يُعتبر المذيعون ومقدّمو البرامج واجهات المحطات التلفزيونية و"أدوات"استقطاب المشاهدين. وتضع مرافق الإعلام المرئي، عامة، رهانها على أشخاص متميّزين بحضورهم. وحضور المذيع يبرز من خلال وجهه وصوته وشكله الجسماني. وكلها عناصر مسرحية، بامتياز، تحكم الأداء الذي ينبغي - بمعيار الموضوعية الصحافية، سواء كان معلومة أم خبراً أم تحليلاً - أن يبرز المعلومة بحد ذاتها أو عناصر الخبر كما هي ولو تناول مأساة إنسانية. ولعلّ جولة خارجية، عبر الشاشات العربية، تعطي فكرة عن مدى استعداد مذيعيها ل"تمثيل"المحتوى الذي يقدّمونه."4، 3، 2 ... أنت على الهواء..." ذات فصل شتاء، دخل مذيع الطقس، لدى محطة"سي بي سي"التلفزيونية الكندية، إلى الاستديو عاقداً حاجبيه، يحدّق مباشرة في عدسة الكاميرا وفي المشاهدين. وكان واضحاً أنه يخفي شيئاً وراء ظهره. وقف أمام الكاميرا وخلفه كوكب الأرض تمخر سماه غيوم وخطوط حمر وزرق. تسمّر المذيع في مكانه لا يحرّك ساكناً، ومع ذلك انفجر الموظفون بالضحك، كل من كان في الاستديو: المصوّر ومخرج النشرة وعاملون. وكل المطلوب من الرجل هو أن يقول توقعات الطقس. ضحك الموظفين في الكواليس زاد من انشداد المشاهدين الذين كانوا في تلك الليلة، ينتظرون ليعرفوا الأحوال الجوية، وهو أمر حيوي لسكان أقصى شمال الأرض. ظل الرجل على رصانته حتى رفع بيمناه جزمة شتوية ثقيلة، فدوّى الضحك في أرجاء كندا ونام الناس إثره، وهم يعرفون أن غداً عاصفة ثلجية. والمذيع الذي بقي ساكناً وحاملاً الجزمة قال أخيراً:"هذا كل شيء في نشرتنا الجوية، تصبحون على خير". دقائق ممتعة يهديها، من حين إلى آخر، إلى المشاهدين مذيعون لائقون ومبادرون... مذيعون ومذيعات ترعاهم محطة تضع ثقتها بالعاملين وتحترم المبادرات. ويتابعهم، من البداية، فرد أو فريق يمكن تسميته"ضابط الأداء"، يأخذ بآراء المشاهدين وأصحاب المحطة وأمزجتهم، ويكون لديه رؤية إخراجية خاصة بكل مذيع ? ممثل أو"مؤدي معلومات"وفقاً للسياق المطلوب. وضابط الأداء يبقى، عادة، مجهولاً، من دون سبب واضح لهذا التستر. وفي محطاتنا التلفزيونية العربية أيضاً من يؤدي المعلومات ومن يمثّل الآراء... وكثيرون يخلطون بين أداء المعلومة وأداء الرأي. ولعلّ الملاحظة العامة أن معظم المذيعين يعتمدون على شخصيتهم الفطرية. وكأن المحطات تختارهم، وفقاً لمعايير معروفة ومسلّم بها: الصوت العميق للذكور والإناث والشكل اللائق والوجه المضبوط أي الذي لا يسرع صاحبه في تحريكه إيحاءً. ولكن، هناك ما يدلّ على محاولة المحطات العربية وآخرها"العربية" على صقل الموهبة والفطرة، خصوصاً عندما نلاحظ التطوّر الذي تمرّ به مذيعات انتقلن إليها ليعملن بغير المجالات التي كنّ يعملن فيها في تلفزيونات سابقة. هذا في ما يتعلّق بالشخصية وشغلها. ومقارنة بعنصر مسرحي ثانٍ، يكون الديكور في نشرة أخبار أو برنامج كلام سياسي، الشاشة والشرائط المتحركة وصور المواضيع المصاحبة للخبر، وأحياناً الضيوف في الاستديو. واستطراداً، حركة الشرائط مزعجة، ففي إحدى الشاشات، صارت الشرائط تتراكب بعضها فوق بعض، وتتسابق المعلومات فيها، كأن المشاهدين في ميدان سباق الخيل. وتبقى المعلومات وطريقة إيصالها إلى المشاهدين. ومن الملاحظ هنا أن السياسة والمواقف تلعبان دوراً كبيراً في تقديم المعلومات. وقليلة هي المحطات التي لا يقرأ فيها مذيع الأخبار من دون انفعال يدل على تحيّز. فهناك مذيعون لا يتركون وسيلة ممكنة في وجوههم ليؤثّروا في دلالات الخبر أو تفسيرات كلام الضيف أو الخبير: تغيير نبرة الصوت، هزّة الرأس مع ابتسامة أحياناً للتهكّم، الإعادة المتعمّدة... ومن عوامل تأجج علامات الانحياز الاصطفاف السياسي، كما هو حاصل في لبنان حالياً. وتذهب إحدى المحطات وهي أرضية وفضائية في آن إلى قراءة مقدّمة للنشرة ومقدّمة لكل خبر، تدفع بالمشاهدين في الاتجاه المطلوب، ويضاف إلى كل ذلك التنغيم في الصوت للپ"تمعين". وثمة مذيعون لا يتحرّك في وجوههم غير الشفاه لقراءة الأخبار، للدلالة على الموضوعية. وفي هذا النوع من الأداء قتل للخبر وعناصره ومؤداه. فعدم تحيّز المذيع إنما ينبع من عدم محاولته كبت انحيازه، فيقرأ الخبر بالشكل الطبيعي. وهو هنا كالممثل الذي يُطلب منه البكاء فإذا به ينفجر باكياً لمحاولته عدم فعل ذلك أي كبت فعل البكاء. وهذا من وسائل إعداد الممثل. وفي برامج الحكي، يجتهد المعدّون والمقدّمون لئلاّ يقعوا في فخ اختيار الضيوف. وتنجح محاولاتهم أحياناً كثيرة. وبعضهم يبدو مرتاحاً أمام ضيفه، يحاوره في شكل طبيعي ويمازحه، محرّكاً تقاسيم وجهه للتهكّم أو المسايرة، ولكنّه ينفعل فجأة عند أول محاولة ينتقد فيها الضيف المحطة أو الجهة التي ينتمي إليها المضيف. والانفعال المفاجئ - يستغربه المشاهدون عادة - إنما يدلّ على بقاء المقدّم متحفّزاً سلبياً أي ضد ضيفه، في وقت يكون المطلوب هو الانسجام والتناغم مع مضمون الحلقة وسياقها. لا تظهر حقيقة العمل على هذه الفئة من المؤدّين إلا بجولة على المحطات من الداخل والتعرّف على"ضابط الأداء"والمعايير المتّبعة في كل منها.