ينتهي المطاف بحليم بركات، وقد تجاوز السبعين ونشر مؤلفات في السوسيولوجيا وروايات كان لها صدى عند إصدارها، الى رحاب السيرة الذاتية مُسائلاً المسارات التي اجتازها في زمن الفتوة منتصف القرن العشرين، ثم مطلاً عليها من شرفة القرن الواحد والعشرين. وإذا كانت هناك اكثر من قرينة تؤشر على"التعاقد"السّيرذاتي الذي يصدر عنه نص"المدينة الملونة"على امتداد ما ينيف عن خمسمئة صفحة، فإننا نجد في الآن نفسه مكونات نصية تزحزح إطار السيرة الذاتية وتشدها الى جنس تعبيري يوظف ايضاً اليوميات والرسائل ومقتطفات من مقالات وقصائد كُتبت منذ اربعين أو خمسين سنة. نُحس من بنية النص وتعديد مواقع السارد، ان الكاتب لا يريد ان يكتب مجرد سيرة ذاتية كلاسيكية، وإنما هو حريص على ان يُدخل تنويعات شكلية توسع من نطاق النص ليُلامس حيوات وفضاءات وأحداثاً تتعدى المجال المتصل بحياته وسيرته. من ثم، فإن اختيار عنوان"المدينة الملونة"يلفت نظرنا الى أن بيروت التي نزح إليها الكاتب وهو في التاسعة من عمره، تحتل حيزاً اساساً في هذه السيرة، وهو ما يتيح إطلالات على مساري الصعود والانحدار لمدينة ارتبطت في خمسينات القرن الماضي بحركة ازدهار ثقافي وحرية سياسية واعدتين. وقد لا نبتعد عن مقصد الكاتب إذا قلنا بأنه يتوخى، على الأقل، هدفاً مزدوجاً: التأريخ لحياته وصداقاته الكثيرة ونضال اسرته الصغيرة من اجل العيش وانتزاع اعتراف اجتماعي، ومحاولة فهم هذا المسار ضمن سياقات المدينة - الرمز والأحداث السياسية المؤثّرة في تشكيل وعي الجيل الذي ينتمي إليه حليم بركات. نستشف ذلك من قوله:"ثم انني عدتُ الى يوميات قديمة فاكتشفتُ كم نسيت من أحداث حياتي، وما توصلنا إليه من قناعات ومعتقدات. وما المشاعر التي أحسست بها إلا كما لو كانت جرحاً في نفسي أو كما لو أصبحتُ مؤرخ حياتي من دون تصميم مني". ص22 إن ما يميّز السيرة الذاتية، شكلاً عن المغايرات والتنويعات المتفرعة عنها اليوميات، المذكرات، الصورة الشخصية، الاعترافات... هو انها تستعيد حياة كاتبها اعتماداً على الذاكرة واستحضار الماضي مع ما يقترن بذلك من انتقاء وحذف وتوهم وتخييل. لكن في"المدينة الملونة"يُطالعنا حرص على التوثيق وجعل مصير الكاتب متواشجاً ومتفاعلاً مع مصير بيروت ورمزيتها. لذلك لم يكتف بسرد زمن الفتوة كما أعلن، بل نقل منظور السرد الى نهاية القرن العشرين في مطلع النص، ثم الى شرفة القرن الواحد والعشرين في آخره. وهذا الحرص على تعديد محافل السرد من خلال وضع الكاتب السارد في ثلاثة مواقع زمنية، إنما يعبر من الرغبة في ألاّ تختزل سيرته الى فترة الفتوة وبناء الذات. وهو اختيار سردي سيقود الكاتب الى مواجهة مفعول الزمن وسطوته، وسيفتح رحلته الحياتية على أسئلة تُجاوز الخاص الى ما هو متصل بالتاريخي والميتافيزيقي... إلا ان تعددية جنس"المدينة الملونة"تظل تعلن عن نفسها من خلال تذكير الكاتب لنا، في أكثر من فصل وموضع، بأنه استعان بذاكرات الآخرين وبمصادر ووثائق ويوميات ليُنعش ذاكرته ويستحضر اللحظات البارزة في مرحلة فتوته ببيروت. من ثم، فإن"المدينة الملونة"كثيراً ما تأخذ شكل نص روائي يتعدى المعيش والواقعي الى الاحتمالي والتخييلي عبر تعديد محافل السرد والأصوات