ترافق وصول حزب البعث للسلطة في سورية، عبر انقلاب 8 آذار (مارس) 1963، مع تعميقه الإصلاح الزراعي الذي وضعه عبدالناصر لسورية في أيلول (سبتمبر) 1958 (المرسوم 88،23 حزيران/ يونيو 1963) لمصلحة الفلاحين المتوسطين والفقراء، ومع التأميمات (كانون الثاني/ يناير 1965: بلغت رؤوس الأموال الاسمية للمؤسسات الصناعية المؤممة 300 مليون ليرة من الحجم الإجمالي للاستثمارات الصناعية الذي بلغ 550 مليون ليرة سورية عام 1962)، ثم مع احتكاره استيراد البضائع الصناعية والحاجات الاستهلاكية، واحتكاره تصدير القطن والحبوب (مراسيم شباط/ فبراير – أيار/ مايو 1965)، وصولاً إلى تأميم جميع الشركات العاملة في بيع وتصنيع ونقل المنتجات النفطية (آذار 1965) كان هذا إلغاء ومحواً للوحة اقتصادية – اجتماعية لمصلحة أخرى جديدة، ترافق فيها الاحتكار السياسي للسلطة (الذي تزامن مع قمع عنيف للخصوم السياسيين) مع تحول الدولة إلى رب العمل الرئيسي للمجتمع، ما أوجد توازناً اقتصادياً مختلاً لمصلحة السلطة مع استبداد سياسي بدأ بشمول الاجتماع والثقافة والإعلام بعد الاقتصاد، وهو ما كان ليتم بالدبابة وحدها، بل إن سيطرة الأخيرة كانت تجد دعائمها من خلال الحقائق الاقتصادية الجديدة التي تشكلت عبر «السياسة» لنجد الأخيرة مشكِلة لركائزها الجديدة من خلال ما تولد عنها في «الاقتصاد». من أول ما أفضت إليه اللوحة السياسية السورية في مرحلة ما بعد 8 آذار 1963، هو اختفاء التيار الليبرالي (الذي كان أساس الحياة السياسية السورية بعد عام 1946 ووجهها، وهو المتركز ضمن المدن الكبرى بين الصناعيين والقوى المالية) عن الساحة بعد أن فقد قاعدته الاجتماعية وركائزه الاقتصادية، فيما أتت المقاومة الأساسية للنظام الجديد من الفئات الوسطى في المدن والتي كانت ناصرية الطابع (حلب – اللاذقية – حمص) بينما كانت اخوانية وحورانية (موالية لأكرم الحوراني) في حماة (حوادث نيسان/ ابريل 1964). لم يؤد تمتع المقاومة والمعارضة للبعثيين بقاعدة اجتماعية كبيرة (كان حزب الاتحاد الاشتراكي العربي يضم عضوية تفوق ما لدى حزب البعث الحاكم في عام 1968) إلى تزعزع حكم البعث أو سقوطه، على رغم ظروف صراعات الأجنحة (القومي والقطري في شتاء 65 - 66، محاولة انقلاب سليم حاطوم في 8 أيلول 1966) وعلى رغم هزيمة 1967 والأداء الرديء للنظام في الحرب: لا يمكن تفسير ذلك عبر الدبابة وتشرذم الخصوم وفشل محاولاتهم الانقلابية أو كشفها قبل حصولها، بل يجب أيضاً إرجاع ذلك إلى أن ما ولّده حزب البعث من لوحة اقتصادية – اجتماعية جديدة، واختفاء القديمة، قد أدى إلى نشوء توازن اقتصادي - اجتماعي - سياسي ساعد في تكريس بقاء الوضع الناتج عن انقلاب1963، ومنع تجاوزه. كانت اللوحة الإقليمية عاملاً مساعداً للبعث في ذلك: 1- انشغال جمال عبدالناصر في اليمن وفي الصراع السعودي - المصري. 2- اضطراب حكم عبدالسلام عارف في بغداد المتحالف مع عبدالناصر. 3- أدى الصراع بين القاهرة والرياض - وضعف الحكم العراقي في الستينات - إلى إتاحة مساحة استطاعت من خلالها دمشق تجاوز مرحلة الخمسينات حين كانت ساحة للصراع السعودي - المصري بعد عام 1957 وحتى انقلاب 8 آذار 1963 وقبل ذلك بين عامي 1945 و1958 حين كانت كذلك ميداناً للتجاذب والصراع بين القاهرة وبغداد. ما يلفت النظر من جديد في اللوحة السياسية لمرحلة ما بعد 8 آذار - 18 تموز 1963 (التاريخ الأخير تمَ فيه إبعاد الناصريين عن الحكم بعد أن شاركوا البعثيين في انقلاب 8 آذار)، ليس فقط اختفاء الأحزاب والساسة القدماء (الشعب - الوطني – خالد العظم – رشاد برمدا... الخ) وإنما أيضاً التسريحات، التي تمت في النصف الأول من عام 1963، لأكثر من نصف ضباط الجيش حيث يلاحظ أن معظمهم من المدن، خصوصاً من دمشق وحلب وحمص (كانت كتلة «الضباط