المجازر التي تمارسها إسرائيل في لبنان, وقتلها لمصادر الحياة والأحياء بطريقة عمياء هي هواية إسرائيل, فاسرائيل هي المرادف للقتل والعنف والإبادة, ولذلك يصعب الحديث عن مخالفات أو انتهاكات إسرائيل لأحكام القانون الدولي خصوصًا القانون الجنائي الدولي والقانون الإنساني. وأصبح من تحصيل الحاصل إنزال أحكام هذا القانون على التصرفات الإسرائيلية لتجريمها وتوثيقها مادام الضحايا فقدوا الأمل في عدالة دولية تجلب المجرم إلى ساحتها وتنزل به العقاب المناسب للجرم. ولكن المحقق هو أن المنطقة العربية, بعد أعمال الإبادة في لبنان وفلسطين، لن تثق في أي سلام أو دعاوى سلام يرددها الوحش الإسرائيلي. وتظل الحقائق تتضح كل يوم, وكلها حقائق دامغة. وأهم هذه الحقائق أن بقاء إسرائيل وازدهارها هو على حساب بقاء جيرانها وازدهارهم، وثاني هذه الحقائق أن أعمال الإبادة الصهيونية لا تتفق مطلقاً مع منطق العيش والجوار المشترك وأن الحياة في المنطقة لا تتسع إلا لأحدهما: إما إسرائيل أو غيرها، وأن في هذه الإبادة بقاء وحياة لإسرائيل. ثالث هذه الحقائق هي أن القوة المسلحة هي وسيلة المشروع الصهيوني, ولذلك فهي دولة تحيط بجيش وتترتب على ذلك نتائج خطيرة أهمها أن المؤسسة العسكرية هي الحاكمة وأن الآلة العسكرية يجب أن تعمل باستمرار وأن الدماء العربية هي المادة التي تعمل وتنشط بها، وأن بقاء إسرائيل وتنفيذ أهدافها يعتمد تماماً على الجيش وهذا ما أكده الساسة الإسرائيليون بوضوح عندما أوضحوا أن أمن إسرائيل مسألة نفسية لا يمكن للآخر أن يقدرها، وأن هذا الأمن لا يمكن توفيره من خلال وضعه تحت رحمة غيرها وأريحيتهم بموجب وثائق قانونية تثق إسرائيل أنها لا تستحق الحبر الذي كتبت به، لأن هذه الوثائق لا تُحترم إلا إذا وقفت خلفها قوة باطشة تمنحها الحياة والاحترام. ولذلك عندما أبرمت إسرائيل اتفاق السلام مع مصر قيدت حق مصر في التسلح وتسليح سيناء بينما أطلقت العنان لنفسها في التسلح بكل أنواع الأسلحة حتى تستطيع أن تقمع مصر إذا فكرت في تعديل معاهدة السلام. وأوضح الرئيس مبارك في أكثر من مناسبة أن تعديل المعاهدة أو فسخها استجابة للمطالب الشعبية أو مجرد رد مصر في إطارها على انتهاكات إسرائيل اليومية للمعاهدة يعني الحرب وهذا صحيح من وجهة النظر الإسرائيلية، رغم أن الدول تستطيع أن تفسخ المعاهدات بما فيها معاهدات الصلح وأن تقطع العلاقات الديبلوماسية من دون أن يعني ذلك الحرب في علاقاتها. والرئيس مبارك يردد في ذلك المنطق الإسرائيلي، لأن تركيبة علاقات السلام بين مصر وإسرائيل قامت على أساس أن إسرائيل هي المنتصرة وأنها هي الأقوى ولها الحق في إرغام مصر على مستوى معين من القوة حتى لا يختل الميزان فيعود الطرفان إلى مرحلة ما قبل المعاهدة. كما تقوم هذه العلاقات على أن إسرائيل هي بحاجة إلى القوة لكثرة أعدائها ونهمها إلى ضمانات البقاء لأن وجود مصر حقيقة، أما وجود إسرائيل فهو حقيقة افتراضية تحاول إسرائيل أن تفرضها على الجميع. ولذلك فإن تحرر"حزب الله"من قيود حركة الدول في المنطقة وعدم إلزام نفسه بالمقولات الإسرائيلية وإصراره على أن القوة هي التي ترد القوة يمثل تهديداً فاحشاً لإسرائيل، كما أن نجاح"حزب الله"في ذلك، اذا حصل، يمثل هاجساً حقيقياً لمستقبل إسرائيل. ويتضح من ذلك أن إسرائيل لا تحاول إنهاء منظمة