واللغات، وصولاً الى"مجابهة"الزمن في نزواته ومفعولاته الساخرة من الإرادات المتطلعة الى التغيير. الفتوة ويقظة الذاكرة على رغم حجم"المدينة الملونة"الكبير، فإن الكاتب لا يروم سوى التأريخ لفترة الفتوة في حياته، أي منذ نزح مع اسرته الى بيروت من القرية السورية الكفرون وهو في سن التاسعة، وصولاً الى بداية الشباب وقد تخرّج في الجامعة وأصبح أستاذاً بإحدى المدارس الإعدادية وكاتباً ينشر قصصاً ومقالات ويُسهم في بلورة مفاهيم الحداثة التي كانت تحتضنها بيروت في الستينات. لكن عدم تقيد الكاتب بالتسلسل الزمني ولجوءه الى استحضار الظروف التي أنجز فيها هذه السيرة، جعله يفضي بوقائع كثيرة تتصل بحياته في فترات تتعدى زمن الفتوة. من خلال الفصول الثمانية التي يخصصها للسيرة، نتابع اهم المراحل واللحظات في رحلته وتكوينه، بترابط مع حياة عائلته التي عرفت بفضل امه مريم، بعد موت الأب الباكر، كيف تواجه الفقر والهجرة وأعباء الهجرة وأعباء العيش لتتيح لحليم وأخته ندى وأخيه كمال، الوصول الى مرافئ أنقذتهم من العوز والجهل والتهميش. وإلى جانب الأم، هناك ابنة العمل بهية الجميلة التي اضطرت ايضاً الى الهجرة الى بيروت حيث فرضت نفسها وقاومت إغراءات الطامعين في جمالها، وحققت مكانة اجتماعية بعد ان تخلت عن الالتحاق بالكنيسة حماية لنفسها... ويحتل حليم، وسط العائلة، مكاناً مميزاً لأنه الوحيد الذي أكمل تعليمه وكتب قصصاً وروايات، واضطلع بدور الأب الى جانب امه المتفانية في خدمة ابنائها... رحلة تحفها المصاعب والآلام، لكن طموح نادر الكفروني كما يسمي الكاتب نفسه في النص أخرج العائلة من غُفليتها وجعلها تندمج في مسار لبنان خلال مرحلة تاريخية واجتماعية بارزة. ولعل أهمية المرحلة هو ما جعل الكاتب يحرص على أن يربط سيرته بمصير بيروت وما كانت تنطوي عليه من رموز وأحلام. على هذا النحو، فإن ملامح نادر الكفروني وتضاريس حياته لا تبرز وتتبلور إلا من خلال علائقها بپ"رواية العائلة"من جهة، ثم امتداداتها داخل فضاء بيروت، من جهة ثانية. نُطالع، إذاً، تفاصيل عن تنافر سلوكيّ نادر وأخيه كمال، وعن الجفاء بينهما العائد الى شعبية كمال بين البنات وغيرة نادر منه، ونقرأ صفحات عن الأخت ندى التي تحملت التضحيات، مثل امها، في سبيل إسعاد الأسرة، وعن العم كريم الطامح الى الزواج من بهية... ونقرأ صفحات كثيرة عن علاقة نادرة بصديقه الحميم عادل أميوني الذي كان يُطلعه على مذكراته ويُقنعه بالانخراط في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أنشأه ونظّر له انطون سعادة. وفي ما يتصل بالحياة العاطفية والجنسية لنادر الكفروني ، تستوقفنا علاقته بكل من رؤى التي هاجرت الى اميركا، وصبا التي أضرمت حباً سرعان ما أجهضه قرار عمها الجائر، فعاد نادر الى رؤى ليتزوجها ويستقر معها في المهجر. في موازاة ذلك، يستأثر الحديث عن فورة بيروت الثقافية والسياسية بقسط وافر من الكتاب، لأن حليم بركات يربط ربطاً وثيقاً بين مرحلة تبلور وعيه ومسار بيروت واندفاعها في خمسينات القرن الماضي نحو الحداثة وتجديد الفكر السياسي وإذكاء جذوة التمرد على رواسب الماضوية والتقاليدية. من هذه الزاوية، تطالعنا ذكريات ووقائع مضيئة عن التكون الثقافي