طوال ما يقارب عشرين سنة قضاها في وزارة الثقافة المصرية، لا يكف فاروق حسني عن إبداء الآراء التي تثير معارضيه. فهو يراهم دائماً في موقع المتربصين"بسياساته وكثيراً ما تورط في اتهامهم أو وصفهم بتهم بشعة تعطي خصوماته طابعاً مثيراً يصعب تفاديه، لا سيما وقد أدارها من موقع المطمئن الى الدعم القوي الذي ناله من الدولة، إضافة الى دعم معنوي آخر وفره له بعض المثقفين، سواء المؤمنون منهم بإنجازاته أو المرتبطون معه ببعض المصالح، وقد صاغها باقتدار طاقم مميز من"الكوادر"الثقافية أضفى على سياساته مشروعية لم تكن لها سابقاً. وزاد من قوة تلك الشبكة ومتانة خيوطها كونها ربطت نفسها ببعد عربي لا يمكن إنكاره، الأمر الذي منح نشاطات الوزارة عمقاً اقليمياً ميزها عن بقية وزارات الثقافة في العالم العربي، وهي وزارات تشكو إضافة الى غياب الإرادة السياسية، من غياب الدعم المالي ولا تسعى لاستنساخ الحالة المصرية التي تملك خصوصية تاريخية لافتة في ربطها الدائم بين الفعل الثقافي والدور السياسي الى حد التعصب بفكرة"الريادة". وقد يلاحظ بعضهم ان هذا الربط تنامى في السنوات التي تولى فيها حسني الوزارة ولأسباب موضوعية اقتضتها حاجة مصر الى استعادة فضائها العربي بعد سنوات"السبعينات العجاف"من القرن الفائت. والحال ان حسني أدى هذا الدور بمهارة لا يمكن انكارها، لكن نجاحه في تعميق روابطه مع"مثقفي الداخل"لم يكن في القدر نفسه، صحيح انه نجح في تفادي المعارك الصغيرة التي ارتبطت غالباً بأمور فئوية وموسمية كمنح التفرغ أو جوائز الدولة، وصحيح كذلك انه عبر"المأزق"الذي سببته طريقة الروائي صنع الله ابراهيم في رفض جائزة الرواية العربية، إلا أنه في"كارثة"في جحم حريق مسرح"قصر ثقافة بني سويف"لم يتمتع بقدر وافر من الخيال يمكنه من تجاوز الأزمة كلياً. فهو لا يزال مصراً على ارتكاب الهفوات نفسها في تحليل الأسباب التي يلقيها كاملة على ضحايا"المحرقة"التي التهمت أكثر من خمسين كاتباً وناقداً ومبدعاً وممثلاً، وهم من الاسماء التي حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن الفن في الاقاليم لئلا تتحول"بؤراً"مهيأة للتطرف أو كياناً يحمل"فيروس"التعصب. وحاول حسني تطويق الازمة بعد اسبوع واحد من اندلاع الحريق بتقديم"استقالة"لم ير المثقفون الغاضبون فيها أكثر من"طقس استعراضي". وساعدهم على القبول بهذا الاستنتاج تلك العريضة التي رفعها بعض أنصار الوزير للمطالبة باستمرار"الوزير الفنان"، وهي عريضة وجدت استجابة سريعة لدى"الدولة"وفي طريقة تخالف التقليد التاريخي في تجاهل مطالب المثقفين الذين أضاعوا الكثير من جهدهم في كتابة بيانات لم يلتفت اليها أحد. وبعد مضي قرابة ثمانية أشهر من التحقيقات جددت محكمة بندر بني سويف في حكمها الصادر الأسبوع الفائت الحديث عن القضية، ورفضت الطعن المقدم من المستشار القانوني للوزير لعدم مسؤوليته المدنية عن الحادث، وقضت