إذا كان من ظاهرة أساسيّة تستحقّ الاهتمام في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" هذا العام، فهي تعاظم دور الفرق المستقلّة التي تعمل من خارج المؤسسة الرسميّة، وقد احتلت موقعها تدريجاً داخل المهرجان، أو بقيت على هامشه ساعية الى تقديم نفسها، وتوسيع دائرة جمهورها. وللمسرح في مصر - كما للثقافة بمختلف مؤسساتها - منطقه الخاص الذي يصعب تناوله هنا، لكنّ مهرجاناً متخصصاً بالمسرح التجريبي هو المكان الأمثل والنموذجي لاحتضان مختلف التجارب والمحاولات الشابة في مصر... فهل هذا ما يحدث حقاً؟ وكيف تعيش التجارب الطليعية التي تعاني - مثلها مثل المسرح الجاد برمّته - من انحسار وتقوقع، محاصرة بين نارين: منطق البيروقراطيّة من جهة، وما يحضنه من فهم خاطئ ، ايديولوجي، ذهني، للمسرح الجاد... وطغيان المسرح التجاري بمختلف تياراته من جهة أخرى، وهو قائم على نظام النجوم، والمعادلات السهلة التي تحقق الاقبال والرواج، وتكيّف أذواق الجمهور، يساعدها في ذلك تفشّي الفضائيات والمستوى الفنّي الهش الذي تقوم عليه في معظم الأحيان... احتضنت القاهرة هذا العام لقاء موازياً لمهرجان القاهرة التجريبي، هدفه التعريف بالفرق المصرية الخاصة التي لا تتاح أمامها الفرصة للمشاركة في المهرجان الرسمي. وهذه المجموعات تحمل أسماء معبّرة: الضوء، كاريزما، أتيلييه المسرح، باب، القافلة... إضافة إلى "فرقة الورشة" التي باتت مؤسسة قائمة بذاتها، والتي قدّمت مساء السبت 6/9 عرضها الجديد "اللي يعيش" المستوحى من أصوات القاهرة وضجيجها. قدمت عروض تلك الفرق في حديقة مفتوحة تابعة لمركز الجزيرة للفنون وفي قاعة مسرح المركز الثقافي الفرنسي. وأعادت "الورشة" تقديم مسرحيّة توفيق الحكيم "رصاصة في القلب" اخراج حسن الجريتلي... بالتعاون مع وزارة الثقافة المصريّة يصعب هنا الكلام على قطيعة تامة مع المؤسّسة الرسمية والمركز الثقافي الهولندي... ويحضر المسرح المصري من خلال ما يقارب العشرين مسرحيّة التي أنتجها مسرح الشباب ومسرح الطليعة والمسرح الحديث... ناهيك ب "مركز الهناجر للفنون". لكن القاسم المشترك بين معظم تلك الأعمال - للأسف - كونها مرتبطة بالمناسبة، فمعظمها أشبه بطفرة تنتهي مع هبوط ستارة الفصل الأخير على خشبة المهرجان. في حين أن هذا الزخم الانتاجي يفترض تواصلاً واستمرارية وانتشاراً على مختلف أشهر العام وفصوله. "حسن ونعيمة" مجدداً... الأمثولة الأولى التي يخرج بها المراقب المتمهّل من العروض المصريّة والعربيّة في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" هذا العام، هي حالة من الازدواجيّة بين اتجاهين جماليين يصعب التوفيق بينهما إلا في حالات نادرة. هناك التيار الاختباري الذي يفترض به اعادة النظر بالقوالب والأشكال الفنية، وابتكار مفردات جمالية وتعبيرية جديدة، وفي ظلّه نقع على تجارب مختلفة التسميات: عرض حركي راقص، "مسرح الاستفهام"، مسرح الصورة... وهناك ترسبات المسرح الشعبي والاحتفالي