وزارة الصناعة والثروة المعدنية تمكِّن 150 مصنعًا من تحقيق معايير الجودة العالمية    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة إندونيسيا    انتظام 700 ألف طالب وطالبة بجدة مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    حرس الحدود بمكة ينقذ مواطنًا تعطلت واسطته البحرية في عرض البحر    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    الابتسام يتصدر ممتاز الطائرة    دور التحول الرقمي في مجال الموارد البشرية في تحقيق رؤية المملكة 2030    منتدى الاستثمار الرياضي في أبريل    وزير التخطيط والتعاون الدولي: المشاريع السعودية تسهم في تحسين الخدمات باليمن    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    موافقة خادم الحرمين الشريفين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    الخريجي وسفير أمريكا لدى المملكة يستعرضان العلاقات الثنائية بين البلدين    تعيين الشثري رئيساً تنفيذياً لهيئة المنافسة    إحباط 3 محاولات لتهريب أكثر من 645 ألف حبة محظورة وكمية من مادة «الشبو»    ترسية المشروع الاستثماري لتطوير مستشفى متخصص لعلاج الإدمان    المملكة تدين القصف الإسرائيلي على مدرسة أبوعاصي في غزة    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    أكثر من 6 ملايين عملية إلكترونية عبر «أبشر» في أكتوبر 2024    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    مقتل المسؤول الإعلامي في حزب الله اللبناني محمد عفيف في قصف إسرائيلي على بيروت    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    السياحة: نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95% بالتزامن مع إجازة منتصف العام الدراسي    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    بيولي ينتظر الدوليين قبل موقعة القادسية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    الإستشراق والنص الشرعي    المتشدقون المتفيهقون    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    وطنٌ ينهمر فينا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحولات قرن عربي : من خريف النهضة إلى ثورة الحداثة . الرواية العربية خلال مئة عام : أسئلة الواقع وهموم الذات والجماعة 5
نشر في الحياة يوم 23 - 12 - 1999

يبدو الإنتاج الروائي العربي، اليوم، مزدهراً، مُعترفاً به، يمارس كتابتَه روائيون من المركز والمحيط من دون تهيُّب ولا انتظار لأن يكتمل تَبرجُز المجتمع لتَتَوافر شروط "الرومانيسك"، كما كان يلح على ذلك مُنظّرو الرواية في أوروبا... كتابة الرواية في العالم العربي، خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن، تستجيب لرغبة جامحة في فَهم الذَّات، وفَهم المجتمع وأَوالياته المعقَّدة والتعبير عن جوانب ومشاعر ظلَّت مكبوتة وغائبة في الخطابات الثقافية السائدة.
من هذا المنظور، نحن نحاول استعادة المحطَّات الأساسية لرحلة الرواية العربية خلال
المئة سنة المتصرمة، سنتغاضى عن أسئلة أضحت مُتجاوزة أو مغلوطة مثل: هل توجد رواية عربية؟ وهل شكلها مستورد أم أن له جذوراً في تُراثنا النثري؟...
والقراءة التركيبية التي نقدمها، هنا، هي قراءة إيجابية تَنسيبيّة، تسعى إلى إبراز مميزات الخطاب الروائي العربي كما تحققت في بعض النصوص التي لفتت الأنظار، وحظيت باهتمام القراء وتعليقات النقّاد، من غير أن نزعم الإحاطة والتقصّي. إنه من الصعب، افتراضُ نموذج لما يجب أن تكون عليه الرواية العربية، نعتمده ونحتكم إليه في غربلة او اختيار الأفضل من بين النصوص المنجزة.
بدلاً من ذلك، ننظر إلى الرواية العربية من خلال الوظيفة التي تضطلع بها في الحقل الثقافي وفي مجال التداول بين قرائها المحدودي العدد لأسباب معروفة.
وفي هذا السياق، نذكُر بأن الوضع الاعتباري للرواية العربية اقترن، منذ بدايتها، بقُدرتها التعليمية والتربوية. وامتداداً لهذا المفهوم، نلاحظ أن الرواية، عند كُتّابها ومعظم قرائها، هي أداة استكشاف ومعرفة، تناهض اللغة الأحادية، وتمتح من مناطق المسكوت عنه، فضلاً عن أنها تتضمّن متعة خاصة تخرج المتلقّي من عالمه المعتاد... وقد يكون هذا المفهوم للرواية عندنا، المتطوّر عن مفهومها التعليمي الأول، هو ما يفسر شبه انعدام الرواية البوليسية التي لم تُفرز كتُاباً عرباً يعتدُّ بإنتاجهم.
