سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الإعلام الفضائي العربي في وسط العاصفة ... "ال بي سي" 24 ساعة و"العربية"و"أبو ظبي" تتميزان "الجزيرة" لم تعد وحدها في الميدان أما العقلانية الإعلامية فمؤجلة الى ما بعد الحرب
كسرت الحرب الحالية على العراق احتكار قناة "الجزيرة" لغالبية مشاهدي الفضائيات العربية إذ لم تستطع المحافظة على موقع اكتسبته بجدارة اثناء الحرب على "طالبان"، وتزاحمها اليوم جدياً محطات ك"العربية" و"أبو ظبي" وذلك الحضور اللافت لفضائية "الحياة LBC" التي تغطي الحدث برصانة على مدى 24 ساعة. "هل يمكنك أن تحرك الكاميرا قليلاً لنرى المشهد الذي تتحدث عنه؟". تقول مقدمة النشرة وهي توجه كلامها الى "مراسلنا في بغداد" بلهجة اليائسة. ذلك أن "المراسل" بدلاً من أن يصور، ولو من بعيد، ومن نقطة دائمة الثبات، ما يفترض انه دخان كثيف ناتج من القصف الأميركي على بغداد، يفضل أن يبقي الكاميرا مسلطة عليه، فيما يحاول هو أن يصف بعبارات غالباً ما تخونه، ما يجري غير بعيد منه. على أية شاشة شاهدنا هذا؟ بالتأكيد على شاشات كثيرة. فهذه الحرب، التي ستوصف لاحقاً بأنها الحرب التي غطيت إعلامياً أكثر من أي حرب أخرى في تاريخ البشرية. قد ينسى الناس بعد انتهائها معظم صورها... ولكن ليس وجوه المراسلين، العرب في معظمهم، الذين توجهوا خصوصاً الى بغداد، ولكن الى غير بغداد كذلك، لتغطيتها. هل تريد أن تقول بهذا ان "الفضائيات" العربية أخفقت في مهمتها؟ ليس تماماً... كل ما في الأمر أن هذه الفضائيات وعلى رغم كل النيات الطيبة، وعلى رغم كل المخاطر التي تتعرض لها، لم تتمكن من أن تنتج، بعد، المراسل الحربي الحقيقي. من هنا إذا كانت الفضائيات تقدم مشاهد للقتال، وللمعارك ولغير ذلك من الشؤون الميدانية، حية وملموسة وقادرة على نقل ما يحدث حقاً، في الميدان، فإنها ستبقى تعتمد في ذلك على التلفزات الأجنبية. وربما كان السبب في هذا أن مراسلي ال"سي إن إن" و"فوكس نيوز" وال"آي بي سي" وال"آي تي في" وغيرهم يمضون في ركاب القوات الأميركية، يتحركون بحركتها. وهو أمر لم يتح للمراسلين العرب أو لمعظمهم على الأقل. ومن هنا يبدو المراسل العربي أشبه بالقوات اللوجستية، فيما يبدو زميله الغربي أقرب الى القوات الهجومية المقاتلة. وفي هذا يستوي تلفزيون "الجزيرة" مع بقية الفضائيات العربية التي تمكنت، وخلال فترة قصيرة من الزمن من أن تنتزع منه احتكار تصوير الحرب. ولئن كانت إحدى كبريات الصحف الأميركية توقعت، قبل أسبوعين من بدء "الحرب على العراق" - في مرحلتها الجديدة - أن يكون ثمة كسر لاحتكار "الجزيرة" لتغطية هذه الحرب عربياً، هي التي كانت سجلت أكبر "انتصاراتها" خلال الحرب الأميركية على "طالبان" و"القاعدة" في أفغانستان، فإن المشهد العام الحالي للتغطية العربية للأحداث العاصفة في العراق لم يخيب هذا التوقع. إذ يمكن القول منذ الآن ان "الجزيرة" لن تكون هذه المرة الرابح الوحيد. وليس السبب سوء أدائها المهني بالطبع. ف"الجزيرة" لا تزال متميزة مهنياً، ولا تزال قادرة على الانفراد بصور ومشاهد حية. ولكن السبب يعود هذه المرة الى أن السلطات العراقية