيتر مكاي في أول أيلول سبتمبر الماضي، لمناقشته حول سياسة بلاده تجاه الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف 2006، ووضع حقائق الأمور أمامه من وجهة النظر العربية. وكان الاجتماع في الأيام الأولى لوصولي كسفير لبلادي لدى كندا. وقدمت نفسي إليه كسفير لخادم الحرمين الشريفين في بلاده، يحمل قلبه الدفء لتطوير العلاقات بين البلدين، وهو ما قلت مازحاً أنه انعكس على أجواء كندا التي اتسمت بالدفء على غير العادة، وأنني أطمح إلى أن ينعكس هذا الدفء على علاقات المملكة بكندا، والعلاقات العربية - الكندية بوجه عام. وأوضحت للسيد مكاي أن العرب، على غير ما قال به، لم يقفوا مكتوفي اليدين تجاه ما كان يحدث في لبنان آنذاك، وأن الموقف العربي لا يستند إلى العاطفة، كما قال، بل إن العرب تقدموا بمشاريع عملية للتعامل مع أزمات المنطقة. وأشرت إلى مبادرة خادم الحرمين الشريفين لوقف إطلاق النار بين الطرفين، والعودة إلى تحكيم المنطق، والعمل من خلال القنوات الديبلوماسية. أما عندما يتحقق وقف إطلاق النار فإننا نسعى إلى أن تقوم كندا بتأييد مبادرة الملك عبدالله للسلام، التي تبناها العرب وخرجت باسمهم إلى العالم في مؤتمر القمة العربي في بيروت عام 2002. فالعرب مع السلام العادل القائم على إقامة دولتين متجاورتين تعيشان في سلام ووئام. أما في ما يتعلق ب"حزب الله"و"حماس"اللذين اعتبرهما وزير الخارجية الكندي"حزبين إرهابيين يشكّلان سرطاناً يهدد المنطقة"، فقد أوضحت له أنه لا"حزب الله"ولا"حماس"كانتا في الصورة عام 1982 عندما غزت القوات الإسرائيلية لبنان، ودخلت العاصمة بيروت. وأنه حتى لو نجحت إسرائيل في التخلص من"حزب الله"والقضاء على"حماس"، فإن جماعات أكثر تطرفاً يمكن أن تنشأ طالما أن المشكلة قائمة. لذا فإن القضية التي تواجهها المنطقة ليست"حزب الله"أو"حماس"، ولكن افتقاد هذه المنطقة السلام والأمن والاستقرار. وطالما فشلنا في تحقيق السلام القائم على العدل، فإن المنطقة ستظل مهددة بمزيد من أعمال العنف، ومزيد من التشدد والتطرف، يشكّل تهديداً... ليس فقط للمنطقة العربية، بل للعالم أجمع. وقد رأينا من وزير الخارجية الكندي في نهاية الاجتماع تفهماً لوجهة النظر العربية، التي وعد بنقلها إلى رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر. وجاءت زيارة الوزير بيتر مكاي إلى الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة فرصة له للتعرف على المنطقة عن قرب، حيث قام بعدها بكتابة مقالة عن تلك الزيارة، أوضح فيها تفهمه لحاجة الشعب الفلسطيني للسلام والكرامة، كما أن بعض تصريحاته كانت تبعث على التشجيع، إذ أكد مجدداً مساندة كندا ودعمها لحق الفلسطينيين في"إقامة دولة فلسطينية ديموقراطية قادرة على الحياة والعيش في سلام". مثل هذا الفهم ضروري بلا شك للوصول إلى حل عملي لمشكلة منطقتنا المعقّدة. كما كانت إشارته إلى حواره الصريح مع الإسرائيليين حول مسار الجدار العازل وتوسيع المستوطنات، كعائق أمام تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، موقفاً يحسب له ويقدّره كلا الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. كما أتيحت الفرصة قبل أيام قليلة - تحديداً في 20 /2/ 2007 - للسفراء العرب في كندا للاجتماع مع رئيس الحزب الليبرالي الكندي المعارض ستيفان ديون، الذي حدد سياسة حزبه ودور كندا العالمي كما يراه الحزب الليبرالي في ثلاثة أهداف رئيسة هي: العدالة والسلام، وإذا