سوف يلتقي في جامعة كامبردج في مطلع الشهر القادم ممثلون عن محطات التلفزيون الغربية الناطقة بالعربية، "فرنسا 24" و "روسيا اليوم" و "دوتشيه فيله" الألمانية و "الحرة" الأميركية، وال "بي بي سي" العربية التي من المتوقع أن يبدأ بثها مع نهاية هذا العام في مؤتمر يناقش هذه المشروعات وأهدافها ومضامينها. وفي المؤتمر نفسه ستوجد قناة"الجزيرة"الإنكليزية والتلفزيون الإيراني الجديد"برس تي في"الذي يبث بالإنكليزية أيضا لعرض تجربتيهما المعاكستين، أي فضائيات شرق أوسطية ناطقة بالإنكليزية وتتوجه إلى مشاهدين خارج المنطقة بشكل أساسي. البث الإعلامي باللغات"الأخرى"ممارسة ليست جديدة، بل يعود تاريخها إلى عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، حيث التحالفات السياسية الدولية التي رافقت الحرب العالمية الأولى، وسبقت الحرب الثانية. فدول الحلفاء والمحور، كل على حدة, كانت قد أنشأت إذاعات تنطق بلغات"العدو"للتأثير فيه وفي شعوبه وذلك في سياق الحروب الإعلامية المتبادلة. وفي نطاق البث الإذاعي باللغة العربية نعرف جميعاً تجارب"البي بي سي"البريطانية والإذاعة الألمانية والإذاعة الهولندية باعتبارها الأهم والأكثر تأثيراً والتي تعود تواريخها الى أربعينات القرن الماضي. وقد تمكنت تلك الإذاعات، التي لحقتها"صوت أميركا"في وقت متأخر, من تكوين دوائر واسعة من المتابعين والمستمعين. ويتفق كثيرون على أن تجربة"هيئة الإذاعة البريطانية"تركت تأثيراً كبيراً في أوساط الرأي العام العربي وعبر أجيال متعاقبة. لكن الحقبة الجديدة، منذ منتصف التسعينات تقريباً، وبالتوازي مع تطور تكنولوجيا الاتصالات وعولمتها، شهدت القفزة الكبيرة المتمثلة في تأسيس بث تلفزيوني، وليس فقط إذاعي، عابر للحدود ومؤثر في دوائر مستمعين يقطنون مناطق جغرافية مخلتفة. وعلى منوال البث الإذاعي العابر للحدود والناطق بالعربية، كانت"البي بي سي"ومرة أخرى سباقة في هذا المجال مع تلفزيونها العربي الذي استمر في البث لمدة عامين ثم اضطر للإغلاق. وفي السنوات القليلة الماضية التي شهدت ازدياداً مدهشاً في عدد الفضائيات العربية وكذلك الأقمار الصناعية المستعدة لاستقبال فضائيات جديدة، انضمت إلى الساحة فضائيات غربية عدة ناطقة بالعربية، والتي أشير إليها آنفاً. لا يمكن بداية عزل نشوء هذه الفضائيات عن السياسة الخارجية للبلدان التي تحتضنها. ففي غالبية تلك الحالات هناك إدراك واضح عند صناع السياسة الخارجية الغربية لأهمية المنطقة العربية والتواصل مع الرأي العام العربي، أملاً في التأثير فيه بهذا الاتجاه أو ذاك. وهناك أيضاً شعور ملح، خاصة بعد تفجيرات 11 سبتمبر, بضرورة بث صورة إيجابية عن هذا البلد الغربي أو ذاك، ولو بطريقة غير مباشرة. ويرتبط نشوء الفضائيات الناطقة بالعربية والصادرة من عواصم غربية مختلفة, بالتوجهات الاستراتيجية للدولة والرغبة في بسط النفوذ الاستراتيجي العابر للحدود، أو على أقل تقدير الإبقاء على حضور بارز وواضح للدولة المعنية. كما لا يبتعد نشوء الفضائيات أو البث الناطق بالعربية والصادر من عواصم غير لندن وواشنطن، عن التنافس الخفي أحياناً والمكشوف أحياناً بين الإعلام الأنكلو-فوني من جهة وبقية ألوان الإعلام العالمي الآخر. فهناك قدر كبير من الرغبة في عمل ثغرات وإزاحات في الفضاء الإعلامي المسيطر عليه من قبل المحطات التي تبث بالإنكليزية. وحتى لو نطق هذا الإعلام بلغات أخرى, فإن أصله وجذره يبقى مترسخاً في ذلك الفضاء وموسعاً له أيضاً. في الوقت ذاته فإن ما لا يجب أن يغيب عن الصورة هو أن البث باللغات الأخرى من قبل عدد من الهيئات الإعلامية الغربية لم يكن مقصورا على اللغة العربية. ذلك أن دوائر مستمعين آخرين وفي عوالم ثقافية ولغوية بعيدة عن الجغرافيا الغربية يصلها بث غربي بلغاتها. والأمر الآخر الوثيق الصلة هو أن الإعلام الناطق بالعربية، تخطى بدوره الفضاء الغربي التقليدي، البريطاني والفرنسي والالماني والأميركي، بدخول الفضائية الروسية"روسيا اليوم"، إلى حلبة المنافسة. وليس بعيدا أن نرى في المستقبل المنظور فضائية صينية ناطقة بالعربية، خاصة أن هناك محاولات صينية أولية لبث إذاعي باللغة العربية وكذلك وجود موقع الكتروني إخباري باللغة العربية