لا تمثل البشرية على شاكلة جسم سياسي واحد. فهي جماعات كثيرة ومتفرقة. وبعض الناس أو البشر، دون غيرهم، هم من هذه الجماعة أو تلك. ومن ليسوا من الجماعة، كلهم غرباء أو أجانب. ولا يستوي التمييز هذا وحداً وتفريق الصديق من العدو. فالتفريق هو من فروع مسألة الحرب والسلم. ويسبق الفرق بين الانتساب الى جماعة تاريخية وبين الانتفاء منها، المسألة هذه. ويعرف الغريب بنفيه من جماعة المتكلم:"ليس منا". وعلى هذا، فهو لا يعرّف في نفسه، ولا من يكون بمنأى من علاقته"بنا"، ومن رابطة الحلف أو الحياد أو العداوة التي قد تربطنا به وتربطه بنا. ونحن، قبل أن نعرف من نكون، يفترض بنا أن نعرف نسبتنا أو الجماعة التي تضوينا وتجمعنا. ونسبتنا لا نتقاسمها بيننا على مثال تقاسم الخيرات التي تقضي العدالة التوزيعية بتقاسمها حصصاً ومقادير. فهي جزء لا يتجزأ من جماعتنا وأصرتنا. ولكننا، على خلاف الحال فيما بيننا، يسعنا من غير قيد،"إعطاء"هذه النسبة الى من نشاء من الغرباء أو نرتأي، وذلك على صورة التجنيس أو منع التابعية، ونصّ إعلان حقوق الإنسان، في 1948، على أن الجنسية أو التابعية، النسبة الى وطن ودولة هي حق الناس جميعاً واحداً واحداً. ونهى الإعلان كذلك عن نزع الجنسية اعتباطاً. وقبول الغريب، أو استجابة طلبه الجنسية، في الجماعة الوطنية هو حق يعود بته الى سلطات الدولة السياسية بتاً مطلقاً. ولا يعلو اطلاقٌ هذا الإطلاق. ولكن ما الذي يطلب الغريب قبوله حين يتقدم بطلب تجنيسه؟ فالقانون الدولي الخاص يعرِّف الجنسية الوطنية بأنها"انتساب امرئ انتساباً حقوقياً وقانونياً الى السكان الذين تنشأ الدولة عنهم". والى السكان يضاف الإقليم، أي الحدود. وهذه تحدد داخلها نفاذ صلاحيات السلطات العامة، السياسية والقضائية. فالمفهومات الثلاثة هذه، الدولة والأراضي الإقليمية والسكان، متلازمة ومتماسكة. والدخول في السكان الذين تنشأ عنهم الدولة يستتبع حكماً تعريف مادة الدولة بسكانها، فيقال: الفرنسيين، البريطانيين، الخ. وعليه، فالدولة المستقلة تصدر عن تعريف سكانها، أو"أصحاب تابعيتها". والحق ان علاقة الجنسية الوطنية بالمواطنية أو المواطنة مسألة دقيقة. فالأمران ينزعان الى أن يكونا واحداً، في التقاليد الجمهورية واليعقوبية التي تقوم الدولة منها مقام الرأس الجامع، من غير امحاء بعض الفرق بينهما. فالمواطنية قوامها الرابطة الحقوقية والقانونية. وهي تصل شخصاً فرداً بالدولة. وعلى هذه الرابطة تحمل الحقوق المدنية والسياسية، وأولها حق الاشتراك في السلطة السياسية على صفة ناخب أو مرشح لا يمتنع انتخابه. ولكن من يتمتعون بالتابعية الوطنية، أو الجنسية، مثل القصَّر الذي لم يبلغوا الرشد، والمرضى العقليين، والمدانين المحكومين في بعض الجرائم، ليسوا مواطنين، على المعنى الذي تقدم، ولا يحق لهم الاشتراك في السلطة السياسية، انتخاباً وترشحاً. وأهل التابعية أو الجنسية وحدهم مواطنون على المثال نفسه، وعلى خلاف بلدان أخرى يسع المقيمين بها، تحت بعض الشروط، الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البلدية. ويستكمل اشتراط الجنسية للتمتع بالحقوق المدنية وامتلاك جزءٍ من السيادة الوطنية، تحويل الفكرة الوطنية عاملاً في استبعاد الأجانب. وما دام القانون الدولي لا يوجب على الدول الإقرار للأجانب بحقوق سياسية، بقيت عطالة الأجانب المقيمين السياسية"قاعدة مطلقة لا يقيدها استثناء"أوليفييه دوهاميلي، وعلى المنطق الحقوقي نفسه، يمسي الانتساب الوطني حالاً من أحوال المرء نفسه، شأن الاسم والنسب والجنس ومحل الولادة وتاريخها، والغريب، أو الأجنبي، على هذا، ليس من ليس منا وحسب، بل هو من ينكر عليه أن يكون منا إذا اقتصر الأمر على رغبته في ذلك أو على طلبه. وهو، في الأحوال كلها، غير مخول إلزام الدولة استجابة طلبه. وصفة الاستنساب التي يتمتع بها منح الجنسية، وارتفاع كل قيد عن سيادة فعل الاستقبال السياسي، يثبتّان على نحو جلي ميل الكفة داخل علاقة العصر الوطني بالغريب الأجنبي واختلالها. ولكن الاقتصار على التناول الحقوقي يغفل مضمون العلاقة. فلا يسعنا أن نخطو على طريق فهم"عندنا"من غير تصور ما يعني"عنده"في ذهن الغريب. وينبغي أن نقر بأن فهمنا انتسابنا الى البلد، أو الأمة، أو الدولة، لا يستظهر بعلة واضحة. والحق أن المسألة خلو من العلل، أي من الحجج التي يسعنا الاحتجاج بها على خصم يدعونا الى تسويغ كوننا من هذه التابعية الوطنية أو تلك. وتأويل إرادة العيش مع شركاء في الوطن، أو مع مواطنين، دون غيرهم، تأويلاً تعاقدياً خطأ جسيم. بمفهوم العقد الاجتماعي انما موقعه من الجماعة دستوري، على معنى القانون الدستوري، وهذا يفترض الجماعة مجتمعة ومؤتلفة. ويفترضها تتطارح، على حال متوهمة ومتخيلة، مسألة الحكم ومثاله الحسن، وأما إدراكنا انتسابنا الى جماعة وطنية فهو إدراك مشترك نتقاسمه، ويغذيه تاريخ متجسد في تقاليد وسنن، وتعلن طرائق في حياة وعمل وحب، وسنده أمهات أخبار تنشئ هويتنا وترسمها. عن بول ريكور فيلسوف فرنسي 1911 - 2005،"اسبري"الفرنسية، 3-4 /- 2006