أمكن... الديموقراطية، أو كما قال:"justice, peace, and democracy when possible"، وأن كندا لم ترسل الجيش الكندي سوى من أجل السلام وليس لأغراض عسكرية. وفي ما يتعلق بالنزاع العربي - الإسرائيلي قال ديون:"إننا أصدقاء لإسرائيل... ونحن كذلك أصدقاء للعرب". فكندا تريد دعم السلام وتقديم العون، وهذا ما سيفعله حزبه. فعلى سبيل المثال، عندما حدث التدخل الإسرائيلي في لبنان الصيف الماضي، طلب ديون كأحد قيادات الحزب الليبرالي البارزين وقتها وقف إطلاق النار. فمع اعترافه بحق إسرائيل في الوجود والأمن، كان رأيه أن التدخل في لبنان لن يساعد في حفظ الأمن. وقد أثبتت النتائج أنه كان محقاً، إذ لم تجن إسرائيل شيئاً من تدخلها في لبنان. وكان هذا الرأي، كما قال، مختلفاً عن رأي رئيس الوزراء الكندي. وأنه عندما يصبح رئيس وزراء لكندا سيقول الشيء نفسه. وأنه ينوي أن يعيد إلى كندا دورها الإيجابي في العالم. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن حكومة خادم الحرمين الشريفين قامت حديثاً بتسهيل انفراج مهم للمأزق الذي كان قائماً بين الفصائل الفلسطينية، من شأنه تمهيد الطريق لعودة الحياة السياسية والاجتماعية في الأراضي الفلسطينية إلى مجراها الطبيعي. فالمبادرة الكريمة التي اتخذها الملك عبدالله بن عبدالعزيز باستضافة اجتماع بين قادة حركتي"فتح"و"حماس"في مكةالمكرمة تكللت بالنجاح، حيث توصل الطرفان إلى اتفاق يضع حداً للاقتتال الداخلي، ويدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، يؤمل بأن تُفضي إلى رفع العقوبات المفروضة على الفلسطينيين من الحكومات الغربية، بما فيها كندا. وفي حين يتعين على الفصائل الفلسطينية نفسها أن تعمل على تسويق هذا الاتفاق الجديد عبر العالم، بغية الحصول على الدعم والمساندة الضروريين، اللذين من شأنهما أن يترجما في نهاية المطاف قرارات برفع العقوبات عن الفلسطينيين، فإن الفرصة متاحة أيضاً لدول مثل كندا لاتخاذ مبادرة جريئة بدعم إعلان مكةالمكرمة. ونأمل بأن تستوعب دول الغرب حجم الجهود التي بذلها خادم الحرمين الشريفين لإقناع الأطراف الفلسطينية بالاجتماع، ومن ثم التوصل إلى اتفاق أزال خطراً كبيراً كان يهدد بمزيد من العنف بين إسرائيل والفلسطينيين. فالاتفاق لم يحقن الدماء الفلسطينية فقط، بل مهّد الطريق لفتح باب المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، بموافقة حكومة وطنية موحدة تحترم كل الاتفاقات التي عقدتها السلطة الفلسطينية، التي سيتولى رئيسها محمود عباس زمام المفاوضات مع إسرائيل. وإضافة إلى إعلان مكةالمكرمة، فإن المملكة تسعى جاهدة إلى تسهيل تسوية سلمية للأزمة السياسية الحالية في لبنان، من خلال حضّ الأطراف المعنية كافة على تسوية خلافاتها من خلال التفاوض. ونعتقد أن هناك أشياء كثيرة تجمع بين المملكة العربية السعودية وكندا، وتشابهاً في الأدوار التي يقوم بها البلدان في السياسة الدولية، وعلى رأس ذلك سعيهما للقيام بدور الوسيط النزيه في المشكلات السياسية العالمية، وإقامة مجتمع دولي قائم على السلام والعدل والاستقرار. كما أن كلاً من المملكة العربية السعودية وكندا لعبت دوراً إيجابياً في المنطقة، كان دوماً محل تقدير الأطراف المعنية واحترامها، وعلى وجه العموم: - إن كلاً من المملكة وكندا تشجب الإرهاب وتستنكره بقوة، بجميع أشكاله ومظاهره، فالمملكة بصفتها مهد الإسلام وقلبه النابض، ترفض بشدة أية محاولة لربط الإسلام بالإرهاب