والانطلاق من الوضع الراهن للرواية العربية، ونحن نستعيد محطاتها البارزة، يفترض ضمنياً أنها قد تَصادمت وتفاعلت مع نصوص روائية عالمية غائبة، وأنها في سعيها إلى خصوصيتها قد استوحت بالضرورة، تحوّلات المشهد العربي: جغرافياً نشوء المدن الكبرى والهجرة المتزايدة من الريف إلى المدينة، تاريخياً الانتقال من الاستعمار إلى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، اجتماعياً من القبيلة والإقطاعية إلى تصنيفات طبقية تختلط بالطائفية والفئوية، في ظلّ سلطوية الدولة وتعثّر الحداثة وصعود الفكر المحافظ والتّمامي، وتشظّي أحلام الوحدة والدخول في مرحلة الأسئلة الصعبة، المكبوتة...... إلاّ أنه استيحاء يتباعد، أكثر فأكثر، عن المحاكاة والأسلوب الوقائعي، وخاصة بعد هزيمة 1967 وانجلاء الأوهام، واقتناع الأدباء المبدعين بأن عليهم الاستمرار في الكتابة من دون سند إيديولوجي أو دَعم حزبي. بات واضحاً للجميع، أن الكتابة هي، أولاً، مغامرة يخوضها كل مبدع لحسابه الخاص بحثاً عن ذاته، ثم هي، ثانياً، تطلٌع إلى الاقتراب من الحقيقة المتلوّنة، المنفلتة باستمرار. وفعلاً لقد استطاعت نصوص الرواية العربية، خلال المئة سنة الماضية، أن تقول الحقيقة على طريقها، أي بالاقتراب منها مُجانبةً، بعيداً عن التعبير المباشر والاتّكاء على المفاهيم والشعارات. ببطء، عملت الرواية العربية على تأثيث الفضاءات المُهمَلة، واستنطاق الذّوات المغيبة، وتشخيص لغات الحكي والكلام.
نحاول، الآن، أن نتوقف عند المحطات الأساسية للرواية العربية من خلال خمسة ثيمات قد تُسعفنا في التصنيف بحسب الخصائص الغالبة في كل نص، وإن كانت الحدود بين الثيمات قابلةً للاختراق لأن النص الروائي مُتعدد في دلالاته ومكوناته الفنية:
1 - السيرة الذاتية : بحثا عن الأنا العميقة
اتخذت نصوص كثيرة من السيرة الذاتية شكلاً للتعبير عن تجربة الحياة الخاصة في تقاطعها مع إرغامات المجتمع ومواضعاته. ولم يكن هذا الجنس الأدبي غائباً عن التراث النثري العربي، إلا أنه في العصر الحديث ومنذ الساق على الساق، أطل بملامح مغايرة تعلن عن فردية الكاتب واستشعاره لأناه المميزة، وحرصه على الاقتراب من الأنا العميقة التي كثيراً ماتَوَارَت أمام وطأة المواضعات الاجتماعية. وأَمَد شكلُ الرواية السيرة الذاتية بإمكانات التخييل والتخفي، رغم الاستناد إلى مرجعية السيرة ومادتها الخام. وليس صدفةً أن تُعتبر زينب لمحمد حسين هيكل أول رواية بالمعنى الحديث، لأنها تمتح من السيرة الذاتية وتَتَزيّا بالشكل الروائي لتسمعنا صوت حامد المهيمن على النص والذي يحمل تمزقات الكاتب وتساؤلاته عن الحب والجنس والشهوة والقيم الموروثة وبؤس الفلاحين الصغار... صورة المثقف العربي وصوته، في مطلع القرن، هو ماحملته زينب بمستوياتها اللغوية المتعددة وعبر التفاصيل والوصف والتأملات المتفلسفة الحاملة لبَصمات المثاقفة وظلال الآخر.
وفي هذا المجرى ستصب نصوص أخرى تمتح أيضا من السيرة وتتدثر بالشكل الروائي، خاصة "عودة الروح" و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، وإبراهيم الكاتب للمازني، فهي نصوص أرادت أن تنحت لغتها الخاصة لتبلور الفردانية التي تطمح إليها فئات المثقفين من الطبقات المتوسطة، آنذاك.
إلى جانب ذلك، كانت هناك سير ذاتية أخرى، قائمة على تعاقد أوضح بين الكاتب والقارئ، ممثلة في "الأيام" لطه حسين، و"التثقيف الذاتي" لسلامة موسى و"حياتي" لأحمد أمين... لكن هذه السير لم تكن تتخطى الحدود المعقولة من حياة الكاتب، مُعرضة عن المناطق الساخنة، المتشابكة، المتصلة بالإيروس والمشاعر الملتبسة.