لصاحب السيرة، وعن توزعه بين حب الأدب الذي انغرس فيه من خلال قراءة جبران خليل جبران، ونزوعه العقلاني الى السياسة وإصلاح المجتمع. وهو ما ولّد لديه صراعاً متجدداً لأنه كان يخشى ان يقوده التزامه داخل الحزب"القومي"الى عواقب تضر بوضعية عائلته. إلا ان جذوره الاجتماعية وحرصه على تغيير واقع الحيف والطائفية ستؤول به الى الالتزام الحزبي والانفتاح على محافل الجدال الفكري والأدبي مع أصدقاء كان لهم دور بارز في تشييد صورة بيروت الرائدة، المتمردة، من امثال الشاعر ادونيس ويوسف الخال وجبرا ابراهيم جبرا، وخالدة سعيد. إنه المناخ الذي تبلور عبر مجلة"شعر"وندواتها الأسبوعية، ومجلة"الآداب"التي احتضنت حركة الشعر الجديدة وطرحت قضية الالتزام في الأدب. ولعل من أقوى الصفحات تلك التي تتصل بالأم وبابنة العم بهية، لأن الكاتب يستحضرهما عبر ظلال وتلاوين تجللها الأسطورة والحكايا المجنحة والعاطفة المشبوبة تجاههما. إن نادر الكفروني الذي كان يجد نفسه في:"السباحة والكتابة والموسيقى وتسلق الجبال والصخور والأشجار"، قد اكتشف عند امه قدرة على سرد القصص واستعداداً للاستماع الى ابنها وهو يحكي لها روايات قرأها، او وهو يحدثها عن مشروع رواية ينوي كتابتها. يُضاف الى ذلك إعجابه الشديد بشجاعتها وتفانيها وهذا التواطؤ الذي ينسجه بينهما التعلق بالتخييل ومتعة الحكي. اما بهية ابنة العم الفاتنة، فإنها ترتسم امامنا متدثرة بغلائل الأسطورة والحلم، لأنها مفرطة الجمال، لها شخصية قوية تسندها في هجرتها الى بيروت ثم الى جدة، وفي حبها المستحيل لمروان وإصرارها على العمل للإنفاق على أسرتها بسخاء، متحملة الوحدة وإشاعات ألسنة السوء. والكاتب يعتبر بهية"لؤلؤة"العائلة ومصدر فخر لها، مثلما هو مصدر فخرها في مجال الثقافة والعلم. بعبارة ثانية، فإن حضور المرأة في"المدينة الملونة"يتسم بالبهاء والاعتبار لتضحياتها التي لا يعترف بها المجتمع البطريركي. وامتداداً لهذا الحضور المشرق، تتلألأ قصة حب حليم بركات المزدوجة لكل من رؤى وصبا لتضفر إكليلاً رومانسياً يستعين به ليجتاز صحارى العنف السياسي، وأحقاد الطائفية، وإغراءات الضياع:"... بل واجهتُ نفسي بأنني أحب فتاتين في شكل خاص. تعلقت بصبا التي اصبح لها حضور مباشر في حياتي، وحلمتُ برؤى التي لم أعد متأكداً كيف تشعر تجاهي بعد مرور سنوات على غيابها. حين تحضر إحداهما تغيب الأخرى، وحين تغيبان معاً، أضيع أنا وأستغرب كم أتكلم عن الضياع الذي لم أعد متأكداً هل استلهمتُه من واقع حياتي أم من قراءاتي في الفلسفة الوجودية". ص407 منطق التاريخ الضبابي تطفح"المدينة الملونة"بتأملات وأفكار كثيفة، متنوعة، وتحتضن قصائد وأغاني وذكريات شجية، ضمن إطار سيرة ذاتية لها تنويعات وتضاريس مغايرة للنمط السيرذاتي المألوف، أقله انها تُزاوج بين سيرة كاتب ومسار مدينة، بين"رواية عائلية"وأحداث متفردة، بين الحميمي والشأن السياسي... إلا انها، في نهاية التحليل، تنبني على"مواجهة"بين صاحب السيرة والزمن الذي عبره وأثّر في تكوينه. من هنا، يمكن ان نتخذ نقطة انطلاق تأويلنا لپ"المدينة الملونة"، ذلك الاهتمام في صفحات النص بفهم عمق الزمن ومحددات إواليات التاريخ، أو كما عبّر حليم بركات:"كيف اصبحنا