والطقوسي الذي يجد جذوره في الثقافة السائدة والوجدان الشعبي. والاتجاهان يتعايشان بشكل طبيعي على برنامج المهرجان. كأن مشروع التجريب ما زال في خطواته الأولى، يحاول أن يبحث عن هويّة وتختلط عليه المفاهيم والمراجع أحياناً. من المفترض أن يقدّم المهرجان مثلاً "حسن ونعيمة" المأخوذة من الموال الشعبي المعروف، والحكاية الشعبية المنتشرة في الثقافة الجماعيّة. وكان "مسرح الورشة" قدمها في قراءة لافتة قبل عقد ونيّف. الصيغة الجديدة هي من تأليف مصطفى مرسي واخراج حسن الوزير، وألحان محمد نوح بطولة علي الحجار ولقاء سويدان. والسؤال البديهي هو أي مكان لمثل هذه الأعمال المهمة في مهرجان للتجريب؟ وفي الاتجاه نفسه هناك أعمال كثيرة تبدأ مع "أطياف حكاية" ياسين الضوي، ولا تنتهي مع نصّ سعدالله ونّوس اللافت "أحلام شقيّة" الذي يخرجه محمد أبو السعود بطولة عايدة عبد العزيز، سلوى محمد علي، علي حسنين. على الضفّة الأخرى، نجد كلّ العروض التي تولي الجسد والتشكيل والرقص وشتّى التقنيات وعناصر الفرجة اهتمامها الأوّل. هناك طبعاً عرض وليد عوني "حلم نحات - محمود مختار ورياح الخماسين" الذي افتتح هذا الدورة ويشارك في المسابقة الرسمية، ونال عوني كعادته قسطاً وافراً من الانتقادات وصيحات الاعجاب. والعمل من دون شكّ يمثّل ذروة في مسيرة الكوريغراف اللبناني الذي يغوص هنا في مسيرة النحات محمود خليل مختار 1891 - 1934، وتماثيله التي تشكّل جزءاً أساسياً من الذاكرة المصريّة، كما فعل من قبل مع التشكيلية تحية حليم أو السينمائي شادي عبد السلام. يعمل وليد عوني على امكانات الجسد التشكيلية والحركية، متوسلاً أدوات بسطية كالحجب البيض، فينحت لوحات حية تستعيد تماثيل مختار وحكاياتها وزمنها... زمن هدى الشعراوي وبدايات أم كلثوم، وسعد زعلول و"نهضة مصر". يستعمل مقطوعات وأغنيات تراثية أغنية حداء الابل، من أغاني الصيادين، وجمع القطن، والرقص الجنائزي، والختان، كما يلجأ إلى أغنيات نوبية وأغنيات قديمة نادرة لأم كلثوم، فيمزجها بمقطوعات لشوبرت وباربر وغريغ، ويوقّع عليها رقصات وحركات غير معهودة ولا مألوفة. وتكثر العروض المصريّة التي تنشغل بالبعد البصري والجسدي، وتحاول دخول دائرة التجريب. نشير مثلاً إلى "ماريونيت" انتصار عبد الفتاح/ هاني البنا، و"هنا نصّ... وهنا نصّ" مصطفى سعد، و"اللعب في الدماغ" خالد الصاوي. ولا بدّ من التوقّف عند موندراما بعنوان "أستغماية" تسلّط الضوء على موهبة شابة هي ريم سيّد حجاب التي شاركت في أعمال سابقة لوليد عوني. وهي هنا ترقص وتحكي وتمثّل وتعبّر جسدياً، لتحكي قصة غامضة الملامح فيها عسكر وحرامية وبهلوان. إنّما فيها توترات جسد أنثوي يعيش حالاً من الفصام ويواجه عنف الخارج الذكوري المتصدّع الذي يؤدي حتماً إلى الهذيان. وفي السياق نفسه يندرج العرض الحركي الراقص "شرقيات ولكن..." ضياء شفيق ومحمد مصطفى الذي يعتمد على تقنيات المسرح الراقص للتعبير عن اشكالية طمس الهويّة