استمرار حصار قطاع غزة، بإغلاق المعابر من خلال مصر أو إسرائيل، يعني عزله مادياً عن العالم الخارجي. ويتعرض القطاع أيضاً لحصار بحري وجوي من أعمال الحرب، ويعني منع السفن والطائرات من الاقتراب من شواطئ غزة أو أجوائها أو استخدام موانئها أو مطاراتها. والمعلوم أن غزة تتعرض للحصار والخنق النفسي وعدم التواصل الإنساني منذ استيلاء «حماس» على القطاع في حزيران (يونيو) 2007. وهو إجراء أدّت إليه تطورات بدأت برفض نتائج انتخابات 2006، ففرضت إسرائيل حصاراً وساندها في ذلك المجتمع الدولي والعالم العربي. ولا شك في أن عملية «الرصاص المصبوب» التي تعمدت فيها إسرائيل إحراق قطاع غزة هي جزء من مخطط القضاء على المقاومة من طريق إبادة السكان أو وضعهم في ظروف تدفعهم إلى إعلان العداء للمقاومة. ومن الواضح أن الحصر والحصار كليهما قد فشلا في تحقيق الهدف. فكان إحراق غزة هو تتويج للمخطط الإجرامي من ناحية، وانتقاماً من صمود أبنائها وقناعاتهم السياسية في وجه بيئة إقليمية ودولية مساندة لإسرائيل. ولوحظ أن عملية «الرصاص المصبوب» التي فضحت الإجرام الإسرائيلي ووضعت إسرائيل بجرائمها في اختبار لصدقية القانون الدولي والقضاء الجنائي الدولي، لم تحقق هي الأخرى الهدف الإسرائيلي وهو إزالة المقاومة السياسية والعسكرية على رغم كل مظاهر الفجور الإجرامي والقوة الخرقاء في هولوكوست معاصر تتصاغر أمامه كل دعاوى الهولوكوست اليهودي في ألمانيا. ودرسنا في مناسبات سابقة الجوانب القانونية لمحرقة غزة والفوارق الهائلة بين الهولوكوست الألماني ضد اليهود، والهولوكوست الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، ولكن الذي يهمنا في هذه الدراسة الموجزة هو تحديد التكييف القانوني لمسألة استمرار الحصار والحصر ومقاومة كل محاولات كسر هذا الحصار، خصوصاً إغلاق المعابر، والاستيلاء على سفن كسر الحصار وممارسة الإرهاب ضد ركاب هذه السفن ومصادرتها بحمولتها، ثم بيان كيفية مقاضاة هذا الوحش الصهيوني الذي استأسد بسسب البيئة العربية المساندة له أو الواجفة خشية بطشه وانتقامه. النقطة الأولى: الحصار واستمراره وآثاره في القانون الدولي أغلقت إسرائيل المعابر التي تربط قطاع غزة بالعالم الخارجي من خلال إسرائيل، فحرمت قطاع غزة من مصادر الحياة والطاقة التي كانت إسرائيل تسمح بها عبر المعابر، كما حرمت غزة - التي ارتبطت مادياً واقتصادياً ربطا محكماً بإسرائيل – من المعونات الدولية التي توزعها وكالة غوث اللاجئين في القطاع والتي تأتيها من خلال إسرائيل. في الجانب الآخر أغلقت مصر معبر رفح بشكل شبه دائم وتفتحه لمدة قصيرة ولأغراض إنسانية محددة للغاية لكنها لا تسمح بمرور مواد الإغاثة أو الوفود الرسمية مثلما فعلت خلال المحرقة. فما هو السند القانوني للحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة، وما هو السبب القانوني الذي تقدمه مصر هي الأخرى لحصار القطاع؟ الأصل أن إسرائيل تقوم بإبادة الشعب الفلسطيني كخط ثابت في مشروعها الذي يهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها العرب، لكن إسرائيل تقدم بعض المبررات القانونية لأعمال الحصار والحصر التي تفرضها على القطاع من البحر والبر من طريق إغلاق المعابر، حيث تعلن إسرائيل أنها سبق أن أعلنت قطاع غزةإقليماً معادياً بما يسمح لها بممارسة كل الأعمال العدائية ضده. يرد على التبرير الإسرائيلي خمسة تحفظات: الأول أنه لا يوجد في القانون الدولي ما يسمح لأي دولة بأنها تعلن من تلقاء نفسها وضعاً قانونياً معيناً لإقليم لا يخصها. التحفظ الثاني، هو أنه مهما كانت درجة عداء إسرائيل لغزة فإن العداء يجب أن ينصب على الأفعال المعادية لها في الإقليم وألا تتذرع بفكرة العداء لتقوم بإبادة منظمة تقضي على فرص الحياة للسكان. التحفظ الثالث أنه حتى لو تذرعت إسرائيل بحق الدفاع الشرعي، أي استخدام الحصار رداً على صواريخ حماس، فتلك حجة داحضة، لأن الدفاع الشرعي يشترط فيه التناسب بين الفعل الضار والفعل المشكل للدفاع الشرعي، ولأن الحصار والخنق بدأ قبل صواريخ حماس، وأن هذه الصواريخ هي الدفاع الشرعي والتذكير بما يتعرض له الفلسطينيون من إبادة، واحتجاجاً على استمرار صور الاحتلال. التحفظ الرابع، هو أن إسرائيل دولة محتلة لغزة وأن هذا الاحتلال جاوز الآن أربعين عاماً كما أنه احتلال استيطاني، ولذلك لا تستطيع إسرائيل أن تعلن غزةإقليماً متمرداً على سلطتها لأن الاحتلال طويل الأجل لا يحتفظ للمحتل بأي ميزة في القانون الدولي، بل يحق لسكان الإقليم المحتل أن يتخلصوا منه بكل ما لديهم من سبل وأدوات. التحفظ الخامس هو أن إسرائيل تقول إنها تحاصر غزة لمساندة أبو مازن في إعادة الإقليم المنشق إلى بيت الطاعة تحت قيادة السلطة وهي تعلم أن حماس الفائزة في انتخابات 2006 كان يجب أن تشكل حكومة السلطة بعد سيطرتها على المجلس التشريعي للسلطة، وذلك كله تعبيراً عن إرادة الشعب الفلسطيني المحتل. التحفظ السادس هو أن إسرائيل تزعم أيضاً أنها تحاصر غزة حتى تخضع حماس لشروط السلام التي وضعتها اللجنة الرباعية، وهي الاعتراف بإسرائيل ووقف العنف والاعتراف بالاتفاقات السابقة. وعلى رغم أننا سبق أن فندنا هذه الذرائع السياسية في مناسبة أخرى، إلا أن هناك فرقاً بين الضغط لتحقيق هدف سياسي، وبين أن يصل الضغط إلى حد انتهاك كل حقوق الشعب الفلسطيني في البقاء. النقطة الثانية: الموقف المصري والعربي والدولي من الحصار. موقف مصر: تطالب مصر مع غيرها من دول العالم برفع الحظر «الظالم»، لكنها تساهم في شكل عملي ومستمر في هذا الحظر، من طريق إغلاق معبر رفح، على رغم أن مصر مدعومة قانونياً وإنسانياً إذا قررت تحدي إسرائيل بفتح المعبر، فلا حاجة في هذه الحالة لسفن كسر الحصار. وعلى رغم أن هذا الإغلاق في حالة السلم يعد من جرائم الإبادة الجماعية بقطع النظر عن توفر نية الإبادة، فإن ممارسة هذا الإغلاق وقت المحرقة يحرم الفلسطينيين من الحق في الفرار من الهلاك وهي من أبرز الجرائم ضد الإنسانية، مثلما أنها من المخالفات الجسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة لالتزام أساسي وهو أن تهب جميع الدول الموقعة على هذه الاتفاقية لوقف جرائم الدولة المحتلة ضد الشعب المحتل، وهذ الالتزام يقع على مصر وعلى غيرها وفق فرص كل دولة في مقاومة الحصار. ولاشك