كوطن وأمة، نعيش على هامش الوجود بعد ان كنا نحلم ان نقترب من مركزه؟". ص525 فعلاً، إن حليم بركات في غمرة بحثه المضني عن ذاته الفتية التي كانت تقاوم الفقر والفوارق الطبقية، وتنفتح على آفاق المعرفة والكتابة، ظل دائماً يستحضر بيروت المزدهية بفتوّتها وتألقها في سماوات الشعر والفكر ووعود الثورة. وبين جيئة وذهاب، يغوص في أنقاض الدمار الذي اصاب بيروت مكتسحاً ما كانت تمثله من رموز مضيئات. وعلى هذا النحو، نقرأ اصداء المناقشات الفكرية والسياسية التي رافقت فتوة نادر، ونقف على اهم الأحداث والمعارك التي خاضها لبنان وفي مقدمها الحرب الأهلية العام 1958... لماذا، إذاً، تقوّضت احلام الحداثة والعلمانية والديموقراطية الحق؟ يسوق حليم بركات تحليلات وافتراضات تلتقي عند نقطة اساس وهي استمرار الطائفية والامتيازات الدينية، والمتاجرة بالسياسة. وبطبيعة الحال، فإن هذا التشخيص كان مُقترناً بظهور وعي جديد خلال خمسينات القرن الماضي، لكن السنوات التالية، وإلى اليوم، تبدو مؤكدة له. مع ذلك، فإن هذا التلازم القدري بين لبنان والطائفية يدعو الى طرح مسألة علاقة الإنسان بالتاريخ وسيرورة تبادل التأثير بينهما. وهي ذات المشكلة التي تعرض لها ميلان كوندرا في كتابه"الوصايا المغدورة"، موضحاً بأن للتاريخ قوانينه الخاصة التي غالباً ما تبقى غامضة عند الإنسان، ويضرب مثلاً بشخوص تولستوي التي يبدو انها تتقدم في حياتها مثلما يسير المرء وسط الضباب:"اقول الضباب لا الظلام: ففي الظلمة لا نرى شيئاً، نكون عمياناً، خاضعين لا أحراراً. ووسط الضباب نكون احراراً إلا انها حرية من هو داخل الضباب: يرى على بُعد خمسين متراً ما هو امامه، ويستطيع ان يميز بوضوح ملامح مُحاوِره ويمكنه ان يلتذ بجمال الأشجار المرصعة للطريق، بل وأن يرصد ما يجري على مقربة منه، وأن يقوم برد فعل. الإنسان هو ذاك الذي يتقدم وسط الضباب، غير انه عندما ينظر الى الوراء ليحكم على ناس الماضي فإنه لا يرى أي ضباب على الطريق ... ناظراً الى الوراء، يرى الإنسان الطريق والناس الذين يسيرون، ويرى اخطاءهم، إلا ان الضباب لم يعد هناك"ص 279 النسخة الفرنسية. هل نقول ان رؤية حليم بركات الى جوهر مشكلات لبنان، لم تتشح بالضباب منذ مطلع شبابه، وكأن الرؤيا الشعرية التي تدثّر بها في غمرة نضاله السياسي، قد أكسبته حصانة ضد الرؤية الغائمة؟ مهما يكن، فإن استمرار الطائفية وبقية ادواء لبنان الى اليوم، هو تأكيد لخصوصية قوانين التاريخ التي استنتجها كونديرا من روايات تولستوي والتي تطرح معضلة تأثير الوعي في مجرى التاريخ الفعلي، لأن الجدلية بينهما لا يمكن اختزالها في بدائل تنظيرية، بل هي تخضع لانعطافات وإواليات معقدة قلما يستطيع التحليل العقلاني استيعابها. من هذا المنظور، تبدو"المدينة الملونة"اكثر من سيرة ذاتية، هي اقرب ما تكون الى نشيد ذي نفس ملحمي يريد ان يتحدى قوى الدمار ورياح الوقت الجاذبة نحو الاندحار، متدثراً بلغة شعرية وأسلوب غنائي تتخلله تحليلات عقلانية ذكية، وكأن هذه المزاوجة بين الشعرية والتأملات الفكرية تتصادى مع رغبة حليم بركات في ان يعانق، في آن واحد، الحدس الرؤيوي والتحليل العقلاني وهو يقطع صراط الحياة المحفوف بالحيرة والآلام.