بإلزامه مع المتهمين الثمانية بدفع تعويض موقت، بصفته مسؤولاً عن الحقوق المدنية لأعمال تابعيه. ورفضت المحكمة كل الدفوع التي تقدم بها المتهمون وعاقبتهم بأقصى العقوبة المقررة، وهي عشر سنوات سجناً مع كفالة عشرة آلاف جنيه، ومن هؤلاء مصطفي علوي، رئيس هيئة قصور الثقافة السابق، وذلك لارتكابهم جرائم القتل الخطأ والإضرار العمدي بممتلكات الدولة وإدارة ملهى غير مطابق للمواصفات، ولا تتوافر فيه الشروط العامة والخاصة المقررة قانوناً. وأكدت المحكمة في حيثيات حكمها،"أنه لم يصدر استجابة لصرخات الأمهات الثكالى وشهادات الخبراء المتخصصين فقط، بل جاء لما استقر في يقينها من جرائم اقترفها المتهمون، وأهابت المحكمة بكل من كان موقعه رئيساً، ونما من خير مصر وشرب من نيله أن يوفيه حقه ويرد له الجميل، لئلا تضيع ثرواته البشرية". وعلى رغم وضوح أو قوة حيثيات الحكم الذي وجد استجابة لدى قطاعات المجتمع المدني التي لعبت دوراً مهماً في التوعية بمخاطر المحرقة، فضلاً عن انتقاد سياسة"الوزير"، خرج حسني الى الصحافة المصرية بجملة من التصريحات المستفزة يؤكد فيها"أن الحكم القضائي الصادر ضد مصطفي علوي الرئيس السابق للهيئة العامة لقصور الثقافة بالسجن لمدة عشر سنوات،"قاس""، وأشار إلى أن"مسؤولية علوي تعد"أدبية"بحتة وليست جنائية". ويطالب بنوع من الرأفة معه مراعاة لسنه ومستقبله. والأفدح ان الوزير حمّل الفنانين والنقاد"المسؤولية من جديد لأنهم الأكثر فهماً ودراية بالمسرح وبالمكان الذي يصلح لإقامة العروض المسرحية، وكان من الممكن - بحسب قوله - أن يعترضوا على إقامة المهرجان في قصر ثقافة بني سويف". هنا لا بد من مساءلة الوزير من جديد ان كان في إمكان هؤلاء المساكين ان يعترضوا؟ وإذا حدث واعترضوا فهل كان هناك من يسمع؟ الجميع يشكون في ذلك، على الأقل لأنهم اطلعوا على عشرات التصورات التي قدمت في تقارير رسمية لتطوير"الثقافة الجماهيرية"ومسارحها ولم يلتفت اليها أحد. لكن الوزير الفنان آثر كعادته تكرار الأخطاء القديمة نفسها، وبدلاً من مواساة الضحايا وتحمل مسؤوليته بشجاعة تقتضي منه التفكير في خطة حقيقية لإصلاح"قصور الثقافة"والالتفات الى أوضاعها المهملة منذ عقود عاد ليتبنى النبرة"المتعالية"نفسها التي حكمت طريقته في إدارة معاركه، متورطاً في التعليق على حكم قضائي، وإصدار أحكام من شأنها التأثير في القضاء الذي لا يزال ينظر في القضية. ويبدو ان الوزير لم يشاهد فيلم"ضد الحكومة"للراحلين عاطف الطيب وأحمد زكي أو ربما شاهده، فهو لم يعد أمامه الآن سوى فرصة وحيدة تمكنه من ان يرتب لمحاميه وسيلة الاتصال بمسؤول كبير يتدخل في الحكم. والواضح ان الوزير ليس قادراً الآن على قراءة اللحظة الراهنة التي تشهد مداً جارفاً لا ينتصر فقط لفكرة"استقلال القضاء"وانما يسعى الى إحداث تغيير اجتماعي شامل يعيد الاعتبار الى حقوق المواطن التي هدرت لفترة طويلة.