ولعل "الخبز الحافي" 1972 هي السيرة التي كسرت قواعد اللياقة والتكتم على الكلام غير المباح، التي كانت تطبع السير الذاتية العربية السابقة. ذلك أن محمد شكري الذي عاش حياة قاسية، وخَبَر السلوكات والمواقف وهو جزء من قاع المجتمع، سعى إلى أن يتعلم القراءة والكتابة ليجهر بتلك التناقضات، وليبحث عن ذاته التي كان يحس أنها مختلفة وأكثر ملموسية من الصورة التي تُقدمها خطاباتُ المجتمع عن الناس: "... أدركتُ أنني لستُ سوى أنا. وحدي أُراني في مرآة نفسي. العالم يبدو لي مرآة كبيرة، مكسرة وصدئة أرى فيها وجهي مشوهاً". كأن نص الخبز الحافي يترجم - على مستوى - آخر تلك الرغبة التي كانت تُراود جان جاك روسو في اعترافاته، بأن يكون له قلب شفّاف مثل البلّور. وبالفعل، كتب شكري سيرته وكأنما كتبها من وراء القبر، إذ لا يستطيع الالتحام، من جديد، بذاته الأولى التي عاشت القسوة والرعب والمهانة. ومنذ ذاك، انتقلت السيرةُ الذاتية، عندنا، من ردّ الاعتبار فأنا الباحثة عن اعتراف اجتماعي، إلى التوغّل في متاهات الغرابة المقلقة التي نحسها كلما حاولنا أن نفهم الذّات بظواهرها ومكنونات اللاّوعي الفاعلة خلسةً في حياتنا... تطوّرَ شكلُ الكتابة السّير ذاتية مستعملاً الشذرات وجمالية التشظي، وتعديد الساردين للذات الواحدة. ولا شك أن غالب هلسا هو في طليعة مَن قَصَروا كتاباتهم على استيحاء الذات، جاعلين منها استعارةً ومشكالاً لاستنطاق. الأعماق، وملاحقة الأحلام والاستيهامات والتحولات الداخلية، والعلائق بالعالم الخارجي وإرغاماته. وأظن أن نص سلطانة ساطع لا ينسى باستكشافاته الجوّانية وتشكيلاته الفنية المجدّدة. وماكتبه سليم بركات من نصوص سير ذاتية لافت للنظر" وكذلك "بيضة النعامة" و"مزاج التماسيح" لرؤوف مسعد الذي توغّل بعيداً في البوح والاعترافات. ومن موقع آخر، تأتي "حملة تفتيش أوراق شخصية" للطيفة الزيات متميزة في شكلها وجرأتها. وطرق عبدالله العروي شكلا آخر من السيرة الذاتية في "أوراق: سيرة إدريس الذهنية" مستعملاً تقنية الكتابة المقنعة المعتمدة على تعدد الساردين الناطقين باسم الكاتب المتواري الراصد لحياته من خلال تلك الأصوات.
أما "أصداء السيرة الذاتية" لنجيب محفوظ، فهي تعتمد على كتابة شذرية ذات معجم صوفي ونفحات شعرية، لذلك فهي تُلمح أكثر مما تقول، ويبقى على مُخيّلة القارئ أن تبتدع التفاصيل المغيّبة!
2 - المدينة : فضاء الحرية والصراع والحرب
بنيةُ المدن واتساعها في العالم العربي، ساعدت الرواية على الارتباط أكثر بالرومانيسك في معناه الحديث وبتجلياته المختلفة انطلاقاً من تشخيصات السلطة والعمران المتناسل، المتداخل في أحجامه الإسمنتية، ووصولاً إلى اختناقات حركة السير والأحداث اليومية والإشاعات المغذية لفضول الجيران... في مقابل الريف - الجنة كما تبدّت صورته في بعض النصوص الرومانسية، شيدت الرواية ملامح المدينة - الجحيم الضّاجّة بصراعاتها وتوتراتها التي ستتحول في بعض المدن بيروت، بغداد، الجزائر الى ساحات للاحتراب والمواجهات العنيفة. من ثمّ، فان نفس المدينة ستأخذ تضاريس متباينة بحسب رؤية الروائي وأدواته الفنية. لكننا نستطيع، من خلال تجميع تلك الملامح، أن نقرأ مسار المدينة في رحلتها نحو التقدم والتبرجُز المعاقين في غالب الأحيان. وهذا ما تقدمه روايات اتخذت القاهرة فضاءً لها، مثل "زقاق المدق" و"الثلاثية" لنجيب محفوظ، و"الرجل الذي فقد ظله" لفتحي غانم و"مالك الحزين" لإبراهيم أصلان و"ذات" لصنع الله إبراهيم، و"حكايات المؤسسة" لجمال الغيطاني. من القاهرة وهي تنتفض مهلّلة لثورة 1919، إلى القاهرة وهي مشلولة بسبب اختناقات السير في احدى لحظات الذّروة كما رسمها الغيطاني، تطالعنا تلك الرحلة التي دامت ما يقرب من ثمانين سنة بإتجاه المثل العليا التي ملأت الأفئدة والعقول وجعلت من عاصمة مصر رمزاً للأحلام الجميلة. وهذه الروايات تقدم، عبر التفاصيل والوصف والمشاعر والشخوص، صورة أَغنى وأعمق مما يمكن أن يُختزل في كلمات مثل: فشل، تعثر، انحدار... في الرجل الذي فقد ظله يلجأ فتحي غانم إلى تقنية الرواية النّسبوية التي بَلوَرَها لورانس داريل في رباعيته، ليُشخص لنا مراحل من تجربة التبرجُز المعاق في مصر، قبل الثورة وبعدها، لأن قوّة المال أولاً، ثم