أن استمرار إغلاق المعبر، الرئة الوحيدة غير الإسرائيلية لغزة مع العالم الخارجي، لا يشفع في دفعه ما تقول مصر بشكل مرتبك وهو أنها حرة في إغلاق المعبر لاعتبارات المصلحة الوطنية أو أنها لم تغلق المعبر يوماً، أو أنها لا تريد أن تحقق إسرائيل هدفها من فتحه بدفع الفلسطينين إلى سيناء وفق مخطط معروف، لأن المرور الانتقائي في المعبر يناقض هذه المواقف. بقي تفسيران للموقف المصري: الأول هو أن مصلحة مصر التقت مع مصلحة أبو مازن وإسرائيل في إضعاف حماس لما أشيع من علاقة حماس بالإخوان في مصر، أو لأن مصر تريد إنهاء انقسام الضفة وغزة ووضعها تحت سلطة أبو مازن. التفسير الثاني، هو أن مصر تغلق المعبر لئلا تتحدى رغبة إسرائيل في مخطط إبادة شعب غزة، أو رغبة أبو مازن في تأديب هذا الشعب الذي رفض التمرد على حماس، أو لأنه اختار حماس والمقاومة وكلاهما محظور في السياسات العربية. كل ذلك لا يمنع أن مصر تسهم في ارتكاب الإبادة الجماعية، مع فارق خطير بين ما تقوم به إسرائيل العدو، وما تقوم به الأخت الكبرى التي اختل المؤشر القومي بل المصري لديها. والطريف أن العرب والعالم يمارسون نفاقاً واضحاً عندما يطالبون في مؤتمرات القمم والخارجية بفتح المعابر ورفع الحصار، وكان آخرها في قمة الدول الثمانية الصناعية الكبرى في إيطاليا في الأسبوع الثاني من تموز (يوليو) 2009، بينما لم يتخذ أحد موقفاً عملياً أو تحذيراً رسمياً بسبب تصدي إسرائيل لقوارب كسر الحصار، أو عمل مصر على عرقلة عبور بعثات مساندة لسكان غزة ضد الحصار عبر معبر رفح. النقطة الثالثة:الوضع القانوني لغزة وكيفية ملاحقة إسرائيل: غزةإقليم يخضع للاحتلال الإسرائيلي لأن معيار الاحتلال في القانون الدولي ليس الوجود العسكري وإنما السيطرة الفعلية على الإقليم، وهو ما حدث لغزة، حيث سحبت إسرائيل مستعمراتها لئلا تكون هدفاً للمقاومة انتقاماً من أعمالهم العدوانية ضد سكان القطاع، بينما حاصرت غزة من كل جانب وجعلت جيشها في حالة الاستعداد التام والقيام بتوغلات واغتيالات وقصف حتى تقض مضاجع السكان، إضافة الى الدوريات الجوية والبحرية والعدوان على الصيادين الفلسطينيين كجزء من تجفيف منابع الحياة على السكان، لعلهم يفرون إلى خارج القطاع، أو يتمردون على حماس. إقليمغزة محتل، لذلك يترتب على سلطات الاحتلال التزامات، في مقدمها تأمين السكان ضد المخاطر وتوفير متطلبات الحياة لهم، ولذلك فإن استمرار الحصار والحصر على غزة يعد انتهاكاً لالتزمات إسرائيل في اتفاقية جنيف الرابعة، ومن ثم تعد جرائم حرب كما تعد جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وفق أحكام القانون الدولي الجنائي، وأهم مصادره نظام روما الأساسي الذي فصل هذه الجرائم وأركانها بقطع النظر عن علاقة الدولة المعنية بالمحكمة الجنائية الدولية، فالنظام بيان بما وصل إليه القانون الجنائي الدولي في جرائم النظام العام الدولي. المصدر الثاني للتجريم هو اتفاقية الأممالمتحدة لمنع إبادة الجنس والمعاقبة عليها. ثم المصدر الثالث وهو الاتفاقية الرابعة، وكلها أصبحت جزءاً من القانون الدولي العرفي، حيث تلزم هذه الوثائق هذه الأطراف