تعتبرها إرهابية وإنما هي تدافع عن صورتها التي هزها مقاتلو الحزب بشدة، وستترتب على ذلك آلاف التداعيات والنتائج، ولكن الذي انتصر هو الشعب اللبناني الذي اعتز بمقاومته ورأى في دمار لبنان وتوحش القوة الصهيونية وعبث القوة الأميركية سبباً حاسماً في رفض الفصل الذي أرادته إسرائيل بين مصير الحزب ومقاتليه وبين مصير لبنان، وهذا هو المعنى الذي أكده حسن نصرالله في بداية المعركة وقرب نهايتها عندما أصر على أن الحزب هو الذي يحارب ولكن قاعدته هي الصمود واليقين بالنصر وأن الحزب المحارب ليس هو الطرف المنتصر من دون شركاء النصر الآخرين وأهمها هذا الصمود الذي يعتبر كسباً للأمة العربية والإسلامية كلها. في ضوء هذه الحقائق راح الكتاب في إسرائيل يدافعون عن جرائم الجيش من الناحية القانونية بطريقة تكشف عمق المأساة الأخلاقية، ويردون على الاتهامات الموجهة إلى الجيش. فيرون أن هذه الاتهامات فارغة، واختاروا أربعة منها لتفنيدها. الاتهام الأول هو أن استفزاز"حزب الله"يمثل مبرراً معقولاً لاستخدام القوة. فاسرائيل ترى انها بعد انسحابها عام 2000 فإن أي استخدام للقوة من جانب"حزب الله"بخطف جنودها وقتلهم ليس مشروعاً وأن إطلاق الكاتيوشا عبر الحدود قبل الخطف غير مشروع أيضاً ما دامت تستهدف المدنيين. ومن حق إسرائيل أن ترد ليس فقط على كل فعل ل"حزب الله"، وإنما على مجمل استراتيجية الاستنزاف التي يمارسها ويتمتع فيها بمزايا عسكرية. الاتهام الثاني، أن رد الجيش لم يكن متناسباً مع عمل"حزب الله". وترى إسرائيل أن الاتهام غير صحيح أيضاً. ففكرة التناسب ليست واردة في هذا المقام لأن القضية تتعلق بالحرب التي تضع لنفسها هدفاً وتصبح ضرورية كلما كان هذا الهدف مشروعاً. فهي ترى أن مبدأ التناسب يرد في التناسب بين حجم القوة المستخدمة وبين الحجم المطلوب فيها لتحقيق هذه الضرورة. أي أنه إذا هاجم"حزب الله"بشكل روتيني إسرائيل من دون سبب مشروع عبر السنين، فإن من حق إسرائيل أن توقف العدوان وذلك باستخدام القوة اللازمة لوقفه، ومن ثم لا تكفي القوة القليلة التي لم تنجح في السابق في وقف العدوان. وبذل الفقه الصهيوني الإسرائيلي وغيره الجهد لتطوير نظرية الدفاع الشرعي فابتكروا ما يمكن تسميته بالدفاع الشرعي الانتقامي الذي تكون فيه العبرة بحجم الخطر، وليس بحجم الفعل ويكون رد الفعل متناسباً مع حجم الخطر الذي تعبر عنه أفعال متعددة، وهذا الحجم تقرره مخاوف إسرائيل من دون قيد، كما أن من حقها أن تحدد رد الفعل اللازم بحرية كاملة، ولا عبرة بنتائج هذا الرد من مذابح وجرائم في نظر البعض ما دامت تلك المذابح ضرورية لإجبار"حزب الله"على الاستسلام كلما ارتفع الثمن الذي يُرغم على دفعه. وهذا يقودنا إلى الاتهام الثالث وهو ليس صحيحاً أيضاً في نظرهم ويتحصل هذا الاتهام في أن استهداف المدنيين يعتبر جريمة حرب. وهذا الاستهداف محظور لكن في الظروف العادية، ولكنه مشروع عندما يستخدم"حزب الله"هؤلاء المدنيين غطاء لعملياته حتى يضع إسرائيل في مأزق قاس بين تحقيق أهدافها وحرصها على الامتناع عن مهاجمة المدنيين وانتهاك أخلاقيات الحرب. يضاف إلى ذلك أن هؤلاء المدنيين سعداء ب"حزب الله"وبتغطيتهم لأعماله، فهم لذلك يستحقون القتل. وهذا الموقف الإسرائيلي أريد أن أهديه بدوري إلى بعض الفقهاء العرب الذين يحرصون على حماية