تابع للإذاعة الصينية. وبطبيعة الحال فإن الإنترنت والمواقع الألكترونية توفر فضاء غير مسبوق للتواصل الإخباري والإعلامي بكل اللغات. لكن ما يهمنا هنا، وفي سياق فهم ومعرفة التطور الحاصل في مجال الفضائيات الناطقة بالعربية، الإشارة إلى أن كل تلك الفضائيات تتبعها مواقع إخبارية باللغة العربية. وربما يمكن القول إن إحدى السمات الأساسية لتلك المواقع هي التبادل الحي مع المشاهدين والمتابعين وطبعاً القراء. فهناك منابر للنقاش وإبداء الآراء وإمكان التعليق على الأخبار الواردة في المحطة المعنية وسوى ذلك. لكن بعيدا عن النواحي التقنية والصورة الإجمالية لواقع البث الفضائي باللغة العربية بتطوراته الأخيرة تبقى الأسئلة الأهم متعلقة بالملكية والخطاب والمضمون والتأثير والمنافسة والغاية السياسية النهائية. بالنسبة للملكية فإن هذه الفضائيات جميعها هي مشاريع تابعة وبشكل ما لجهات رسمية في الدولة التي تشرف عليها، إما لوزارات الخارجية أو ما هو قريب منها. والهدف منها هو إما تحسين صورة البلد المعني، أو تأكيد الحضور الديبلوماسي والعام، والدفاع المباشر أو غير المباشر عن السياسة الخارجية للدولة. لذلك ليس ثمة أوهام كبيرة حول سقف الحرية الذي من الممكن أن تصل إليه هذه الفضائيات، رغم التفاوت الكبير في ما بينها، لأنه سقف قد تحدده الأولويات الملحة على صناع السياسة الخارجية هنا أو هناك. وفي بعض الحالات لا تستطيع بعض الفضائيات سوى الالتزام بحرفية السياسة الخارجية إزاء بعض القضايا التي تراها حساسة، من مثل عدم استضافة ناطقين رسميين باسم هذه الحركة السياسية أو تلك، لأن الحركة مصنفة من قبل تلك الدولة كحركة غير شرعية أو إرهابية. لكن مرة أخرى، هناك تفاوت كبير في درجة المرونة والاستقلالية والحرية التي تمارسها تلك الفضائيات, كما أن التجربة بشكل عام ما تزال في مرحلتها الأولى لجهة محاولة رسم فروقات أساسية وجوهرية فيما بينها. على مستوى الخطاب والمضمون تختلف المادة المقدمة عبر الفضائيات المشار إليها في هذه السطور، رغم أن معظمها، إن لم يكن كلها، يصنف ضمن الإعلام الإخباري، وليس الترفيهي. والمسألة الخلافية في معالجة الخبر العربي أو الشرق أوسطي في هذه المحطات تكمن في الأولوية ومساحة الاهتمام التي يحظى بها, مقارنة ببقية الأخبار الدولية. فهناك من يقدم الخبر العربي ويوليه اهتماماً اضافياً باعتبار أن المحطة المعنية ناطقة بالعربية، ويجب أن تكون أجندتها الأخبارية مبنية وفق ذائقة واهتمامات المشاهد العربي مثل"البي بي سي". وهناك في المقابل من يضع الخبر العربي أو الشرق أوسطي ضمن أجندة الأخبار الدولية من دون إيلاء أولوية خاصة له، بحيث تظهر"نسبية"أهمية الخبر العربي، أو تقدمه أو تأخره، مقارنة مع بقية الأخبار الدولية. والمثل الأهم هنا هو قناة"فرنسا 24"، حيث يتصف البث باللغة العربية بكونه مطابقاً بشكل شبه تام لما يبث باللغة الإنكليزية والفرنسية من القناة نفسها. والقناة بالتعريف إخبارية دولية، وتختلف عن التلفزيونات الفرنسية المحلية من حيث لونها وأجندتها الإخبارية. لكنها تتبنى أجندة أخبار دولية موحدة تبث باللغات المختلفة، ولا يتم تعديلها وفق المنطقة المستقبلة لذلك البث. تحمل كل فضائية من تلك الفضائيات بطبيعة الحال نكهة بلد المصدر، من نواح عدة. أولاها إعطاء الخبر والحدث الصادر من تلك الدولة اهتماماً متميزاً. وثانيها استضافة معلقين وخبراء وصحافيين من تلك الدولة أو فضائها اللغوي والثقافي، بما يقدم رسالة غير مباشرة حول الاهتمام العربي أو الشرق أوسطي من قبل أولئك وتعريف المشاهدين بهم. أما السؤال الكبير حول مدى التأثير والمنافسة وعدد المشاهدين العرب، فيبدو أنه من أصعب الأسئلة. فمن ناحية أولية هناك ازدحام كبير جداً في الفضاء العربي بالقنوات الإخبارية التي صارت تتعدى المئتي فضائية، إن لم يكن أكثر. فضلاً عن ذلك هناك مئات أخرى من الفضائيات غير الإخبارية، الترفيهية والغنائية والدينية, وذات الموضوعات المحددة. وما زال سؤال"لماذا"وما هو المأمول من هذه الفضائيات، كما هو في عقل صانع القرار وراءها، وإمكانية تحقيقه هي السؤال الأهم والذي ربما يقدمه لنا مؤتمر جامعة كامبردج قريباً. * كاتب أردني فلسطيني - جامعة كامبردج