بالتحرك على أساس الضمان الجماعي ضد أي انتهاك لهذه الوثائق. النقطة الرابعة:إسرائيل وسفن كسر الحصار: قلنا إن إصرار إسرائيل على حصار غزة من جميع الجهات والتصدي لكل من يحاول دخولها من أي اتجاه لكسر الحصار يعد جريمة مركبة، ذلك أن الأصل أن تقوم إسرائيل بنفسها بتوفير احتياجات سكان غزة اللازمة للوجود الإنساني ما دامت لا تزال دولة محتلة وفق القانون الدولي. أما أن تقوم إسرائيل نفسها بالحصار ومنع وصول إمدادات الحياة فهذه جريمة أخرى من جرائم الحرب وضد الإنسانية، وتنطوي على نية إجرامية لإبادة الشعب الفلسطيني. ومادام مجرد التصدي للسفن جريمة فإن احتجاز السفن ومصادرة حمولتها والاعتداء على ركابها بحجة أن السفن تنقل أسلحة إلى سكان غزة على خلاف الحقيقة، فهذه جرائم إضافية، بل إن القانون الدولي يشجع نقل الأسلحة إلى السكان لاستخدامها في مقاومة الاحتلال لأن عدم مشروعية الاحتلال هو نفسه الأساس القانوني لمشروعية المقاومة، بل إن تصدي إسرائيل للمقاومة جريمة أخرى في القانون الدولي المعاصر. فالاعتداء على السفن واعتراضها ثم سحبها إلى داخل الموانئ الإسرائيلية والاستيلاء على حمولتها والاستيلاء على السفينة وإساءة معاملة ركابها بافتراض أنهم معتدون، كلها تشكل جرائم من النوع المشار إليه استناداً إلى أحكام اتفاقية جنيف الرابعة واتفاقية الإبادة لعام 1948. يترتب على ذلك أن القضاء الوطني في جميع الدول يختص بنظر هذه التصرفات والحكم بعدم التصدي للسفن والإفراج الفوري عنها وعن حمولتها وركابها والتعويض عن أية أضرار تلحق السفينة وصاحبها وركابها. والمعلوم أن الإدانة والتجريم والتعويض أساسه القانون وليس الجانب الإنساني من حيث أن السفينة وحمولتها وركابها كلهم يعملون لإنقاذ سكان غزة من هذه الجريمة المستمرة تحت سمع وبصر العالم «المتحضر». ولذلك أوصي بضرورة رفع دعوى ضد الحكومة الإسرائيلية التي أصدرت الأوامر لجيشها بترويع سفن كسر الحصار وبارتكاب باقي الأفعال المشكلة لهذا النوع من الجرائم ويفضل أن ترفع هذه الدعاوى في الدول العربية، وأولها مصر، لمعرفة سلوك القضاء المصري في هذه الواقعة الحساسة، كما أن رفع الدعوى أمام القضاء العربي يحدد موقف هذه الدول التي سكتت تماماً عن إدانة كسر الحصار رغم أنها تطالب رسمياً في كل المحافل برفعه. وأوصي برفع هذه الدعاوى أمام قضاء الدول الأوروبية والولايات المتحدة. وقد ندفع إسرائيل في هذه الأحوال بدفوع ثلاثة: أولها أن إسرائيل تتمتع بالحصانة فلا يجوز لقضاء أجنبي أن يقاضيها وهذا مردود عليه في الاتفاقية الرابعة واتفاقية الإبادة. الدفع الثاني، هو تبرير هذه التصرفات بأن هذه السفن تعين السكان على الصمود حتى لا يتمردوا على انقلاب حماس في غزة وهذا دفع لا يجوز لإسرائيل إبداؤه لانتفاء الصفة والمصلحة المشروعة فيه. الدفع الثالث، أن إسرائيل في حالة حرب مع حماس وأن التصدي للسفن يدخله في إطار حق التفتيش المعترف به في حالات الحرب، وهذا دفع لا أساس له لأن علاقة إسرائيل بغزة هي علاقة سلطة محتلة بإقليم محتل، ولا يتصور قيام حالة حرب تبرر لسلطات الاحتلال صلاحيات الدولة المحاربة. * كاتب مصري.