الشرقية. هناك عرضان آخران من مصر، يستحقان الاهتمام. الأوّل نتيجة ورشة مسرحيّة أدارها العراقي قاسم محمد في "الهناجر" وأسفرت عن عرض بعنوان "أقنعة، أقمشة ومصائر" الذي يشارك في المسابقة الرسميّة، وقد تولّى اخراجه هاني التناوي. وأخيراً العمل الجديد لناصر عبد المنعم الذي لفت إليه الأنظار منذ سنوات في اعتماده على أعمال أدبيّة "خالتي صفية والدير" لبهاء طاهر، أو "الطوق والأسورة" ليحيى الطاهر عبدالله، انطلاقاً من طقوس الفرجة الشعبية. وهو هذه المرّة يشتغل على ثلاث رواية للأديب الاشكالي إدريس علي، وتكون النتيجة "نوبة دوت كوم" الذي يغوص في مناطق مؤلمة ومسكوت عنها من الوعي المصري الحديث.... ويعتمد شاشة كومبيوتر يخوض من خلالها في فصول عرضه الذي كان يستحق المشاركة في المسابقة الرسميّة. أين المسرح اللبناني والتونسي؟ الأمثولة الثانية في "التجريبي" هذا العام، هو غياب صارخ للمسرح اللبناني، اذا استثنينا تجربة خاصة وعلى حدة، قام بها العراقي عوني كرّومي مع مجموعة من الممثلين اللبنانيين الهواة في كنف نضال الأشقر، ورعاية "مسرح المدينة" البيروتي. وتلك التجربة على أهميتها غير قادرة على تمثيل حال معيّنة في المسرح اللبناني، كما انّها لا تعبّر عن تجربة كرّومي المميزّة نفسها، من "ترنيمة الكرسي الهزاز" في بغداد الثمانيات... إلى "العرس" التي تألق بها في دمشق التسعينات. فهل السبب هو شحّ الانتاج في بيروت؟ أم أن ادارة المهرجان القاهري تغاضت عن أعمال مميّزة كان يمكن أن تثري بها برمجة دورتها الخامسة عشرة؟ وإذا أضفنا إلى الانحسار اللبناني... التقهقر الملحوظ في المسرح التونسي كما يتجلّى من خلال عملين اثنين شاركا هذا العام في "التجريبي"، نكون كوّنا صورة غير مضيئة أبداً عن حال المسرح العربي اليوم. فعسى "أيّام قرطاج المسرحيّة" التي تعقد في تونس في 8 تشرين الأوّل أكتوبر المقبل، تصحح تلك الصورة، وتحمل لنا بعض الأعمال التي تذكّر بالعصر الذهب للمسرح في بلاد علي بن عياد. العمل التونسي الأوّل بعنوان "أنا والكونترباس" عن نصّ باتريك سوسكيند المعروف من اخراج محمد منير العرقي تمثيل جعفر القاسمي، نبيلة قويدر، علي دمق... كان يملك كل مواصفات العرض الناجح، لولا أن القراءة الاخراجيّة... وادارة الممثلين جاءتا تختزنان كل كليشيهات المسرح الطليعي التونسي. من "هستيريا" الفاضل الجعايبي إلى طريقة تمثيل توفيق الجبالي الكاريكاتوريّة المضخّمة، مروراً بعوالم رجاء بن عمّر الانسان الفاشل الذي يعلك مرارته - الأطياف التي تحوم على الخشبة آتية من رؤى وتهويمات غامضة. نحن هنا أمام عازف الكونترباس الذي يحكي علاقته بآلته، فنكتشف رجلاً مريراً، يعاني من التهميش والقهر في لعبة السلطة داخل هرميّة الأوركسترا، كما يعاني حبّه المكبوت لحبيبته سارا مغنية السوبرانو التي يمرّ طيفها على المسرح في ممارسات وايقاعات مختلفة. يحشد العرض كله التقنيات التي صنعت بريق المسرح التونسي قبل عقد... ما يطرح سؤالاً