يتأكد ولع الناقد محمد برادة ويتعمق بالنص الروائي، مع كل كتاب جديد يصدره، سواء كان هذا الكتاب نقداً أم رواية. في الواقع يمثل صاحب «أسئلة الرواية أسئلة النقد» (1996) حالاً فريدة في جمعه النقد بالكتابة الروائية، على أن الفرادة هنا لا تكمن في هذا الجمع، فعدد من النقاد يكتب النقد إلى جانب أنواع أدبية أخرى، لكن في حالة برادة نعني المستوى الإبداعي الرفيع والممتع في آن، الذي يسعى بدأب ومثابرة إلى ترسيخه، أي تحول الكتابة لديه إلى ممارسة إبداعية خلاقة، أي كان تصنيفها. هذا واحد من الأسباب التي جعلت رواياته، مثلاً، تشكل نقلة نوعية ومنعطفا مهما في الكتابة الروائية في المغرب، من جهة، ورافداً مهماً في تطوير الرواية في الوطن العربي، وتوسيع آفاقها باستيعاب أنماط من التجريب والمغايرة، التي يمارسها برادة بوعي جميل. الرواية لدى صاحب «فضاءات روائية»( 2003) ليست تمريناً، يستعرض فيه مهاراته كناقد، يعي على نحو دقيق أسرار الفن الروائي وتقنياته، وإلا تحولت نصاً من دون روح، كما أن النقد الذي يمارسه، يتوالى بعيداً من الصرامة الزائدة عن اللزوم، ولا يعيقه التزامه الرصانة ومتانة الجملة من خوض مغامرته الخاصة، انطلاقا من المغامرة نفسها التي يخوضها النص الروائي، موضوع المقاربة. يكتب صاحب «لعبة النسيان» (1987) النقد والرواية متحرراً من أسر القوالب والتنميطات الجاهزة، ومتمرداً حتى على نفسه، وعلى ما استقرت عنده كتاباته، نقداً وإبداعاً. فقارئ روايته «حيوات متجاورة» (2009) مثلاً، التي حازت جائزة المغرب للكتاب لهذا العام، تستوقفه تلك الفرادة الأسلوبية التي عبرت عنها، ومثلما يمكن النظر إلى هذه الرواية كخلاصة لوعي نقدي حاد بجماليات السرد الحديثة، فإنها في الوقت عينه، تتحدى هذا الوعي وتستفزه، حين تتوغل في تفاصيل ودهاليز وعتمة داخل الذات والمجتمع، وتذهب بعيداً في ما تقدمه من مقترحات سردية وجمالية، تفاجأ برادة نفسه، فضلاً عن القارئ الشغوف بكتبه ورواياته. المقترحات السردية التي يقدمها هذا الناقد والروائي، الذي تخطى الستين من عمره، من نص إلى آخر، تنم عن مثابرة لا تستطيعها سوى روح في عنفوان الشباب، تحركها الرغبة، التي لا تعرف التلاشي، في التجاوز وفي البحث عن صياغات جديدة للواقع وللنص معا. وستسعفه رواياته باحتمالات نظرية وشكلية، نفسها التي يبحث عنها في نصوص الآخرين. تواجهنا في كتابه الجديد، «الذات في السرد الروائي» (دار أزمنة - عمان) أكثر من تساؤل أمام عشرات الدراسات، التي يضمها الكتاب، حول روايات عربية من أقطار مختلفة (مصر، لبنان، سورية، المغرب، اليمن، الجزائر وسواها)، ما الذي يدفعه إلى قراءة الرواية ثم الكتابة عنها، هل ثمة ما يفتش عنه في هذه النصوص، أم أنها تعبر عن مشاغل، هي مشاغله نفسها؟ لكنها تساؤلات لن يصعب العثور على إجابات لها في متن الكتاب. في ما يبدو جلياً أن منطلقه إلى كتابة هذه القراءات، ليس فقط الاحتفاء ولا التعريف بالنصوص الجديدة، على نحو ما يفعل بعض النقاد، إنما لأن هذه الروايات تطرح، كل على حدة، سؤالها الجمالي وتسعى إلى تخييل موضوعها بطرائق جديدة، تنم عن وعي وحضور في اللحظة الراهنة التي تعيشها الرواية العربية، والعالمية. يحرص صاحب «مثل صيف لن يتكرر» (1999)على قراءة ما يعتبره مهما من الروايات العربية، الساعية إلى تقديم اجتهادات في الشكل والمضمون واللغة، إذ يتحرى ألا تكون فاقدة للمسافة الجمالية الضرورية، التي