خصتها دون غيرها بتلك المشاهد - للقتلى والأسرى الأميركيين الذين سقطوا خلال الأيام الأولى للمعارك - التي تنوقلت عنها، فيما بدا أنه صفقة ما بين السلطات العراقية وهذه القناة القطرية التي تثير عادة أكثر من علامات استفهام، وتلقى في نهاية الأمر حظوة لدى الشارع العربي. ولكن الذي حدث هذه المرة هو أن الحظوة، وإن كانت بقيت على حالها، فإنها لم تتأتَ من أداء مهني ما، بل من مواقف يرى فيها البعض بعداً وطنياً، فيما رأى البعض الآخر "ديماغوجية" بيّنة. فاليوم، للحصول على حماسة لا حدود لها، وحتى للعثور على قاموس لغوي دعائي، يخلط الخبر بالرأي، لا يحتاج المرء الى تركيز جهازه على أية محطة عراقية: بحسبه أن يلتفت الى "الجزيرة" التي بات البعض يتهمها بأنها صارت "بوقاً" للسلطات العراقية، فيما يرى كثر أن ذلك غير دقيق. كل ما في الأمر أنها تؤدي واجبها الإعلامي... من منطلق يتفق مع ما تتوقعه "الجماهير العربية العريضة" منها. ولكن هنا أيضاً يمكن القول ان المهنية والوطنية في آن، يمكن العثور عليهما في معظم المحطات العربية، بما فيها تلك التي ترتبط بأنظمة لا تتعاطف على الإطلاق مع النظام العراقي، أو تنطلق من منطلقات فكرية وسياسية تختلف مع توقعات هذا النظام، ولكن من دون أن تختلف، مع أو حول، مواقف الشعب العراقي نفسه. في اختصار، هو تقريباً الموقف نفسه الذي تقفه "الجزيرة" ذاك الذي يمكن تلمسه مثلاً، من خلال أداء "العربية" و"قناة أبو ظبي" ثم خصوصاً قناة "أل بي سي الفضائية"... وهي القنوات الثلاث التي باتت تشكل، خلال الأحداث العراقية الراهنة، المنافسة الحقيقية ل"الجزيرة"، والتي تمكنت من كسر احتكار القناة القطرية. "العربية" تتقدم ومع هذا لا يزيد عمر "العربية" عن أسابيع، ومع هذا تمكنت من أن تحرز تقدماً كبيراً، ليس فقط على صعيد تحقيق مكانة لها في الخريطة الإعلامية الفضائية العربية، بل - خصوصاً - على صعيد الأداء المهني أيضاً. ف"العربية" استفادت كما يبدو من أخطاء "الجزيرة" وآلت على نفسها أن تبتعد من الأسلوب الاستفزازي، وإن كلفها هذا ابتعاد قطاع عريض من المتفرجين العرب يفضل عادة استفزازات "الجزيرة". ولكن، ما خسرته "العربية" في هذا الإطار ستربحه بالتأكيد في الصدقية، وإن كانت هذه الفضائية الوافدة حديثاً تعاني الكثير من الأخطاء المهنية، وتحفل الأخبار المكتوبة أسفل الشاشة فيها بمئات الأخطاء اللغوية، إذ تجعل الأخبار في بعض الأحيان عصية على القراءة والفهم. صحيح أن قنوات كثيرة أخرى تشاركها هذه الأخطاء، التي من شأنها أن تثير سيبويه في قبره "الكويتية" مثلاً، و"الجزيرة" نفسها، لكن الأمر في "العربية" يبدو متفاقماً ومضحكاً في أحيان كثيرة، ويتناقض تماماً مع اللفظ السليم الذي يميز بعض كبار مذيعي هذه المحطة، من الذين أثبتوا حضورهم بقوة، مثل إبراهيم القاسم وحسن معوض. وفي هذا السياق نفسه تمكن المقارنة مثلاً بين أداء مراسلين ل"العربية" في العراق، ومراسلين ل"الجزيرة" فيه: فبالنسبة الى علي نون، مراسل "العربية" في بغداد، من الواضح أن المهمة الأولى هي "الإخبار" و"الإعلام" من دون غض الطرف عن الصعوبات الرقابية التي تقف غالباً