انعدام الديموقراطية وحرية الصحافة فيما تَلا قيام ثورة 1952، حَوّلاَ امبراطورية الصحافة والسينما والمسرح ورجالات الثقافة والفكر، إلى كومبارسات تُصفّق أو يُلقَى بعناصرها المنتقدة إلى السجون والمنافي... وتنقلنا رواية "مالك الحزين" إلى منطقة مهشمّة في القاهرة الفسيحة، إلى امبابة المكتظة بنماذجها العجائبية وحكايتها الساخرة وكأنها تعيش مُعلقةً خارج الزمن. لكن يوسف، الكاتب المحتمل، يحاول أن يكتب ويسجل ما يجري حوله، مُلتقطاً لحظات الحب والشهوة والضحك، مُتفاعلاً مع انتفاضة 1977 وأصواتها المحتجّة... ثم تهدأ الأشياء وتغوص امبابة في زمنها الخاص... على العكس من أُسلوب أصلان الهامس، الموزّع بين الوصف والتأمل، تسلك رواية "ذات" طريق المواجهة والمقارنة بين ما تعيشه عائلة ذات المتوسطة وما تنشره الصحف والمجلات من أخبار وتصريحات وفضائح الرشوة والفساد، مستعملاً تقنية الكولاج والتقطيع السينمائي والتناوب بين السرد ومقتطفات التوثيق التي تستقلُّ بنفسها، إلاّ أنها تتصادى مع وقائع الحكايات العائلية ومسارها المنحدر نحو المأزق واليأس. ومن خلال ذلك، تبدو القاهرة غولاً مفترساً للآمال والأحلام والرغائب…
وتحاول "حكايات المؤسسة" أن تستعيد البدايات التي جعلت المؤسسة برموزها المختلفة، تنحو صوب ترسيخ طقوس السلطة والتسلُّط، وتدعيم التراتبيّة وفق مقاييس الفعالية التي تسحق الأفراد في سبيل بقاء واستمرار المؤسسة. عالم كافكاوي، غير أنه لم يعد غريباً عنا، فنحن أيضاً نعيش فترة المراقبة الشاملة التي تُسخّر التكنولوجيا الحديثة لضبط أَنفاس المواطنين.
ومن النصوص المميّزة التي جعلت من المدينة فضاء لامتلاك الحرية والتمرد على الوصاية، رواية "أنا أحيا" لليلى البعلبكي 1958. جاءت في سياق بداية الثورات والانقلابات، في شكلها المغاير للواقعية التقليدية، وبجرأتها ولغتها، معلنة عن ميلاد صوت المرأة المقلق المتوسّل بكتابة لها خصوصيتها. وليس أمراً سلبياً كون لينا فياض، بطلة أنا أحيا اضطرت إلى العودة إلى بيت العائلة، لأن ما شخصته وقالته خلال رحلة الرواية هو ما رسم أفقاً لوعي يؤمن بحرية الفرد وبحرية المرأة.
ومن منظور مغاير، يوظف حنا مينه فضاء اللاّذقية في "الشراع والعاصفة" ليشخص الصراع بين مُغتصبي المال والسلطة وبين البسطاء المؤمنين بقيم العدالة والتضامن وكرامة الانسان. وتغدو مدينة اللاّذقية بناسها وأماكنها بنية صغرى تَتَراءى عبرها مشكلة الصراع المتجدد بين المستغلين والمستضعفين. وأظن أن "المركب" لغائب طعمة فرمان هي في طليعة الروايات التي أنجزت تشخيصاً أدبياً مميزاً لتحولات فضاءات بغداد من مرحلة الوداعة والتناغم إلى مرحلة طغيان الدولة - الديناصور، المعادية لحرية المواطن...
وعندما تتحول المدينة العربية إلى فضاء للحرب، يتغير إيقاع الكتابة الروائية وتتنوع الأشكال بحرية وجرأة لتقبض على ملامح من ذلك الرعب اللاَّيُسمى. كانت نصوص "الجبل الصغير" لإلياس خوري تشخيصاً لتشظي فضاءات بيروت الغائصة في حربها الأهلية ثم نَشَر "الوجوه البيضاء" و"حكاية غاندي الصغير" ليفضح البطولات المزيفة واحتراف القتل، وليسلط الضوء على شخوص بسيطة تقول بلغة الحكي الشفوية آلامها وسط خراب المدينة وسيادة التسلّط الطائفي... وفي "حكاية زهرة" لحنان الشيخ تطفو بطولة القنّاص المتلذّذ بقتل الآخرين الذين لا يعرفهم، وتبرز التبدلات في الطبائع باتجاه التوحش والاحتكام للغرائز... ذلك أن مثل هذه الحرب بين أبناء الشعب الواحد تزعزع كل المعتقدات والتصورات والسلوكات على نحو ما التقطته رواية "حجر الضحك" لهدى بركات بلغة دقيقة ومشاهد استبطانية تراوح بين فضاءات الخارج وصحارى النفوس المقفرة. وفي "كوابيس بيروت" لغادة السمان تمتزج الحكايات بالهذيان لتقول حالات الحصار والوحشية والعبث... ولابد أن يؤول الأمر، مع هذه الحرب العنيفة اللامعقولة إلى الجنون والتوحش، على نحو مارسمت ذلك نجوى بركات في روايتها "يا سلام".
والحرب الأخرى في الجزائر، بعنفها ووحشيتها الفائقين لكل وصف، انعكست على كتابات واسيني الأعرج في أكثر من نص. ولعل "ذاكرة الماء" من أقوى النصوص التي تشخص التعايش الأليم مع الموت الذي يتسلّل إلى نفس الكاتب كل يوم، مع قهوة الصباح، ويجعله يعيش على حافة الجنون.
