مع عصف الثورات العربية، يبدو الإرث الناصري الأكثرَ إثارة للتساؤل بعد مرور واحد وأربعين عاماً على رحيل جمال عبد الناصر. من بين الأيديولوجيات التي انتشرت في النصف الثاني من القرن الماضي، تبدو النسخة الناصرية من القومية العربية الأكثرَ التباساً واستعصاء على إصدار نعي صريح لها، فالبعث بشقيه العراقي والسوري، خرج من دائرة التأثير، ليس كناظمَيْ حكم وحسب، بل كإطار سياسي وفكري يدعو إلى إحياء حضاري غير ديني لأمة يجادل البعض في حقيقة وجودها ككيان سياسي من أصل، وبات الحديث عن «الأمة العربية الواحدة»، ناهيك عن «رسالتها الخالدة»، أقرب إلى مواضيع التندر منه إلى الحديث السياسي الرصين. مفهوم أن التجربة البعثية، باعتمادها على الانقلابات العسكرية للوصول الى السلطة ثم على العنف والقمع للبقاء في مكانها، وإخفاقها في كل التجارب التي خاضتها، من التنمية إلى خسارة الأرض امام الاحتلال الأجنبي، بل استدعائه، على ما فعل صدام حسين ويفعل الحكم السوري اليوم، ليست مما يمكن تسويقه او الاقتداء به. مآلات الناصرية ليست أنصع، فصاحب الصرح شاهد حطامه وهو بعدُ على قيد الحياة في هزيمة 1967، ولم يقدِّم من قالوا انهم يسيرون على طريقه، سواء «الأمين على القومية العربية» معمر القذافي أو ناصريو سورية ولبنان واليمن الجنوبي (قبل الاتجاه يساراً)، أيَّ نموذج تمكَّنَ من تحقيق حد أدنى من النجاح. بيد أن ذلك لم يُعْدِم الناصريةَ جاذبيتَها. الأرجح أن الاعتراف بدور الجماهير والتعويل عليها في إحداث التغيير السياسي، على نقيض النزعة التآمرية العسكرية البعثية، تركت مجالاً للناصرية لتعبِّر عن حاجة المجتمعات العربية إلى المشاركة السياسية. يضاف الى ذلك صدور الناصرية عن الاكثرية، بالمعنيين القومي والديني، في أكبر الدول العربية، وبراءتها بالتالي من الحاجة الى التأكيد على علمانية متوترة أو تورية ميول عشائرية وجهوية ضيقة، على النحو الذي فعله ضباط البعث في المراحل التي أعقبت التأسيس. عليه، بدت الناصرية أكثر تصالحاً مع الفئات البرجوازية الصغيرة المدينية المسلمة الراغبة في الارتقاء الاجتماعي والمشاركة السياسية في اطار جماهيري مفتوح. ورغم تورط النظام الناصري في حملات قمع واسعة ضد كل معارضيه، من الشيوعيين إلى الإسلاميين، ورغم مسايرته شوفينية محلية عبّر عنها بنظرية الدوائر الثلاث، العربية والأفريقية والإسلامية التي تتقاطع وتلتقي مراكزها في مصر، غير أن ذلك لم يحل دون احتفاظ جمال عبد الناصر بتأييد شعبي فعلي الى اليوم الأخير من حياته. يضاف إلى ذلك أن النهاية التراجيدية للناصرية بعد حرب 1967 وأثناء حرب الاستنزاف، أكسبتها تعاطف أعداد من المصريين والعرب الذين رفضوا ويرفضون الاعتراف بتزامن نهايتها مع رحيل مؤسسها. ليس معنى هذا الكلام ان الناصرية لا تحمل في تضاعيفها بذور الاستبداد وإقصاء الآخرين، مثلما يحمل «البعث»، بل هو يرمي إلى القول إن الناصرية مازالت قادرة على مخاطبة حساسية شرائح من الشباب والفئات الأكبر عمراً، ربما لخلوها من تشنج رافق ظهور الأحزاب القومية الأخرى. لكن هل يعني ذلك بقاء الناصرية صالحة كنظرية للحكم في المستقبل؟ الواضح انها باقية كحنين إلى حلم لم يتحقق أكثر منها كمنهج في السلطة او في الوصول اليها، وستظل أنشودة لمرارة الهزيمة والنصر الضائع، أكثر مما هي استشراف لطريق المستقبل. صور جمال عبد الناصر في تظاهرات الربيع العربي لا تقول اكثر من ذلك.