محرجاً على رواد ذلك المسرح، ويلزمهم بتجاوز لغتهم وأدواتهم التي استهلكت ونسخت إلى ما لا نهاية... فصارت مجموعة من القوالب الجامدة المستعادة والمفردات المحنطة. وها هي ابداعات الأمس تتحوّل إلى جزء من انحطاط الراهن: على رموز المسرح التونسي أن يخرجوا من الحلقة المفرغة، ويرفعوا التحدي قبل فوات الأوان. أما العمل التونسي الآخر اخراج المنجي بن ابراهيم، فهو مسرحيّة "الباب" عن نصّ لغسان كنفاني يعود إلى الستينات، ويعكس قلق المرحلة وأسئلتها الفلسفيّة والوجوديّة وتحدياتها. لكن ما مناسبة العودة إلى تلك القصّة الرمزيّة التي تطرح أسئلة الغيب والسلطة والتمرّد الميتافيزيقي والوجودي، بعد قرابة أربعة عقود؟... بعد أن تغيّر الطرح واللغة والمراجع والهواجس، وتراجع الواقع الفكري العربي في النصّ جرأة فكريّة لم تكن ممكنة اليوم!... ولا شكّ أن "الباب"، التي تدور حول قصّة شدّاد في صراعه مع القوى العليا هوبة، وإخفاقه في بناء جنّته على الأرض إرم ذات العماد، من أعمال كنفاني التي هرمت وبات يصعب تقديمها على المسرح، كما يصعب تقديم جان بول سارتر الذي تبدو بصماته جليّة على النصّ. فكيف بالأحرى حينما تقدّم في قالب ميلودرامي مضحك بفقر خياله، وأدواته البدائيّة، ونزعته "التلفزيونيّة" التي تثقل الأجواء وتجعل الرتابة سيّد الموقف على رغم الصراخ الحاد المصدّع الذي يعبر العرض من أوّله إلى آخره... مفاجأة المهرجان لعلّ من مفاجآت "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" هذا العام، المسرحيّة التي يقدّمها "مسرح الصواري" بعنوان "يوم نموذجي". وهي ليست المرّة الأولى التي تخلق فيها تلك الفرقة الآتية من البحرين عنصر المفاجأة في المهرجانات العربية... من خلال اشتغالها على تقنيات العرض وامكانات الممثل، ونزعتها التجديدية في الشكل خصوصاً السينوغرافيا والاضاءة، ونزعتها الاستفزازيّة الجريئة في المضمون. "يوم نموذجي" عن نصّ للإيطالي ألبرتو مورافيا، أعاد إبراهيم خلفان تفصيله على واقع عربي، ومقاسات جمالية مثيرة للاهتمام. من الأسلبة واختبار امكانات الجسد والصوت ومسرح الصورة... إلى وسائل "التغريب" البريختي التي تصدم وعي المتفرّج. يبدو العمل منسجماً مع نفسه في مشاغله الراديكالية التي تتهم النمط الاستهلاكي، وتحمل نبرات من الفرنسي جورج بيريك في كتابه "الأشياء"، أو من نصّ استفزازي سياسي لويلهالم رايخ بعنوان "استمع أيّها الرجل الصغير"... كل ذلك من خلال لعبة حركية كوميدية للثنائي رانيا غازي - محمد الصفار، تعتمد على الجسد والصوت والايقاع، ولا تتردد في توسّل التضخيم الهاذي الذي يهدف إلى الفضح السياسي . إذا كانت ندوة هذه الدورة من المهرجان عن "التجريب في زمن الأزمات"... فإن الجواب العملي على أسئلة كثيرة مطروحة ضمن هذا السياق نجدها في مسرحية فرقة "الصواري" البحرينيّة. إن المخرج الوحيد في هذا الزمن المأزوم، يندرج في سياق راديكاليّة سياسيّة وجماليّة تتهم الوضع القائم والقوى الطاغية.