ونجد في "باب الساحة" لسحر الخليفة صورة مغايرة للمدينة نابلس التي هي فضاء للحرب مع المحتمل الإسرائيلي، وفضاء لتحرير ذات المرأة من وصاية الرجل وتعاليم الإيديولوجيا...
روايات كثيرة ضبطت إيقاعها على حركات المدينة وفضاءاتها المتشابكة وصراعاتها العنيفة. وعلى رغم واقعية المدينة وأبعادها المادية المحيطة بالناس، فان بعض النصوص، استطاعت أن تَبتدع نفساً ملحمياً لالتقاط تموّجات المدينة وفضاءاتها المتجاورة وحكايتها المتداخلة، على نحو ما نجد في "وكالة عطية" لخيري شلبي و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي و"مدينة الرياح" لموسى ولد ابنو و"وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر...
3 - زمنُ الرّماد ونَفض الذاكرة
على رغم الرقابة، استطاعت روايات عربية أن تَنهك ضوضاء الخطابات الرسمية، لتشخص مشاهد من زمن الرماد، زمن الانحدارات المتوالية، ولتفسح المجال أمام الذاكرة لتستعيد لحظات الانكسار، وتستحضر العنف بأسمائه المختلفة، سواء تدثّر بشرعية الدولة أو بشرعية الثورة.
وأعتقد أن الرواية الصغيرة الحجم "أَنتَ منذ اليوم" لتيسير سبُّول 1968 هي من النصوص الرائدة على طريق الانشقاق لدى الفئات الواسعة التي آمنت، ذات يوم، بأن الحلم العربي ممكن تحقيقه في ظل الدولة الوطنية وبقيادة الأنظمة الثورية التي تلغي المواطن بحجة إعطاء الأسبقية لتحرير الوطن!
استطاع سبُّول، بتركيب فني جميل وبلقطات سريعة ولغة مقتصدة، أن يقنع القارئ بانجلاء الأَوهام التي سكنت مُخيلته زمنا طويلا:
"وكان هناك مذياع في كل مكان، ولم أفهم لماذا يجب أن يتكلم مُذيعونا بَعد. وخُيّل إلي أن المسألة كلها سؤال واحد : شعب نحن أم حاشية قَشّ يتدرّب عليها هُواة الملاكمة منذ هولاكو حتى الجنرال الأخير؟".
قبل ذلك، سنة 1966، كان صنع الله إبراهيم قد نشر رواية قصيرة وقويّة بعنوان "تلك الرائحة" صُودرت مباشرةً بعد نشرها. رواية ترسم بلغة دقيقة لا تخلو من لمحات شعرية، صورة مناضل خرج من السجن ليكتشف زيف التحوّلات التي تعلن عنها الشعارات والخطب الثورية، بينما يستمر احتقارُ المواطن وإذلاله باسم القوانين. وفي 1973، نشر صنع الله "نجمة أغسطس" منطلقاً من الحاضر المتصل برحلة السارد إلى أسوان حيث يُشيّد السدُّ العالي بمساعدة الخبراء السوفياتيين، ومعرّجاً على مخزونات ذاكرته لمشاهد التعذيب والقتل داخل السجن. وقد لفتت الرواية الأنظار بتقنيتها المتعدّدة المستويات...
وفي رواية عبدالرحمن منيف "شرق المتوسط: هنا والآن"، نقرأ تشخيصاً قوياً للجرح الكبير الذي ينزف باستمرار من جسد المجتمعات العربية:جرح التعذيب والاغتيال ومصادرة الحريات وسط آلاف الجثث والأشلاء التي داستها الدول العربية الحديثة في طريقها إلى تركيز الحكم الفردي المطلق. وهي نفس الصورة التي يشخصها ابراهيم الحريري في رواية قصيرة تستعين بعناصر الفانتاستيك وعنوانها "الاغتيال"، وكذلك مؤنس الرزاز في "اعترافات كاتم صوت" حيث يتنوع السرد وتتعدد الأصوات وسجلاَّتُ الخطاب...
هناك رواية على جانب كبير من الأهمية كتبها لويس عوض سنة 1947، ولم ينشرها إلاّ سنة 1966، هي "العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح". تعتمد هذه الرواية بنية قائمة على عناصر فانتاستيكية وأخرى تاريخية متصلة بأحزاب اليسار الماركسية المصرية وببذور ممارسة العنف كوسيلة لتحقيق الأغراض السياسية عند اليسار وعند الأحزاب ذات النزوع الفاشيستي، مثل حزب مصر الفتاة والأخوان المسلمين بمصر، خلال الأربعينات...
واستيقاظ الذاكرة في الأزمنة الرمادية أمدَّنا، كذلك، بنصوص تستوحي تجربة النضال من أجل الثورة، وماتكشّفت عنه تلك التجربة من خيبة ومراجعات للأخطاء والتصوّرات. ولعل رواية "سرايا بنت الغول" لإميل حبيبي، هي من النصوص الجميلة التي رسمت افتقار الثورة السياسية إلى ثورة عاطفية وإنسانية حتى لا تتحول إلى مجرد شعار يتعالى على الرغائب الفردية والبسيطة للإنسان.