تُبعد النص عن الاستنساخ والاجترار. فهذه القراءات، كما يعبر، تتصادى مع ذائقته الإبداعية والنقدية، «لأنني أبحث في منجزات الآخرين عن احتمالات نظرية وشكلية». ولأنه يعتقد أن على النقد العربي أن يبدأ بقراءة أولى للنصوص اللافتة، حتى يمهد الطريق أمام الدراسات المقارنة والاستخلاصية، على مستوى النتاج الروائي في مجموع الأقطار العربية». في الواقع أسباب عدة تكمن وراء اهتمام محمد برادة بالخطاب الروائي، منها عنصر «التذويت» الذي يجعل المتكلمين في النص الروائي يبرزون خصوصية الذات المتكلمة، «سواء على مستوى اللغة أم زاوية النظر والتفاعل مع الأحداث، أم تشخيص الصراع الأبدي بين الفرد ومؤسسات الدولة والمجتمع». يستعمل برادة التذويت انطلاقاً من تحليل فوكو ل «نظام الخطاب» الذي يرى أن الكاتب - الروائي، «لا يوجد مستقل عن وظيفته التي تتحدد من خلال وجود الخطاب بصفة عامة، والطرائق التي يتمفصل بها الأدبي والثقافي والعملي مع علائق اجتماعية وخطابات أخرى أوسع». يعتبر الناقد المغربي قراءة روايات عربية ينتمي كتابها إلى أقطار مختلفة، مدخلاً ممكناً لملامسة تحولات الوعي والسلوك والقيم، في سياق يتسم بشح الدراسات السوسيولوجية والنفسية، ويطغي فيه الخطاب الرسمي الممجد للوحدة لفظياً، المعرقل لها عملياً. لكن ذلك، في رأي صاحب «الضوء الهارب» (1993) لم يحل دون قيام حقل روائي عربي «يستفيد من اللغة المشتركة والتفاعل بين الروائيين العرب في جميع الأقطار، ويتابع منجزات الرواية العالمية التي تتوغل في دواخل النفس، وترتاد الفضاءات الحرجة، وتستنطق ما حرمته الممنوعات والمقدسات»، لافتاً إلى أن هذا التفاعل جعل الكثير من الروائيين يحرصون على مراعاة المستوى الجمالي والشكلي، الذي يوفر للنص خصوصيته ويحميه من الابتذال واستنساخ ما هو قائم وسائد. تتسم القراءات التي يتضمنها الكتاب، بعدم الإغراق في التفاصيل والاستشهادات المرجعية، فهي تراهن على الوصول إلى عدد واسع من القراء لاستثارة فضولهم، وتحريضهم على القراءة. غير أن برادة مع ذلك لا يتخلى عن منهج ما في القراءة، إذ يلجأ إلى تحديد عناصر تؤطر خطوات القراءة وتحميها من الاتكاء على مجرد التلخيص وإيراد التأويلات الجاهزة. وتتمثل هذه العناصر في ثلاثة، أولاً: الاهتمام بطرائق السرد. ثانياً: النص ينتج معرفة ومتعة، فالرواية لا تختص بمجال معرفي واحد، لأن الخطاب الروائي ينتح من المحسوس والمفكر فيه، من الحلم والمعاش، من رصد السلوك واستحضار التاريخ. ثالثاً: الرؤية إلى العالم. وفي ضوء ذلك أنجز صاحب «امرأة النسيان» (2007) تحليلاته لأربعين رواية عربية، صدرت في زمن متقارب، (2000 _ 2007)، ثم عاد لقراءتها وتصنيفها، كما يذكر في الكتاب، على أساس تقسيم واسع: نصوص تسعى إلى كتابة الذات واستنطاقها و»التأريخ» لها، وأخرى تتوخى مساءلة المجتمع وتمثيله روائياً. «كتابة الذات عبر السيرة والتخييل الذاتي»، تندرج ضمن هذا العنوان 13 رواية هي :( تمارين الورد، قاع الخابية، كباريه سعاد، مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان، حكايتي شرح يطول، مديح الهرب، صورة يوسف، من قال أنا؟ كأنها نائمة، دنيا، المدينة الملونة والتلصص). يجد برادة أن العنصر الجامع بين هذه الروايات هو كتابة سيرة ذاتية، أو التأريخ الشخصي لذات الكاتب، «لكن في أشكال لا تتقيد بالشكل الكلاسيكي للسيرة الذاتية». ولئن كانت هناك قرائن تحيل على شخصية الكاتب، كما يوضح، «فإن الشكل يأخذ تنويعات عديدة تتباعد عن السيرة المألوفة»، مشيراً إلى أن هذه ظاهرة تتجاوب مع التحولات التي طرأت على كتابة السيرة الذاتية في الآداب العالمية، «فلم تعد تعني التطابق مع الحياة «الواقعية» إنما أصبحت السيرة تستوحي التجربة الحياتية والمحيط الاجتماعي لصاحب السيرة من دون التقيد ب»حرفية» الواقع والأحداث، ومن ثم اللجوء إلى التخييل وما يستدعيه من حذف وإضافة تمشياً مع المقتضيات الجمالية السردية». ويطرح أن هذا التفاعل حيوي ومشروع، وإن أخذ على بعض الكتاب عدم إدراكهم «التلاوين والفروق التي اكتساها مصطلح التخييل الذاتي، من خلال الإنجازات النصية داخل فرنسا وخارجها في الثلاثين سنة الأخيرة». من السمات التي تلفت برادة في روايات القسم الأول من كتابه، التنويع الشكلي المتعدد التجليات ضمن جنس سردي، «كان أسير قوالب تعوق انبثاق الطاقة التعبيرية للكتابة واللغة»، إضافة إلى نوعية المعرفة التي تنطوي عليها هذه النصوص «والتي لا تقتصر على ما يتصل بالحياة الخاصة للكاتب، وإنما تتعدى ذلك إلى فضاء أوسع يواجه فيه صاحب السيرة مواقف تضعه أمام أسئلة العالم الخارجي، أو تجعله يؤرخ لمجتمعه بترابط مع المسار الحياتي الخاص». القسم الثاني من الكتاب يضم سبعاً وعشرين رواية، وعنوانه «مساءلة المجتمع روائياً»، تمييزاً لها عن النصوص التي تنحو إلى كتابة الذات عبر السيرة وتفريعاتها، ولأن قسطاً مهماً من الإنتاج الروائي، كما يقول برادة، يسعى إلى استيحاء عناصره ومكوناته من المجتمع في وصفه عالماً خارجاً عن الذات، مناهضاً لرغائبها ونزواتها، «وفي وصفه أيضاً مجال صراع يخوض الفرد غماره لتحقيق نوع من التوازن بين الغيرية والفردية. لكنها مساءلة ذات خصوصية، إذ إنها تتوسل الشكل الروائي الذي يفرض تقنياته ومسالكه غير المباشرة». يعمد صاحب «الرواية ذاكرة مفتوحة»(2008) إلى تقسيم هذه الروايات إلى ثلاث خانات، على أساس الثيمة المهيمنة، أولاً: صورة المجتمع المتداعي: وهي صورة تأخذ تجليات عدة تحيل على ثغرات وعيوب وآفات تتهدد المجتمعات العربية، نتيجة احتقار المواطن، وفشل قوى التغيير (أرخبيل الذباب، خطبة الوداع، ميترو محال، والتشهي). أو بسبب طغيان السلطة وإتباع سياسة التدجين (الخالدية، صبوات ياسين، كتيبة الخراب، والحارس). أو لاستمرار وجود قيم بالية تنتمي إلى أهل الكهف الذين يعاكسون مبادئ المساواة والعدالة والتحرر (دق الطبول، صمت الفراشات، وثلاثية دملان). ثانياً: الوجود الفردي في مواجهة العالم الخارجي: ويقصد النصوص التي توظف أحداثاً ووقائع ومحكيات لطرح أسئلة تمس الوجود الفردي، وهو يصارع قوى خارجية ترغمه على الاختيار وتبرير العلاقة مع العالم (ماكياج خفيف لهذه الليلة، سيدي وحبيبي، المرأة والصبي، عتبات البهجة، التل، أسرار عبد الله، وتصحيح وضع). أو من خلال أصوات نسائية تواجه وضعية الدونية التي يفرضها المجتمع الذكوري ( الكرسي الهزاز، المحبوبات، ولحظات لا غير). ثالثا: التاريخ يضيء الحاضر، ويعنى بالنصوص التي توظف التاريخ لقراءة الحاضر، «أي أن الروائي لا يتوخى الاضطلاع بمهمة المؤرخ المدقق للكشف عن معلومات غير مسبوقة، وإنما يحرص على الانطلاق من وعيه الحاضر ليعيد قراءة الحدث في ضوء أسئلة راهنة، فيأتي الصوغ الروائي لها إعادة تركيب للمتشابهات والمختلفات من العناصر البنيوية والظرفية ( قطعة من أوروبا، صمت الطواحين، معبد ينجح في بغداد، وكوكو سودان كباشي).