رحل عوني كرّومي في أحد مستشفيات منفاه البرليني، تاركاً المسرح العربي في حالة ذهول ليست ببعيدة عن مناخات تلك الأعمال التي برز من خلالها قبل عقدين، وكان يبنيها دائماً عند الحدّ الفاصل بين الطوباويّة والفجيعة. في ثمانينات القرن المنصرم في بغداد، اكتشفنا المخرج الذي كان يغرّد خارج سربه في عزّ السنوات الرمادية، والحرب العراقيّة - الايرانيّة في أوجها. لم يكن أحد مهتماً آنذاك بالديموقراطيّة وحقوق الانسان في العراق، وكان كرّومي يعيش مهمّشاً ومحاصراً، خارج المؤسسة الرسميّة. بل ان الاجهزة المشرفة على الثقافة راحت تنظر إليه بعين الشبهة، بسبب النبرة المتشائمة لأعماله. وتهمة"التشاؤم"، الخطيرة في عزّ التعبئة من أجل الحرب، ألصقت به بعد تقديم مسرحيّة"ترنيمة الكرسي الهزّاز". يومها ذهل ضيوف مهرجان بغداد المسرحي بهذا العرض الذي قدّم في بيت تقليدي على ضفاف دجلة، في شكل احتفال طقوسي، تحييه أم وأخت في انتظار الجندي الذي لن يعود من الحرب. احتلّ كرّومي موقعه بين أبرز مسرحيي جيله، قبل ذلك التكريس بسنوات. بعد تخرّجه في معهد الفنون الجميلة في بغداد سنة 1965، وإكماله الدراسات العليا في برلين الشرقيّة حينذاك، بين 1972 1976، مضى في سبر أغوار المدرسة البريختيّة، وصار يعتبر بين الأبرز في المسرح العراقي، مع صلاح القصب في"الداخل"يومذاك، وجواد الأسدي في"الخارج"، وسواهما. ولد عوني كرّومي في نينوى عام 1945، ويروي أنّه أحبّ المسرح حين وقع في حفرة بالمصادفة، فتعرّف إلى قبور مدينته وكنوزها الأشورية. بدأ المسرح في وقت مبكّر، مدركاً أنّه نشاط اجتماعي وسياسي. درس الفن في معهد الفنون وأكاديمية الفنون في بغداد ومثل في مسرحيات كثيرة. ودار مشروع تخرّجه حول"كاليغولا"الذي يبحث عن المستحيل والحرية المطلقة ويسأل عن معنى الوجود. دخل في حوار مع نيكوس كازانتزاكيس في"المسيح يصلب من جديد". سافر إلى ألمانيا"في الفترة التي مات فيها غيفارا وبدأت الثورات تتمخّض عن الخيبة"، كما كان يردد، فوجد ملاذه في هاينر مولر... ومن خلال علاقته بالرجل وابداعه أدرك صعوبة التغيير وصعوبة البناء بعد الثورة بين فخ البيروقراطية وشبح الارستقراطية الفكرية. غاص كرّومي على الميثولوجيا العراقية - السومرية بحثاً عن هوية أو جذور لمسرحه، فقدم"رثاء أور"النص السومري الذي يعود الى الألف الثالث قبل الميلاد كجواب على التشرد والدمار والحرب. وعاد من برلين إلى بغداد محملاً بپ"جنون جيل السبعينات"، وبإرث برتولت بريخت الذي ساهم في بعثه على خشبات المسرح العراقي، مع "حياة غاليليه"1978 وپ"كوريولانوس"1979 وپ"رؤى سيمون ماشار"1980. وجاءت الحرب، لتغرقه في حال من الانعزال والبحث عن لغة بديلة وجدها في الطقوسيّة والاحتفاليّة. كان يرى في الحرب مع ايران"تجسيداً للعبث بكل معانيه، والكذبة الكبرى بكل خلفياتها السياسية والايديولوجية، تلك التي خرجنا منها بعدد هائل من الشهداء والقتلى والمعوقين". استعاد عوني الصبي الصغير الذي مثل دوره مبتدئاً، ذلك الذي يأتي ليعلن تأجيل وصول"غودو"في مسرحيّة بيكيت الشهيرة. أيقن أن الخلاص مؤجل، وراح يبحث في أعماله عن ذلك الخلاص، من خلال أعمال فاروق محمد في"الغائب"الذي لا يعود ولا ينقذ وهو مجهول ومنتظر. وكانت"ترنيمة الكرسي الهزاز"صرخة يأس مدوّية وجميلة وجنائزيّة، ما زال يذكرها أهل المسرح العربي جيّداً. كأن البيت البغدادي الذي قدم فيه العمل هو وطن يخنق أبناءه ويدفعهم الى عزلة دائمة وانتظار المستحيل. وتتالت أعماله في العراق"صراخ الصمت الأخرس"،"بئر وشناشيل"لعباس حربي... وبعد غزو الكويت، أخرج"الطائر الأزرق"في الأردن،"الخال فانيا"وپ"القشة وانتيغون"التي تطرح أسئلة الديموقراطية الغائبة. ثم خرج كرومي من بلاده، عاد إلى برلين التي احتضنت أحلام شبابه، ليعمل في مسرح"الرور"ممثلاً ومخرجاً، ومدرساً في جامعة همبولدت. ونشط في عواصم عربيّة عدّة: من القاهرة حيث أشرف على ورشات عمل وقدّم عملين في"مسرح الهناجر"، إلى بيروت حيث عمل في"مسرح المدينة"، مع ممثلين شبان، على أحد نصوص الكاتب النروجي آرلنك كيتلسن، مروراً بدمشق حيث قدّم مع طلاب"المعهد العالي للفنون المسرحية"مسرحية"العرس"عن نص برتولت بريخت"عرس لدى البورجوازيّة الصغيرة" التي أثارت جرأتها الرقابة، وتبقى في الذاكرة كأحد أجمل تجارب المسرح العربي في العقود الأخيرة. وضع عوني كرّومي مؤلفات نظريّة تعتبر امتداداً لتجربته في الاخراج. منها:"وظيفة المخرج في المسرح"،"اطروحات في المسرح العراقي القديم"،"غروتوفسكي والمسرح الفقير"،"الاغتراب في المسرح العربي"،"فن التمثيل"... رحل عوني كرّومي قبل أن يكمل مسيرته الابداعيّة، وكانت حياته زاخرة بالمشاريع. يستقبل الاصحاب في منزله في برلين، يحكي لهم عن بغداد البعيدة، عن طريق العودة المستحيلة... أو يرافق ضيوفه العرب إلى المقبرة القريبة، ليزوروا قبر برتولت بريخت وهيلينا فايغل. الآن ها هو عوني الذي فشل في استعادة وطنه، يبحث لنفسه عن مقبرة تتسع له في برلين.