في وجه تأدية المهمة، وهو يبدو في هذا على عكس مراسل "الجزيرة" في بغداد، الذي قلما أتى بمعلومة - على رغم توفير السلطات العراقية ذلك له، تبعاً لحظوة "الجزيرة" لديها -، فهو دائماً في حال "تحليل" و"شرح" و"إطلاق أحكام" بوجهه المكتئب الذي يملأ الشاشة من دون أن يترك مجالاً لرؤية أي شيء آخر. فإذا أضفنا الى هذه التحقيقات الميدانية التي يقوم بها مراسل "العربية" تصبح الصورة أكثر إثارة للأسئلة. ولربما يضاف الى سجل مراسل العربية انه يوضح، وأحياناً بين سطور كلامه، حقائق "تغيب" تماماً عن مراسل "الجزيرة"، وتتعلق بمحدودية الحرية التي تتمتع بها التغطية الفضائية في بغداد، حين لا يسمح للمراسلين بأكثر من تصوير ما لا يتلاءم مع منطق السلطة وأهدافها الإعلامية. هدوء "أبو ظبي" وتشترك قناة "أبو ظبي" مع "العربية" في التوجه الهادئ، ثم خصوصاً في اتخاذ موقف وطني عام، يلوح من خلال العمل الميداني لا من خلال الشعارات والضجيج، يناصر الشعب العراقي ويقف بالتضاد مع التدخل الأميركي والطروحات الأميركية. ولكن لئن كانت "العربية" تقدم على هذا، من دون خبرة طويلة وراءها - وتنجح فيه الى حد بعيد - فإن "أبو ظبي" تمارسه كجزء من سياستها منذ زمن. وهي سياسة جعلتها منذ مدة، حاضرة في الفضاء الإعلامي التلفزيوني العربي، ومرشحة في بعض الأحيان لمنافسة "الجزيرة" حقاً. وفي الأحداث الراهنة، من الواضح أن قناة "أبو ظبي"، على رغم طابعها الرسمي الواضح - فيما الطابع الرسمي للقنوات الأخرى التي ذكرنا، يبدو أقل ظهوراً -، تمكنت من أن تفرض حضورها، وليس في مجال الأخبار والمتابعات وحدها، بل كذلك وخصوصاً في مجال البرامج النقاشية والتعليقات والتوجه الى المعنيين والخبراء. إذ هنا، أيضاً، إذا كانت "الجزيرة" تعتمد في "التحليلات" على مجموعة من "خبراء" عسكريين وسياسيين بدأ حضورهم يشكل "روتيناً رتيباً" وتحول التحليل لديهم الى مجرد تعبير عن أمنيات ومواقف ايديولوجية فاقعة، حتى خارج إطار برنامجي "الاتجاه المعاكس" و"أكثر من رأي" اللذين كان الصراخ الحاد والاستفزازي من نصيبهما في الظروف العادية، فإن المحللين الذين تستعين بهم قناة "أبو ظبي" يبدون أكثر عقلانية. ومع هذا لا بد هنا من الإشارة الى أن معظم هذه القنوات وبرامجها، يبدو - على الأقل، عند هذه المرحلة المبكرة من حرب يتفق العالم كله على إدانة الولاياتالمتحدة وبريطانيا بسبب شنهما لها، وتبدو ظالمة وقاتلة للشعب العراقي، بدلاً من أن تبدو محررة له، كما تبدو معيدة الاعتبار الى النظام العراقي بدلاً من أن تضعه، في نظر العالم ونظر شعبه، في المكان الذي يستحق - معظم هذه القنوات يبدو وكأن شيئاً من العاطفية يحركه. إذ، في شكل عام، يبدو أن العقل العربي هو ثاني ضحايا هذه الحرب، بعد ضحيتها الأولى: الشعب العراقي نفسه. إنه انسان في نهاية الأمر قد يكون من الصعب نسيان أن معد البرنامج، أو الأخبار، أو المذيع، هو في نهاية الأمر إنسان لا بد له من أن يتأثر بما يحدث ويغلب عاطفته، أو حتى يتفادى ما قد يمكن أن يجعله يبدو متعاطفاً، ولو بأدنى قدر، مع قوات أنغلو - ساكسونية تغزو بلداً بذرائع مختلفة، أبرزها السعي من