والعنف، إذ إن الإسلام دين السلام الذي يدعو إلى الاحترام والأمن والتعاون بين الشعوب. - وعلى غرار كندا في دعمها للدول النامية، فإن المملكة - وإن كانت هي ذاتها دولة نامية - إلا أنها تقوم بدور جبار في دعم التنمية في الدول الأقل حظاً. فخلال العقود الثلاثة الأخيرة أسهمت المملكة بما يعادل 4 في المئة من إجمالي ناتجها القومي في المساعدات الإنمائية الرسمية، وهي أعلى نسبة بين الدول المانحة في العالم. كما قامت المملكة بالتخفيف من عبء الديون بالنسبة إلى عدد من الدول النامية بما قدره ستة بلايين دولار. - إن المملكة تشدد على أهمية وضرورة جعل منطقة الشرق الأوسط، بما فيها منطقة الخليج، منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. ففي حين أن المملكة تدعم حق الدول في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية، إلا أنها تدعو الأطراف كافة إلى الالتزام بتسوية سلمية للملف النووي الإيراني. ومن الجدير بالذكر أن كندا، مع أنها تمتلك القدرة على الانضمام إلى النادي النووي، إلا أنها تمتنع عن القيام بذلك، الأمر الذي أكسبها صدقية معترفاً بها دولياً، تمكنها من العمل على التخلص من أسلحة الدمار الشامل كافة في جميع أنحاء العالم. وأخيراً... تتابع المملكة ببالغ القلق التطورات الأخيرة في مدينة القدس، إذ يبدو أن هناك عزماً وتصميماً لدى إسرائيل على إثارة المزيد من القلاقل والاضطرابات في المنطقة، من خلال بدء الحفريات بالقرب من المسجد الأقصى، معرضة بنيته التحتية للخطر، مع العلم أن المسجد الأقصى هو ثاني أقدم مسجد في الإسلام بعد الحرم المكي، وثالث أقدس مسجد بعد المسجد الحرام في مكةالمكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينةالمنورة. وإن المملكة تستنكر بقوة هذه الحفريات وأي أعمال استفزازية أخرى، من شأنها التهديد بالتهاب المنطقة من جديد. إن كندا بتاريخها ومبادئها ليست مجرد دولة... بل هي فكرة. فكندا قامت على أساس أنها مجتمع مفتوح يتكوّن من أعراق وأجناس شتى، وأن كل كندي، بغض النظر عن: من أين جاء، له الحق نفسه في العيش بالقدر نفسه من المساواة في الحقوق والواجبات، وأن الحكم بين كل الكنديين هو النظام والقانون. ومن جهتي كنت سعيداً بأن أسمع اللغة الواضحة التي تحدث بها رئيس الحزب الليبرالي المعارض ستيفان ديون، وتأكيده على الموقف الثابت لحزبه تجاه السلام في المنطقة، وهو موقف يمثل ما نعرفه عن سياسة كندا التقليدية تجاه النزاع العربي - الإسرائيلي، أو من خلال حضورها الاقتصادي والتجاري والثقافي، وتطوير العلاقات مع الدول العربية. كما أسعدتني بعض تصريحات وزير الخارجية الكندي بيتر مكاي أثناء زيارته للمنطقة، واطلاعه على الأوضاع فيها بنفسه. وفي النهاية أقول إنه أعجبتني عبارة قالها أحد السفراء العرب لرئيس الحزب الليبرالي المعارض، في حديثه عن دور كندا في العالم. قال السفير، وأظنه المغربي، مخاطباً ديون:"أعيدوا لنا كندا التي نعرفها Give us back our Canada"، وهي عبارة لا أستبعد أن يستخدمها الحزب الليبرالي المعارض في حملته الانتخابية المقبلة. لكنني بالطبع كديبلوماسي لا بد من أن أؤكد أنني أتعامل مع كندا كما هي في الواقع العملي. نعم أنا معجب بالدور الكندي التقليدي الذي تعاملنا معه في جميع أزمات المنطقة من قبل، وأريد أن أرى كندا التي أعرفها وأعجب بها وأحترمها. لكن الشعب الكندي وحده هو من يقرر أي كندا يريد، وأي قيادة يختار. * السفير السعودي لدى كندا.