مرت مؤخراً الذكرى الخامسة والتسعون لميلاد الزعيم المصري والعربي الراحل جمال عبد الناصر، وتزامنت مع تحديات تواجه القوى الناصرية العربية، بخاصة في البلدان التي شهدت ثورات «الربيع العربي»، وذلك بعد نحو عامين على اندلاع الشرارات الأولى لتلك الثورات. وتتنوع وتتعدد التحديات على أكثر من صعيد: أما المسألة الأولى فتتعلق بظاهرة التفتت التنظيمي التي تعاني منها الحركة الناصرية العربية منذ نشأتها، بما في ذلك في مصر ذاتها بعد رحيل عبد الناصر. والأمر لا يقتصر على التفتت على المستوى القومي العربي بل حتى على المستوى القطري الوطني. ويظهر ذلك واضحاً إذا ما قارناه مثلاً بالحالة التنظيمية المتماسكة لجماعة الإخوان المسلمين، على رغم خروج شخصيات أو مجموعات محدودة منها على مدار العقود. ولا يعني هذا عدم حدوث محاولات متتالية داخل مختلف الأقطار العربية وعلى المستوى القومي العربي لتجاوز حالة التفتت تلك، ولكنه يعني أن الناتج العملي لهذه المحاولات على ارض الواقع لا يزال يتسم بالتواضع،على رغم أن آخر هذه المحاولات، والتي تمت في ذكرى رحيل الزعيم الراحل في 28 سبتمبر (أيلول) 2012، واختصت بالعمل على توحيد القوى الناصرية داخل مصر في حزب واحد، اتسمت بالطموح. فقد استهدفت توحيد كافة القوى والأحزاب الناصرية المصرية في حزب واحد. إلا أننا رأينا في التظاهرات التي تمت في مصر في تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) الماضيين أن بعض أنصار أحزاب ناصرية مصرية لا يزالون يرفعون شعارات وأعلام أحزابهم بينما يرفع آخرون شعارات وأعلام الحزب الناصري الموحد. وينطبق الأمر نفسه على الأحزاب والقوى الناصرية في دول عربية أخرى. أما المسألة الثانية فتتعلق بغياب الزعامة القادرة على تجميع كافة القوى الناصرية وراءها، وعلى جذب تأييد شعبي واسع داخل هذا القطر العربي أو ذاك، وذلك لفترة طويلة عقب رحيل جمال عبد الناصر. فمن الصحيح أن قيادات ناصرية لها قيمتها التاريخية أو مصداقيتها السياسية والشعبية، وإن بدرجات متفاوتة، تصدت لقيادة أحزاب أو جماعات ناصرية في أقطار عربية مختلفة، ولكن يمكن القول بقدر لا بأس به من التيقن أن أياً منها لم ترق إلى معياري توحيد القوى الناصرية خلفها وحشد تأييد شعبي واسع لها. إلا أن تحولاً نوعياً هاماً طرأ على هذه المقولة في الحالة المصرية عقب ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وظهر بشكل بارز في انتخابات الرئاسة المصرية أواسط 2012، وأعني حالة الأستاذ حمدين صباحي، الذي على رغم وجوده على ساحة العمل السياسي منذ مواجهته الشهيرة مع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في شباط (فبراير) 1977 وقيادته لحزب الكرامة ذي التوجه الناصري الذي ظل عاجزاً عن الحصول على الترخيص الرسمي لسنوات طويلة، برز بقوة كقيادة سياسية وشعبية وجمع وراءه قطاعات واسعة من المصريين، بخاصة الشباب، ونجح في نيل ما يقرب من خمسة ملايين صوت في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه صار: هل صباحي ما زال يصنف على أنه مجرد قيادة ناصرية، أم أنه تجاوز ذلك بحيث أصبح رمزاً لقوى أوسع من القوى الناصرية، سواء من اليسار بشكل عام أو حتى قطاعات شبابية ذات انتماءات مختلفة، ما يعني أن اختزاله بكونه قيادة ناصرية يأتي حسماً من رصيد اتساع وتنوع الأرضية والدعم الشعبي الذي يستند إليه؟ أما المسألة الثالثة فتتعلق بدور ومواقف الأحزاب والقوى الناصرية في دول «الربيع العربي» إزاء تلك الثورات ذاتها، وهنا نجد تبايناً في المواقف. ففي الحالتين المصرية والتونسية كانت القوى الناصرية في طليعة القوى الدافعة للثورة، وكان ذلك منطقياً على خلفية مجمل السياسات الداخلية والخارجية التي اتبعها النظامان السابقان والتي كانت مناقضة للتوجهات الناصرية، سواء من حيث التحالف مع الغرب أو من حيث السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة. إلا أن الوضع كان مختلفاً، وربما مربكاً، للقوى الناصرية في حالات سورية وليبيا واليمن، وذلك نظراً الى عدة اعتبارات، منها أن القيادات الموجودة في تلك الدول قدمت نفسها لعقود على أنها تمثل تياراً قومياً، ووصلت في أقصى حالاتها إلى حالة العقيد الراحل القذافي الذي كان يعتبر نفسه «الأمين» على تعاليم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومروراً بالقيادة البعثية السورية التي يفترض أنها تمثل تياراً قومياً، وإن كانت يمين حزب البعث، ووصولاً إلى حالة الرئيس اليمني السابق. ولذا حدثت انقسامات ذات دلالة في مواقف مختلف القوى والشخصيات الناصرية في تلك الدول إزاء القيادات القائمة، والثورات والانتفاضات الشعبية ضدها، بما فيها تشكيك بعض هذه القوى بالطابع الوطني لتلك الثورات والإشارة ضمناً أو صراحة إلى بعد خارجي لها. أما رابعة وآخر المسائل فهي الاستراتيجيات التي ستتبعها هذه القوى في الفترة القادمة بهدف زيادة شعبيتها وتمكنها من تعظيم مكاسبها من التحولات الجارية. وفي هذا المقام سيتعين على هذه القوى الناصرية أن تركز على نقاط قوتها والتي تتركز في مسائل تتصل بالميراث التاريخي للتجربة الناصرية في ذاكرة الشعوب العربية، وأقصد ما يتصل باستقلال الإرادة والقرار الوطني وتبني سياسة خارجية مستقلة وبناء نظام إقليمي عربي قوى ومؤثر في محيطه ونموذج تنمية اقتصادية واجتماعية نابع من الواقع ويسعى لتلبية الاحتياجات والمطالب الخاصة بالقطاعات الأوسع من الطبقات الدنيا والوسطى، وذلك مقابل ما يبدو نقاط ضعف لدى القوى الناصرية، خاصة ما يتصل بانتقادات تتعلق بغياب الديموقراطية السياسية عن تلك التجربة التاريخية وما اتصل بذلك من تعاظم الطابع البيروقراطي للدولة والنخبة وغلبة أهل الثقة على أهل الخبرة وغيرها. وهذه المسائل تلعب دوراً مؤثراً في تشكيل المواقف المستقبلية للقوى الناصرية العربية، وفي صياغة تفاعلها ومواقفها مع الشارع العربي، كما في توازنات علاقاتها مع القوى الفكرية والسياسية الأخرى. * كاتب مصري