أثناء تسجيل أحد البرامج التلفزيونية أشارت المذيعة إلى المخرج والمصور لإيقاف التسجيل، والسبب هو ظهور يديها وهما تتحركان أثناء كلامها، وهذا"أمر غير لائق"في رأيها. لكن المثير أن ما اعتبرته المذيعة، صاحبة التاريخ الطويل في العمل التلفزيوني والظهور الإعلامي، هو بمقاييس العام السابع من الألفية الثالثة، مبدأ من مبادئ التميز ووسيلة حديثة لجذب المشاهد. فحتى سنوات قريبة، كان يفترض في المذيع أو المذيعة الرصانة والهدوء وحساب الحركات الجسدية بصرامة متناهية. ولم تكن فكرة تحريك المذيع ليده أو يديه أثناء الحديث أمراً مرفوضاً ذلك لأنها كانت فكرة غير واردة أصلاً. ثم تغيرت الأحوال، وتبدلت الأمور، وبدأ تحريك اليدين يتسلل ً إلى الشاشة الصغيرة لأسباب عدة، منها ان البعض اعتبر ذلك نوعاً من التقارب بين المشاهد الجالس في بيته والمذيع القابع في الاستوديو والذي كان يعتبر من سكان الأبراج العاجية حتى بزوغ عهد الفضائيات. فالفضائيات العربية نقلت الكثير من البرامج الغربية التي تنتهج منذ زمن الأساليب البعيدة عن تقمص المذيع لأدوار تمثيلية جامدة في رصانتها لمجرد أنه في التلفزيون. وعمدت إلى أن يظهر المذيع متحللاً من البدلة وربطة العنق، ويمشي بينما يتحدث الى المشاهد. ولا مانع من استخدام يديه أثناء الحديث إذا كانت هذه هي عادته. لكن الكثير من القنوات العربية اقتبس موضوع إطلاق العنان للأيدي أثناء الحديث من دون النظر إليها في سياق التصرفات الطبيعية غير المفتعلة. فعلى رغم أننا كشعوب شرقية نتسم بسخونة المشاعر ولغة الجسد المتدفقة المعبرة تعبيراً حقيقياً عن تدفق الأحاسيس، إلا أن ما يحدث على شاشاتنا هذه الأيام لا يندرج تحت بند"المشاعر الحقيقية"بل هو أقرب ما يكون إلى"المهزلة التمثيلية". وانتشرت عدوى تحريك الأيدي انتشار النار في الهشيم من هذا البرنامج إلى ذاك، ومن هذه القناة إلى تلك، وبدا مذيعو ومذيعات الكثير من البرامج أشبه بالممثلين الهزليين الذين يحركون أيديهم بهستيرية لا تتناسب حتى وسياق كلامهم. وإذا كان باحثو علم النفس أكدوا منذ زمن طويل أن الهدف من تحريك اليدين أثناء الكلام هو تأكيده، وأن هناك علاقة وثيقة داخل المخ بين الكلام وحركة اليدين، فإن أثر تحريك المذيعين والمذيعات لأيديهم في شكل مبالغ فيه على شاشة التلفزيون، على المشاهد في حاجة إلى دراسات ميدانية للتحقق من آثارها التي هي على الأرجح ستشير إلى تركيز المشاهد على حركة الأيدي على حساب الكلام. ويبدو أن البعض بات لا يكتفي بحركات الأيدي المتواصلة، فعمد إلى تصوير المذيع أو المذيعة بطرق غير تقليدية ايضاً، فبدلاً من التجديد في شكل الكادر وزاوية التصوير، ينتهج البعض حالياً منهج تحريك الكاميرا بصفة مستمرة أثناء التصوير كنوع من"الحداثة"والتشويق وربما لدرء الملل عن المشاهد حتى لا يغط في نوم عميق بسبب الضجر من ثبات الكادر، وبالتالي يبدو المذيع وكأنه في حالة صراع دائم للبقاء في داخل هذا الكادر من جهة ويصاب المشاهد بالدوار وربما الغثيان لفشله في متابعة المذيع المتذبذب أمامه من جهة اخرى، فلا هو قادر على النظر إليه بعينين مفتوحتين بسبب نشاط المصور الزائد، ولا هو متمكن من التركيز على ما يقول بسبب يديه المنطلقتين في حركات عصبية حوله وأمامه وفوقه. وتكون النتيجة في أغلب الأحوال اللجوء إلى قرص مسكن للصداع وإلغاء فوري للقناة المعنية من ذاكرة جهاز فك الشفرة? وكل هذا بسبب يدين طائشتين ومصور أهوج.