أجل سعادة شعبه، فإذا بهذا الشعب يدفع الثمن، وخصوصاً بين مطرقة نظام يقمعه، وسندان قوات أجنبية تغزوه. ومن الصعب مطالبة أهل التلفزة بألا يفاجأوا بهذه النزعة الوطنية الجديدة تنبعث لدى شعب كان يُعتقد أن سنوات القهر والحصار ألغت مشاعره. ومع هذا، في زمن يُطلب من العقلانية أن تبرز كسماء واقعية ضد الانزلاق في العواطف وما تجره من مصائب والانزلاق خلف الكذب المريح، قد يكون من الضروري السعي الى قدر كبير من الموضوعية، في الأداء وفي الإخبار وحتى في اختيار المعلقين والمحاورين. "أل بي سي" الواعدة وفي هذا الإطار، إذا كانت النخبة العربية العقلانية، تلتجئ الى محطات مثل "سي أن أن" والقنوات الفرنسية المختلفة وال"بي بي سي" وغيرها بحثاً عن شيء من الموضوعية وعن أخبار تقدم الى المشاهد معتمدة على عقله في تحليلها والحكم عليها، فإن وعود آخر الداخلين في هذا الإطار "الفضائية اللبنانية إل بي سي" القديمة - الجديدة في هذا المجال، تبدو واضحة. صحيح ان هذه القناة، التي كان نجاحها العربي الكبير في الماضي يعتمد على ما تقدمه من برامج ترفيهية يقبل عليها الجمهور العربي باندفاع، لم تكن معروفة بكونها قناة إخبارية يمكن الاعتماد عليها في هذا المجال، ولكن منذ فترة - وبسبب الاندماج الإخباري بينها وبين صحافيي جريدة "الحياة" - راحت تتجه أكثر وأكثر الى اكتساب جمهور "أخبار" و"سياسة" عربي. وتجربتها، اليوم، مع "الحرب على العراق" كما تسميها، تعتبر "عماداً أثيراً" لها، خصوصاً أن القائمين عليها اتخذوا قراراً، بأن تتحول الى فضائية عربية إخبارية تبث 24 ساعة يومياً خلال فترة الحرب. وحتى اليوم، فإن دنو هذه القناة، في أخبارها أو في برامجها السياسية أو في استضافتها الخبراء - من كل لون وطيف، وليس من لون واحد فقط -، يبدو ناجحاً بشهادة كثر من الذين بدأوا يتابعونها، راصدين شيئاً كبيراً من الموضوعية والاتزان في تغطيتها، وسبقاً في الحصول على الأخبار، وتوازناً لافتاً في التعبير عن المواقف. وفي هذا الإطار، يبدو لافتاً تعليق مشاهد بدأ "يداوم" على فضائية ال"أل بي سي" من أنها تبدو له وكأنها تجمع بين "مهنية السي أن أن" - من دون إمكاناتها طبعاً - وبين "الحس الوطني العقلاني" الذي يسم أداء "العربية" و"أبو ظبي". وإذا كان أحد مقاييس النجاح وتراكمه هو أن تنقل محطات كبرى مواد عن محطة أخرى، فإن "سي أن أن" و"إي آر تي" نقلتا مواد إخبارية عن "الحياة - أل بي سي". وهذا يسمح بالقول أنه على رغم أن "أل بي سي" لم تتمتع سابقاً بالخبرة للتعاطي مع مثل الحال التي نعيشها الآن، ولم تكن لديها الإمكانات مثل "الجزيرة" و"أبو ظبي" و"العربية"، فهي باتت بين المحطات الأربع الرئيسية المتنافسة. ويقيناً أن هذه المحطة، التي لا تزال حتى الآن في أول الطريق، مرشحة لأن تلعب لاحقاً دوراً كبيراً في مناخ إعلامي عربي، يتسم الآن بفوضى كبيرة، وبنزعة تغلب عليها لا عقلانية دفعت واحداً من المعلقين الى القول: إن واحداً من أهم الرابحين في مشهد الساحة الإعلامية العربية اليوم، هو من دون شك، أحمد سعيد، نجم "صوت العرب" في الستينات، الذي لا شك يقول في سرّه الآن: "مين خلّف ما مات"!