مهما تسفر عنه نتائج الصفقة المرتقبة لتبادل الأسرى بين "حزب الله" والحكومة الاسرائيلية، هناك فروق جوهرية تجدر الاشارة اليها بين الذي جرى في لبنان في معرض صراعه مع اسرائيل خلال العقدين الاخيرين وبين الذي جرى ويجري على الساحة الفلسطينية الاسرائيلية منذ عقود. وبعيداً عن الكلام العاطفي الذي يغرف عادة من بحر البلاغة العربية التي لم تؤد على مر التاريخ العربي المعاصر الى الا كوارث تلو الكوارث، فان اجراء المقارنة يكشف خللاً استراتيجياً جوهرياً في التوجه الفلسطيني، وهو الذي جعل لبنان ينجح حيث فشلت فلسطين. اولاً، الحرب الاسرائيلية في لبنان التي نشبت في 1982 لم تكن حرباً ضد لبنان، بل ضد فلسطين المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية ووجودها العسكري في لبنان. لقد استغلت اسرائيل آنذاك جميع التناقضات التي كانت في صميم الحرب الأهلية اللبنانية الدائرة. لذلك وصل الجيش الاسرائيلي الى بيروت ابتغاء طرد الفصائل الفلسطينية، على اجنحة هذه التناقضات. ولم يكن ليفلح في تلك المهمة لولا عمق تلك التناقضات الطائفية. من جهة، تكللت خطة شارون بالنجاح في ما يتعلق بانهاء الوجود المسلح للفصائل الفلسطينية في لبنان. غير ان رياح الحرب لا تجري دائماً بما تشتهي سفن الجنرالات فغرق الجيش الاسرائيلي في الوحل اللبناني لسنوات لاحقة ظهرت خلالها قوى لبنانية تمثل قطاعات واسعة صاعدة من داخل المجتمع، على رأسها "حزب الله" الذي بنى وجوده على مقاومة الوجود العسكري الاسرائيلي في لبنان. هكذا بدأ "حزب الله" في الاساس، استنزاف الجيش الاسرائيلي يومياً، فراح يظهر قوةً اجتماعية سياسية مركزية تستند الى نجاحاتها في استنزاف الجيش الاسرائيلي. وهو مادفع بيغن، رئيس الحكومة الاسرائيلية آنذاك، الى الاستقالة والاعتكاف. وكانت حرب المقاومة اللبنانية مبنية على استراتيجية واضحة تمثلت في التركيز على طرد الجيش الاسرائيلي من لبنان. اي انها دارت بين قوى عسكرية لبنانية والعسكر الاسرائيلي في لبنان، ولم تتخذ المقاومة اللبنانية المدنيين الاسرائيليين هدفاً. على هذه الخلفية نشأت في اسرائيل منظمة "الأمهات الأربع" التي اطلقت دعوتها بوجوب "اعادة الأبناء الى البيت"، اي الى الحدود الدولية بين البلدين. وكلما تضاعف استنزاف الجيش الاسرائيلي هناك كانت ترتفع وتعلو اصوات المنظمة ويزداد التعاطف معها داخل المجتمع الاسرائيلي، حتى حمل ايهود باراك هذه الدعوة وجعلها جزءاً من برنامجه الذي أوصله الى رئاسة الحكومة، فأصدر أوامره للجيش الاسرائيلي بالانسحاب من الاراضي اللبناية فتم ذلك خلال ليلة واحدة. ماذا يعني ذلك؟ الوجود الاسرائيلي الذي استمر ما يقارب العقدين، اقتصر على الوجود العسكري ليس الا، ولم تكن هناك مطامع اقليمية بالأرض، على الاقل في السياسات المعلنة للحكومات الاسرائيلية المتعاقبة. الجيوش النظامية للدول تنفذ أوامر حكوماتها. اي ان الجيش النظامي الاسرائيلي كانت تنقصه الأوامر الحكومية بالانسحاب وحين جاء الامر تم تنفيذه فوراً. ليست الحال على هذا المنوال في ما يتعلق بالوجود الاسرائيلي في فلسطين. ليس صدفة ان الانتفاضة الاولى انطلقت بعد جلاء الفصائل الفلسطينية من لبنان وتشتتها بعيداً عن حلبة الصراع. وقبل ابرام معاهدات السلام بين مصر واسرائيل كان الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ينتظرون ان يأتي الخلاص على ايدي الدول العربية المحيطة باسرائيل. لذلك جلسوا "في انتظار غودو" العربي طويلاً. هكذا خرجت مصر، القوة العربية الاكبر، من الصراع، فانتظر الفلسطينيون ان يأتي الفرج من الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان. وحينما انسدت جميع الطرق ظهرت الانتفاضة الاولى التي قادت الى اوسلو في اعقاب غزو الكويت وحرب الخليج. وها هي الانتفاضة الثانية التي حاولت ان تستلهم الانسحاب الاسرائيلي من لبنان من دون ان تفهم قيادات الانتفاضة الفارق الجوهري بين الوضعين. وخلافاً للوضع اللبناني، هناك مطامع اقليمية اسرائيلية بأرض فلسطين، وهي المطامع التي زرعت المستوطنات على طول الضفة وعرضها، وفي غزة ايضاً. وفي الوضع الذي نشأ خلال هذه العقود من الاحتلال، لم يعد بوسع اي حكومة اسرائيلية ان تصدر للجيش الاوامر بالانسحاب من فلسطين. فالوجود الاستيطاني المدني الذي تعاظم خلال تلك العقود يجعل امراً من هذا النوع ضرباً من المحال. من جهة اخرى، أحدثت العمليات الانتحارية التي استهدفت المدنيين في اسرائيل التفافاً حول مروّجي ايديولوجيات استخدام القوة في المجتمع الاسرائيلي وانحساراً في صفوف حزب العمل والقوى التي على يساره. كذلك فقيام منظمة "الأمهات الأربع" على غرار ما جرى في لبنان، لم يمكن ان يحدث في هذه الظروف، اذ الدعوة الى "اعادة الأبناء الى البيت" لا تسري هنا، لأن الابناء في نظر قطاعات المجتمع الاسرائيلي الواسعة يُقتلون "هنا" في اسرائيل وليس "هناك" في المناطق المحتلة. هذا هو بالضبط الوضع الذي جعل شارون يكتسح الانتخابات للمرة الثانية. هذه الحقائق والوقائع لا تفهمها القيادات الفلسطينية، وربما لا تريد فهمها أصلاً لأنها منشغلة اما بغيبيات خارج التاريخ، مثلها في ذلك مثل اليمين الغيبي الاسرائيلي واما بقضايا ثانوية مثل من يكون وزيراً للداخلية وما شابه من تسميات لوزارات لا تعني الكثير. وقد يكون الوضع الحالي في غاية التعقيد، لكن وصفه بهذه الصورة لا يمكن ان يشكل برنامجاً سياسياً لقيادات الشعوب. فمهما تفاقم الوضع في فلسطين اسرائيل ثمة حقيقة ينبغي للجميع ان يعوها موضوعياً: لن يختفي أي من الشعبين من هذه البقعة، لذلك من الأحرى ان يعمل ذوو البصيرة في الطرفين على بناء الثقة بين الشعبين. وهذه الثقة لا يمكن ان تحصل على ارضية الاحتلال والاستيطان والتهديم من الجهة الاسرائيلية، ولا بالتفجيرات واستهداف المدنيين في اسرائيل من الجهة الفلسطينية.