كلما جاءت ذكرى رحيل عبدالناصر استدعت لديَّ تلقائياً شجون التاريخ العربي كله، فهي تثير عندي مشاعر متضاربة بينها تأميم قناة السويس وبناء السد العالي والزخم القومي الذي ارتبط بعصره وحركة عدم الانحياز التي قدمته للعالم، وفيها أيضاً «الشرعية الثورية» كبديل من «الشرعية الدستورية» وانتهاك بعض الحريات وغياب الديموقراطية، حتى كانت هزيمة 1967 منعطفاً حزيناً في تاريخ ذلك القائد العربي، ولكن الذي يعنيني في هذا المقام هو البحث في أسباب انتكاسة «المد القومي» وحدوث الانفصال وسقوط دولة الوحدة! والأمر يدعونا إلى قدر كبير من الموضوعية والشجاعة عندما نتصدى لتلك الفترة بالتحليل والدراسة، فالأمر الذي لا جدال فيه هو أن تاريخنا القومي - مثلما هو تاريخ القضية الفلسطينية - هو تاريخ الفرص الضائعة، لذلك فإنني أتصور الآن أن الصدام بين عبدالناصر وحركة «البعث» التي كانت تسيطر على قطرين عربيين كبيرين، هو الذي أطاح بحلم الوحدة وضرب العمل العربي المشترك في مقتل، وبهذه المناسبة فإنني لا ألغي الحركات القومية الأخرى مثل «القوميين العرب» و «الوحدويين الاشتراكيين» ولكنني أظن موضوعياً أن عبدالناصر والبعث هما أكبر حركتين قوميتين في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعلي أوضح في المحاور الآتية تفصيلاً بعض الأفكار التي تدور حول مسألة صعود وهبوط القومية العربية في العقود الخمسة الأخيرة وتلك هي بعض ملاحظاتنا: أولاً: إن التزاوج بين قيادة عبدالناصر ذات الشعبية الكاسحة في مصر والوطن العربي لأكثر من عقد ونصف من الزمان كان كفيلاً لو التقى مع حركة البعث برصانتها الفكرية وتغلغلها في السياسة والحكم والقوات المسلحة في قطرين عربيين هما سورية والعراق، أن يغيَّر المسار العربي كله، وقد يقول قائل إن كلمة (لو) تفتح عمل الشيطان لأنها تشير إلى فعلٍ مضى وحلمٍ ضاع وأمل تبدد، ولقد أوضحت في كتابي «تجديد الفكر القومي» الذي صدر عام 1993 أن تلك الفرصة النادرة ضاعت عندما اصطدم عبدالناصر بحزب «البعث» ودفعه إلى أن يعلن، شأن الأحزاب السورية الأخرى، عن حل نفسه من دون اقتناع احتراماً لهيبة عبدالناصر و «كاريزما» زعامته، حتى أنني أتذكر ما قاله لي رئيس مجلس الشعب السوري الدكتور محمود الأبرش منذ أيام أن أجهزة عبدالناصر الأمنية اعتقلته ضمن مجموعة من رفاقه الشباب بتهمة أنهم أعضاء في حزب البعث ويومها استغرب ابن الثامنة عشرة أن يجرى اعتقاله بينما مبادئ حزبه القومية والفكرية لا تختلف كثيراً عن الناصرية التي تعاديهم من دون سبب مفهوم، إلا أنها كانت عقلية الأجهزة الأمنية التي لا تفرق كثيراً بين من ينتمي الى الثورة العربية وبين من ينتمي إلى الثورة المضادة! ثانياً: إنني أنظر إلى تاريخنا العربي الحديث أحياناً نظرة حالمة لا تخلو من عاطفة ولا تبرأ من حنين لتلك السنوات الخوالي عندما كان نبض الشارع العربي من الخليج إلى المحيط يدق مع قلب الثورة التحررية والاجتماعية، وأتساءل الآن لماذا لم يفطن ذلك القائد العربي الكبير جمال عبدالناصر إلى أهمية العمل السياسي الحقيقي والدور الحزبي النشط خصوصاً أن حزب البعث بهيكله التنظيمي وكوادره السياسية وخبرة قياداته وشعبية مبادئه كان قادراً على الاندماج الكامل في ثورة تموز (يوليو) 1952 إذ إن أفكار زكي الأرسوزي وميشال عفلق وصلاح البيطار وغيرهم من مفكري البعث كان يمكن أن تعطي لقيادة عبدالناصر شرعية واندفاعاً كما تعطيها زخماً وانتشاراً. وحقيقة الأمر هي أن كلا الجانبين (عبدالناصر والبعث) يتحمل جزءاً من المسؤولية بسبب الثقة المفقودة والشكوك المتبادلة والرؤية الغائبة، إذ إنه رغم تقارب الشعارات وتشابه الأهداف فإن بعض النزعات القطرية تغلبت ودخلت أطراف عدة لتسميم العلاقات