ونصادف عودة الذاكرة إلى ما جرى، أيضاً، في "قالت ضحى" لبهاء طاهر الذي استعاد فترة الستينات المثقلة بالأحلام، عبر قصة حب تمتح من الواقعي ومن الأسطوري، قبل أن تؤول إلى جروح تعطب الجسد والروح.
وقبل ثلاثة أشهر، صدرت رواية "الساحة الشرقية" للروائي المغربي عبدالقادر الشاوي، وفيها تستعيد ذاكرته بلغة شعرية، تجربة السجن بخصوماتها ومواجهاتها، وبلحظات الفرح القصير التي كان المعتقلون يبتدعونها ليتغلبوا على الاعتقال وحدّة الجدالات السياسية الجارحة...
بمثل هذه الجرأة والمكاشفة، استطاعت هذه النصوص أَن تحفر، بلغتها وتفاصيلها وذاكرتها الملتهبة، أخاديد عميقة على مجرى النقد وإعادة النظر في الخطابات المتخشّبة. ذلك أن الرواية تستطيع أن تصوغ، عبر التخييل والشهادة، الاعتراضات الجريئة، والأسئلة الضرورية لمواجهة المأزق.
4 - استعادة التاريخ
منذ بداية هذا القرن، استقى بعض الروائيين العرب موضوعاتهم من التاريخ، وكان القصد الغالب هو الصَّوغ الروائي لأحداث تاريخية مُمتزجة بالخيال والتشويق، على نحو ما نجد في روايات جرجي زيدان... لكن "ثلاثية" نجيب محفوظ حقّقت نقلة ملحوظة في هذا المجال، لأنها تعاملت مع تاريخ قريب لا يزال ماثلاً في الذاكرة، واستعملت تقنية تراوح بين الخاص والعام، وتنقل أسئلة الحاضر إلى لماضي القريب... وهو ما فعله، بشكل مختلف، أبو المعاطي أبو النجا في "العودة إلى المنفى" مستعيداً حيوية عبدالله نديم ونضالاته الشعبية من منطقة النسيان.
إلا أن استعادة التاريخ من لَدُن الروائيين العرب، اقترنت عند بعضهم باستعادة خطابات وأشكال تاريخية تتواشج مع النّص لتُبلور تجليات شكلية لها انتساب إلى التراث الأدبي العربي. وهذا ما سعى إليه جمال الغيطاني في بعض نصوصه وخاصة في "الزيني بركات" و"التجليات"، مستوحياً الكتابات التاريخية والصوفية، ومازجاً عتاقة اللغة بطزاجة التجربة والرؤية. وهو ما أَنجزَهُ كذلك، بطريقته الساخرة الممتعة، إميل حبيبي في "المتشائل"...
ويستحضر سالم حميش، في "مجنون الحكم"، نصوص المؤرخين الذين حكوا سيرة الحاكم بأمر الله، لينسج منها ومن لغته المحاكية للغة المؤرخين، فساحات تتيح إعادة تأويل وإزالة مسوح القداسة عنه.
وفي نصوص أخرى، قد تتم استعادت التاريخ باللجوء إلى توظيف الوثائق وقصاصات الصحف وإدماجها في النص الروائي، على نحو ما فعله إبراهيم عبدالمجيد في "لا أحد ينام في الإسكندرية"، وبهاء طاهر في "الحب في المنفى"...
وتَستوقفنا، في هذا المجال، نصوص متميّزة نَسجت، مُستظلة بالتاريخ القديم والحديث، سبائك روائية تمزج الأزمنة وتُبرز تعددية التاريخ وقبوله لتأويلات شتَّى. وتلك النصوص هي: "الوباء" لهاني الراهب، و"مدارات الشرق" لنبيل سليمان، و"التحولات" لخيري الذهبي، و"مدن الملح" لعبدالرحمن منيف. إنها روايات نجحت في أن تجعل من خامة التاريخ نَصّاً ملحمياً يُسعفُ على تَملُّك مُغاير للتاريخ المختبئ وراء هالات التقديس والتأويلات الرسمية.
وتقدم "باب الشمس" لإلياس خوري، محاولة متميّزة في تشخيص جوانب من تاريخ فلسطين عبر أُناس بسطاء وعبر قصص الحب والكفاح والتهجير والمنفى، وعبر لغة الكلام والرد المتدفق الذي يمتح من الشفوي ومن اليومي المتداول...
لم تعد الرواية العربية، إذاً، تتوسل بالتاريخ لإبراز الأحداث والبطولات، وتأكيد الماضي المتألق، بل هي تتخذ منه مكوناً أساسياً لوجود بشري يفرض على الإنسان أن يحدد علائقه بصيرورته وبما يطرحه من أسئلة جوهرية.
5 - مرايا الذات والغيرية وصورة الآخر
إذا انطلقنا، مثلما يذهب الكثيرون، من أن الرواية، على رغم تنوعاتها وأشكالها المتباينة، إنما هي تشخيص فني لمعركة أبدية بين الفرد والمجتمع، وتشخيص لمقاومة العالم لرغائب الفرد، فإننا سنجد أن الروايات العربية المميزة هي التي استخدمت لعبة المرايا لتَظهير علاقات الذات المتعدّدة والمتداخلة، سواء في بحثها عن كَينُونتها أو في اكتشافها لكثرتها، أو في خروجها إلى لقاء الغير والتواصل مع الآخر... والمفهوم المرآتي، هنا، لا يعني التطابق ولا الاستنساخ، بل يعني التمايز والتباعد عن الأصل المفترَض. وهذه مسألة استقطب الكتابة الروائية في العقود الأخيرة...