الشوام» أساسية في انقلاب الانفصال عام 1961) لمصلحة بداية هيمنة وسيطرة ضباط أتوا من الأرياف أو من بلدات صغيرة (ريف الساحل - السلمية - السويداء - دير الزور - درعا... الخ). ربما كان ذلك شكلاً موضوعياً لفشل القوى الحاكمة في سورية 1946 - 1958 في حل (المسألة الزراعية) التي كانت تولتها في انكلترا 1688 وفرنسا 1789 القوى السياسية البورجوازية. وتجلّى هذا الفشل بانزياح القوة من المدينتين الكبيرتين ومن النخبة السياسية القديمة التي طفت إلى السطح بعد 1946 لمصلحة الريف والبلدات الصغيرة (وهو ما نشهد مثيلاً له في المنطقة الممتدة بين الجزائر وطهران في الفترة الفاصلة بين قاهرة عبدالناصر 1952 وطهران الخميني في عام 1979). إلا أن الصراعات في الطاقم الحاكم لما بعد 8 آذار 1963، أخذت أشكالاً واصطفافات ذات طابع مديني – ريفي (الناصريون – البعثيون) ممتزج باختلاط فئوي. فيما برز الشكل الأخير في 23 شباط 1966 وفي (8 أيلول 1966 ضد «كتلة حاطوم»، بينما كان الطابع السياسي بارزاً أكثر في صراعات 1969 - 1970 بين الجناحين: «الحزبي» بقيادة الأمين العام المساعد لحزب البعث اللواء صلاح جديد و «العسكري» بقيادة وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد. لا يمكن القول إن تلك الصراعات حجبت القوة المرموقة للقاعدة الاجتماعية لحكم ما بعد 8 آذار 1963، والتي تعززت أكثر بفعل التحولات الاقتصادية – الاجتماعية التي أجراها البعث وبفعل مفاعلات اختفاء اللوحة الاقتصادية – الاجتماعية القديمة (عبر الإصلاح الزراعي والتأميمات) وما أدى إليه العامل الأخير من اختلال التوازن الاقتصادي - الاجتماعي لمصلحة قاعدة السلطة السياسية الجديدة، الأمر الذي يمكن أن يفسر صمودها أمام المعارضة المرموقة القوة المتركزة في المدن، والتي لم تستطع أن تنجح في إسقاط النظام، على رغم صراعاته، وتعرضه لهزات كبرى مثلما جرى في حزيران 1967. هذا التوازن الدقيق بين السلطة ومعارضتها يمكن أن يساعد في تفسير نشوء الاستبداد السياسي للسلطة، واتجاه الأخيرة، كلما زادت أزماتها وضاقت قاعدتها الاجتماعية بحكم الصراعات والتصفيات، إلى زيادة تسلطها بالترافق مع محاولة ضرب الحيز السياسي للمجتمع الذي ظل ناشطاً خارج السلطة: في هذا الإطار يلاحظ اتساع درجة استبداد السلطة السياسي وتناسبه طرداً مع اتساع عملية ضيق وتقلص قاعدتها الاجتماعية، وربما كانت تواريخ (18 تموز 1963) و (23 شباط 1966: إبعاد القيادة القومية للبعث لمصلحة القطريين بقيادة صلاح جديد) و (8 أيلول 1966) و (5 حزيران 1967) تمثل محطات في اتجاه هذا التضييق والتقلص الذي ترافق مع ازدياد المسافات بين السلطة والمجتمع وبالتالي مع ازدياد استبداد الأولى، الأمر الذي ترافق مع ازدياد العزلة العربية للنظام القائم، تجاه عبدالناصر وتجاه حكم البعث «القومي» الذي تسلّم السلطة في بغداد 17 - 30 تموز 1968، ومع تفاقم عزلته الدولية تجاه واشنطن أولاً وموسكو ثانياً بسبب رفضه القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 والداعي إلى «تسوية» الصراع العربي - الإسرائيلي، إلى أن وصل الى الاصطدام بالحائط الدولي بعد أن تجاوز الخطوط الحمر مع تدخله العسكري في أحداث أيلول 1970 في الأردن، فيما يلفت النظر أن رمز نظام (16 تشرين الثاني 1970) - أي الفريق حافظ الأسد - قام على معارضة سياسة نظام (23 شباط) حيال هاتين المسألتين، إضافة إلى محاولته التلويح بسياسة جديدة تجاه الداخل السوري وقواه السياسية والاجتماعية، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في مشهد سياسي كانت واضحة فيه حالة العزلة الاجتماعية التي عاشها نظام 23 شباط 1966، وهو ما عبرت عنه بوضوح طريقة تعامل غالبية كبرى من المجتمع السوري مع سقوطه في 16 تشرين الثاني 1970. * كاتب سوري