ودق إسفين بين أكبر حركتين عربيتين في النصف الثاني من القرن الماضي، ولو أن كلا الطرفين تعامل مع الآخر بطريقة أرقى وروح أفضل لما آلت الأمور إلى ذلك التهاوي الى منحدر الشرذمة والتفكك والتراشق الإعلامي والسياسي. ثالثاً: ينبغي أن نعترف بشجاعة - على رغم مشاعرنا الدافئة تجاه العصر الناصري في ذكرى رحيل زعيمه - أن عبدالناصر حارب على جبهات متعددة في وقت واحد ورفع شعاراتٍ لا يقدر هو ولا نظامه السياسي على تطبيقها، كما أن تقسيمه العالم العربي بين أنظمة «ثورية» وأنظمة «رجعية» استنزف قواه وأدى إلى صراعات لا مبرر لها، كما أننا نتذكر جيداً أن حشده السياسي والإعلامي كان أكبر بكثير من الأداء التنظيمي والإنجاز الثوري... نعم إنه «ملأ الدنيا وشغل الناس» وترك بصمة قوية على وجه الحياة السياسية العربية الحديثة ولكنه لم يقدم نظرية فكرية متكاملة ولم يلتزم برنامج عمل سياسي متواصل، كما أنه وقع فريسة «مراكز القوى» وترك قواته المسلحة لصديق عمره وهو يدرك أن عدوه الصهيوني متربص به وبأمته الدوائر. رابعاً: إن حركة «البعث العربي الاشتراكي» على الجانب الآخر كانت تملك خبرة ناضجة من العمل في الشارع السياسي، وكان يتعين عليها أن تستوعب عبدالناصر وأن تحتوي زعامته وأن تعطيه بقدر ما تستحقه جماهيريته الواسعة في الشارع العربي، ولكن الصراعات الخفية والأجندات المستترة هي التي حاولت تعميق الهوة بين عبدالناصر والبعث على النحو الذي أدى إلى الوقيعة بينهما. خامساً: إنني لا أبكي على «اللبن المسكوب» ولكنني أشعر أن هناك منعطفات مهمة في تاريخنا القومي الحديث كان يمكن أن يتغيَّر عندها وجه الحياة على الأرض العربية، وربما لو حدث ذلك التزاوج السياسي والتنظيمي بين الناصرية والبعث لما حدث الانفصال ولما جرى استدراج عبدالناصر إلى حرب حزيران (يونيو) 1967، وقد يقول قائل إن مثل هذا النوع من التفكير هو تفكير عدمي يحلق في الخيال ولا يقدم حلولاً للواقع، وأنا أعترف بأن ذلك صحيح إلى حد ما ولكن مبرر هذا النوع من التفكير إنما يأتي من شعور عميق بأن الأمم تستقرئ تاريخها وتتعلم من أخطائها خصوصاً أن التاريخ يعيد نفسه أحياناً ولكن بصيغ مختلفة وأساليب جديدة. هذه ملاحظات راودتني في الذكرى الأربعين لرحيل جمال عبدالناصر وتساءلت كثيراً بيني وبين نفسي لو أن حزب البعث قد تبنى بعض الكوادر المصرية وأوجد لنفسه قاعدة شعبية في «أرض الكنانة» ومضى وراء قيادة عبدالناصر داعماً ومؤيداً، لو أن ذلك حدث لتحققت أحلامنا المبكرة وآمالنا الواسعة ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه! فالحياة السياسية متقلبة والغايات القومية متفاوتة ولكن خصوصية العلاقة التاريخية بين القطرين الشقيقين مصر وسورية كان يمكن أن تساعد على هذا السيناريو الذي نشير إليه. وكلما ذهبت إلى مقر «البرلمان العربي» في دمشق بساحة سعدالله الجابري تذكرت جمال عبدالناصر ابن «صعيد مصر» الأسمر بقامته الفارهة وشخصيته الكاريزمية وهو يخاطب الجماهير التي توافدت أمام ذلك القصر يوم إعلان دولة الوحدة عندما زحفت سورية للقاء ذلك القائد العربي القادم إليها من مصر تلك الدولة الشقيقة التي يعتز السوريون بها ويرتبطون معها بأوثق الصلات، فقد كانتا دولة واحدة مرتين في القرنين التاسع عشر والعشرين على التوالي، بل إن تاريخ البلدين المشترك في عصر المماليك والحكم العثماني يؤكد أن الروابط بينهما لم تنفصم أبداً، وكنا نود لو أن التاريخ مضى عبر مجراه الطبيعي ليقدم لنا أمة عربية متماسكة وفكرة قومية راسخة وشعوباً أدمنت على التفكير السليم. لو أن عبدالناصر فعلها ولو أن البعث أدرك أمرها لكان لأمتنا شأن آخر، ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان! * كاتب مصري