وفي المئة سنة المنصرمة، نجد روايات عربية اكتسبت صفة الكلاسيكية في هذا الاتجاه، مثلما هو الشأن بالنسبة ل"أديب" طه حسين، و"قنديل أم هاشم" يحيى حقي و"الحي اللاتيني" سهيل ادريس و"موسم الهجرة إلى الشمال" الطيب الصالح، لأنها اقتربت من الذات وقيَمها الموروثة عبر التماسّ مع الآخر، وعبر المرايا المتقابلة وصورها المتقاطعة. نصوص مثل هذه، هي التي شرعت النوافذ أمام أضواء كشافة خلخلت الصورة الوديعة، المطمئنة التي كانت تبدو في الكتابات التقليدية. مرايا الذّات في مرآة الرواية هي المدخل لصوغ أسئلة تتعدّى نطاق الذَّات داخل فضاء مغلق، مُتوهَّم.
لكن مرايا الذات تنطلق أيضاً من علائق الغيرية، عندما نحبُّ أو نكره، عندما نصارع قوانين المؤسسات الجائرة، أو نواجه ما يهدد حياتنا وحياة الأبرياء...
في "الشحاذ" لنجيب محفوظ، رحلة بحث عن الذات المفقودة، فجأةً، أمام الشعور بالعبث الذي سيطر على عمر الحمزاوي المحامي الناجح... عندئذ أدرك أن ذاته توارت خلف أقنعة وأسئلة مكبوتة، وأن المتاهة انفتحت لتسلمه إلى اللاَّيقين.
ومن النصوص الأساسية في كتابة الذات والغيرية وصور الآخر، ثلاثية إدوارد الخراط: "رامة والتنين"، "الزمن الآخر"، "يقين العطش". إنها على حد تعبيره، ثلاثية أوجه لأيقونة ثلاثية، تلتقط عبر لعبة المرايا وتعدد الأصوات واللغات والمقامات، مغامرةَ العشق والشهوة الجسدانية، والجري وراء المطلق، والتَّوق الى تَملُّك معرفة غنوصية قوامها الكشف والحدس والرؤيا... وبهدمه للحدود بين الروحي والجسدي، بين المحسوس والعقلاني، ارتاد الخرَّاط عوالم الذات في مواجهتها للآخر المتعدّد داخل الإنسان الواحد، والآخر المعشوق المشتَهَى، والآخر الملتحف بدثار التاريخ وأساطير المخيلة. كتابة متدفّقة غنية بلغتها الشعرية، تجعل من رحلة الذات العطشى رحلة ميتافيزيقية وأرضية في آن. وأظن أَن هذا الإنجاز الروائي يمثل خلاصة اتجاه يقف على الضفة الأخرى أمام الروايات المشدودة إلى تجليات الواقع في أبعاده الأكثر ملموسية وحكائية.
في اتجاه مقارب، بكن ببناء مُغاير، يستوطن فضاءات الصحراء، تطالعنا تجربة صبري موسى في "فساد الأمكنة"، وإبراهيم الكوني في رواياته الكثيرة. يبني صبري موسى عالم روايته من صراعات لها صفة المطلق: الجنس في مواجهة الموت، والإنسان يُصارع الطبيعة، والخير يُقارع الشّر…وبذلك يتخذ الزمن، في هذه الرواية، ديمومةً تتعالى على مقاييس التعاقب المتداولة.
ويسعى إبراهيم الكوني إلى أن يجعل من الصحراء، بكائناتها ونباتاتها وشخوصها ودلالاتها المادية والرمزية، فضاء لتشييد عالم روائي مضفور بالحكايات والأساطير، وكأنما يريد أن يقترح بديلاً لعوالم الحياة الدنيا القائمة على الخداع، والغدر، والاستيلاب، مثلما يتجلى ذلك في نزيف الحجر.
ويوفّق سليم بركات في "فقهاء الظلام" إلى كسر المرايا المعتادة والعبور إلى مناطق الفانتستيك والعجائبي ليلتقط أصواتاً وشخوصاً أريد لها أن تظل مهمَّشة محرومة من مراياها...
ويسعى بطل "المرأة والوردة" لمحمد زفزاف إلى ملاقاة الآخر من خلال رحلته إلى شاطئ بإسبانيا، حاملا في ذاكرته مراياه الداخلية وجراحاته السرية. ويعمد عبدالله العروي في "الفريق" إلى مرايا ثلاث لتشخيص نماذج متعارضة في الفكر والسلوك: الوطني، ورجل الدين، والحداثي المؤمن بمنطق التاريخ...
ولاشك أن "البحث عن وليد مسعود" هي إنجاز مهم في مجال الكتابة الروائية القائمة على لعبة الذوات المتجابهة، المتناقضة، المشدودة إلى مطلق منفلت باستمرار…ذوات تجري وراء قيم مستحيلة لتخفّف من اغترابها وتوزُّعها بين الآني والسرمدي.