المدنيين الإسرائيليين من هجمات المقاومة الفلسطينية الاستشهادية رغم الفارق المطلق بين المدنيين الإسرائيليين الذين يشكلون جسم الدولة العبرية الإجرامية ووقود آلتها العسكرية البشرية والمادية والدليل الحي على استمرار الغصب والعدوان على الحقوق العربية، وبين أصحاب الحق الآمنين في وطنهم. ويحرص هؤلاء الفقهاء على احترام القانون الدولي وإسرائيل سعيدة بسذاجتهم ومثاليتهم وجديتهم وموضوعيتهم التي تجور على ذويهم. أما الاتهام الرابع الذي ترفض إسرائيل صحته فهو أن استهداف البنية الأساسية المدنية يعد جريمة حرب. وسبب مشروعية ذلك في نظر إسرائيل هو أن لبنان سمح لقوة عسكرية بداخله أن تعتدي على دولة أخرى فتقع المسؤولية على لبنان حيث لم يفعل شيئاً لتنفيذ القرار 1559 الذي يلزمه بممارسة سيادته أيضاً على"حزب الله". وترى إسرائيل أن ضعف الدولة اللبنانية في مواجهة"حزب الله"ليس مبرراً للإفلات من المسؤولية،وكان يجب عليها أن تكون قوية بالقدر الذي يكفل إخضاعها ل"حزب الله". ويزداد حق إسرائيل في تدمير البنية الأساسية المدنية وضوحاً كلما أمعن"حزب الله"في استخدامها في أعماله العدائية. هذه المواقف الإسرائيلية ليست مواقف صحافية وإنما عنيت بإيرادها لأن بعض أساتذة القانون الدولي في إسرائيل عملوا على صياغتها وانضم إليهم أساتذة علم النفس مثل دافيد نافون. وعناية أساتذة إسرائيل بموقفها القانوني يعني ثلاثة أمور: الأول أنهم لم يستسلموا لضميرهم الحي بعد كل هذه الجرائم التي توقظ ضمائر الموتى مما يدل على أنهم جزء من ضمير واحد جمعي ميت لأنهم يجتهدون في تبربر الجرائم. والمعنى الثاني هو أنه رغم قوة إسرائيل العسكرية إلا أنهم لم يغفلوا القانون ولكنهم حاولوا دعم الغطرسة والإجرام بحجج قانونية. والمعنى الثالث، أنه رغم احتقار إسرائيل لقانون الأمم المتحضرة فإنها حريصة على تطويع هذا القانون لسلوكها البربري حتى تظل تزعم أنها لا تزال عضواً في أسرة الأمم المتحضرة ما دامت الولاياتالمتحدة هي التي تختار الأمم لعضوية هذه الأسرة حتى بعد أن فقدت مؤهلات العضوية أصلاً لها. لا أظن أن المنطق الإسرائيلي يقنع طفلاً أو يستحق تعليقاً أو رداً خصوصاً أن تصرفات إسرائيل في لبنان التي تم التحضير لها منذ مدة طويلة في مواجهة لبنان المحروم من قوة عسكرية تدافع عنه ضد هذا التوحش الإسرائيلي نقلت هذه التصرفات إلى مستوى الجرائم العمدية بالغة الخطورة، حتى أنني أشك أن تكييفها من الناحية القانونية وفق تصنيف جرائم النظام العام الدولي أصبح أمراً ساذجاً، فهي عدوان وجرائم حرب وجرائم إبادة وهي البطولة الوحيدة لجيش إجرامي يفتقر أصلاً الى أخلاقيات الجيوش، لأنه الاسم الآخر للعصابات التي زرعت الدولة العبرية في قلب المنطقة العربية. وفي ضوء ما تقدم لا أظنني في هذا المقام بحاجة إلى التعليق على سلوك المقاتل الإسرائيلي الذي لا يعرف قيداً قانونياً أو أخلاقياً أو سياسياً ولا يستجيب إلا لغريزة القتل. كما لن أعلق على الاسلحة المستخدمة وكلها محرمة لأن إسرائيل لا تحارب جيشاً وإنما تدمر حجراً وبشرا, وكل ذلك وفق خطة جاهزة وعمد واضح معلن, ولكن الحجج الإسرائيلية بحاجة إلى دراسات قانونية أوسع ليس هنا المقام المناسب لها, ولكنها دراسات ضرورية حتى لا ينفرد المنطق الإسرائيلي السقيم بعقلية الباحثين الجادين. * كاتب مصري.