وهل ننسى روايتين بارزتين ليوسف حبشي الأشقر: "لا تنبت جذور في السماء"، و"الظل والصدى"؟ إنهما تتمايزان بتَغَوُّرهما في أعماق الذات وسراديبها، وتجلياتها المتعارضة، وانشطارها بين الوجود العميق والضياع وسط حرب بلا منطق ولا قضية. يرسم الأشقر، بلغته الشعرية الموحية، مأساة مثقفين مأخوذين في شَرَك الاغتراب والجنون والبحث عن صور أصيلة ضاعت في متاهات الحبّ والحرب.
أُحس أن المجال لا يتسع لمتابعة تضاريس الروايات المميزة في نظري، لذلك سأكتفي بذكر أسماء روائيين كتبوا نصوصاً تدخل في الثيمات التي اقترحها لهذه القراءة. أفكر في نصوص لكل من عبدالحكيم قاسم، ومحمد البساطي، ورشيد الضعيف، وعبده جبير، وحسن داوود، وعلاء الديب، وسلوى بكر، وخيري عبدالجواد، واعتدال عثمان، ومحمود الورداني، وخليل النعيمي، ونورا أمين، ومي التلمساني، ومنتصرالقفاش، وادريس علي صاحب "انفجار الجمجمة" ومحمد أبوسمرا، وربيع جابر...
استخلاصات موقتة
في هذه المحاولة المتقصّدة إبراز محطات في مسيرة الرواية العربية خلال المئة سنة التي نودعها، وجَّهَتنا - ضمنيا - فكرة جوهرية هي أن النصوص المتميزة شكلاً ومضموناً، تكتسبُ وجوداً مغايراً لتجليات التاريخ العربي كما تُؤطره الخطابات الرسمية وتختزله التحليلات الإيديولوجية التعميمية. بعبارة ثانية، فإن الرواية العربية التي قدمنا بعض نماذجها، هي أقرب ما تكون إلى تاريخ استبطاني للذوات الفردية التي تحيلها إلى مجموعات كبيرة تعيش مسروقة الصوت، مهمَّشة أو مقاومة للقهر والاحتقار...
من هذا المنظور، فإن اختيارنا ظل قريباً من الفضاءات التي تقتحم فضاءات وبتجارب غائبة عن الخطابات السائدة. لذلك أبرزنا روايات تمتح من السيرة الذاتية ومن صراعات الفرد ضد المؤسسات، وتشخص تبدلات الفضاءات، وتنفض جراب الذاكرة المكتظَّة بالإحباطات، وتلاحق الأفراد العاديين وهم يحاولون الاقتراب من ذواتهم المنشطرة والتعرف على آخرهم… من هنا، اعتبرنا تلك الروايات تكسيراً لأحادية الرؤية وإبرازاً لتعدُّد الُّلغات والأصوات داخل مجتمعات الرواية وفي امتداداتها الحياتية.
يضاف إلى ذلك، أن الروايات التي كتبتها روائيات عربيات بجرأة ونكهة خاصة قد أكدت الحاجة الماسة إلى هذا الصوت الكاشف لجوانب وتجارب لا تنفع في تشخيصها الكتابة بالنيابة التي مارسها بعض الروائيين الذكور.
وإذا كنا قد آثرنا هذه القراءة الإيجابية، فلأننا نرى أن النص الروائي قد حقق وجوداً مستقلاً عن بقية الخطابات الثقافية العربية، وأصبح مجالاً يمدنا بصورة أعمق لعلاقات الفرد بمجتمعه وبالأسئلة التي لا تقتصر على ما هو واقعي، بل تتعدى ذلك لتلامس الكينونة واللاوعي وغائية الحياة. لم يعد هناك، إذن، ما يسجن الرواية العربية في حدود أو أقمطة، ولم تعد هناك مناطق محرمة على التخييل مهما اشتدّت الرقابة.
من هذا المنظور، يمكن القول، بغض النظر عن الشروط المادية للروائيين وعن محدودية عدد القراء، بأن الرواية العربية تواجه، في مطلع الألفية الثالثة، نفس الأسئلة المطروحة على الرواية في العالم: كيف تستطيع الاستمرار والتأثير أمام التحولات الإلكترونية لوسائل الثقافة واشتداد المنافسة بين القراءة والمشاهدة والاستماع؟
إنني أميل إلى الإعتقاد بأن القراءة ستحتفظ بخصوصيتها، أي كونها ممارسة للحرية والحوار المتعذرين مع وسائل التثقيف والمتعة الأخرى. وسط حمُى وسائط الإعلام والتثقيف الجماهيرية المرسخة للامتثال ولروح القطيع، تستطيع الرواية أن تضطلع، كما يرى الروائي الأمريكي جون ابدايك، بمهمّة التحريك النقدي والإبقاء على جذوة الثورة الفلسفية التي يحتاجها الإنسان وهو يواجه قرناً جديداً...
وأظن أن الرواية العربية تستطيع، مستقبلاً، أن تدعم مسيرة تجديد المتخيل الاجتماعي، وبلورة القيم التي تنقل مرجعيةَ الصراع الاجتماعي وقوانينه وقراراته من السماء إلى الأرض.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.