لم تكف المفاهيم يوماً عن الغموض والالتباس وخلق معايير جديدة لتضاداتها، وابتداع ثنائيات لها، مثال ما جرى سابقاً مع الديموقراطية بنفيها من طريق مركزتها، او حين طغت الديكتاتورية على البروليتاريا، أو حين"تبرجزت"الوطنية لا لتنفي وطنيتها وانما لتنفي إمكان خلقها بنية أو بنى كفيلة بتنمية وسائل وقوى انتاج مجتمعية. وهكذا تبدو المفاهيم كأنها تلبس لبوس الشرعية حين يستخدمها أو يستعملها استعمالاً وظائفياً كل من يريد اضفاء شرعية مفتقدة أو منتقصة على سلوكه ومسلكياته في الهيمنة. مع العولمة الأميركية الآن وما تشيعه من ادعاءات الليبرالية، تمضي ايديولوجيا"النظام العولمي الجديد"في اضفاء المزيد من التأزم والقطيعة المعرفية على مفاهيم هي أكثر التباساً الآن مما سبق. فبعد ثنائية المقاومة - الإرهاب، ها هي اليوم تدشن فاصلاً جديداً في ابتداع ثنائيات جديدة، تتقدمها موضوعة الديموقراطية - الليبرالية. وحين يُنظر الى تلك الثنائيات من أكثر من زاوية فإنها لا تملك جميعاً تلك الرؤية التي تجعل منها القضية الأبرز لتطور المجتمعات البشرية واندراجها في سياق تطوري غير مقطوع الصلة والجذور برؤية الشعوب لذاتها، وذلك على عكس ما تشيعه العولمة وتقود اليه، بما هي الوليد الهجين لليبرالية الجديدة في سعيها التهجيني لقلب كل القيم والمفاهيم والدلالات والمعاني، بدءاً من الدولة حتى أصغر مكونات الاجتماع الإنساني، من مسلكيات وأخلاقيات وممارسات. وإذا كان الاستبداد لا يرتبط بنظام سياسي بعينه، فإن الديموقراطية كذلك ليست سمة نظام سياسي بعينه، طالما أنها لم تتأسس كمفهوم ايديولوجي، وإنما نمت وترعرعت في حقل الممارسة والتجربة الإنسانية كمفهوم ثقافي ذي أبعاد سياسية - اجتماعية وطنية، وهذا بالتأكيد نقيض الخطاب الغربي المزدوج بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان ومنظومة القيم والمفاهيم التي يراد التأسيس لها وتجذيرها في بلادنا، بما يناقض الحرية كمفهوم ملازم للديموقراطية ومناهض لليبرالية وعولمتها المتوحشة. فالديموقراطية بما هي ضرورة اجتماعية وإنسانية في المقام الأول، إنما هي بالتأكيد نقيض تلك التي يراد لليبرالية أن تتراكب حشراً وقسراً كملحق من ملاحقها. لهذا ليس غريباً ولا هي بالمفارقة بتاتاً تلك المواقف الغربية التي ترى في نتائج اي عملية انتخابية مروقاً إذا ما جاءت في غير مصلحتها، وعقوقاً إذا ما فازت بها قوى معادية لها، ولهذا لا تكون الانتخابات ونتائجها ديموقراطية إلا إذا احتكمت الى مشاريع الاستتباع الأميركية المعتمدة بمضامينها التتبيعية وتدخلاتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في شؤون الدول والمجتمعات. ومع العولمة في صيغتها الحالية، ها هي تلك المشاريع تتحول الى قانون، حتى لو لم يجرِ إقرارها من جانب أي من مؤسسات النظام الأميركي، فإذا كان نهج الاستتباع السابق اعتمد أنظمة استبدادية سياسية وديكتاتوريات عسكرية، فإنه يراد له اليوم أن يتحدد عبر آليات"ديموقراطية"واستخدام وسائلها وصولاً الى أهداف خلق أنظمة ونخب تابعة أكثر"شرعية"! فإذا ما جاءت نتائج صناديق الاقتراع عكس ما اشتهت واشنطن وتشتهيه، وبما يعاكس رياحها، فليس مستغرباً أن تذهب مصطلحات"الفوضى الخلاقة"الى اختلاق مفاهيم جديدة"خلاّقة"هي الأخرى، كإطلاق تسمية"الديموقراطية المارقة"، كما في الحال الفلسطينية الآن، وكما في حالات صعود قوى وأحزاب اجتماعية وطنية يسارية في عدد من دول أميركا اللاتينية أخيراً. قانون الاستتباع الامبراطوري الأميركي انتقائي في"ديموقراطيته"، فهو لا يرى"الديموقراطية"إلا في نماذج معينة - موديلات ديكورية - وهو لا يرى الى أي عملية انتخابية إلا من زاوية مصالحه ومصالح أربابه من احتكارات الدولة الكبرى الامبراطورية في سعيها الى الهيمنة على اقتصادات العالم وأنظمته السياسية والمجتمعية واستتباع المنظمات غير الحكومية والمدنية عبر المساعدات الاقتصادية - غير النزيهة - وأموال الرشى الافسادية، بهدف سلخ العديد من هذه المنظمات من نسيجها السياسي أو المجتمعي وضمها الى"ممتلكات"العولمة وليبراليتها المتوحشة وفي أروقة أخرى يراد لمواصفات"الديموقراطية"الأميركية أن تتجاوز سلخ الأقليات من مواطنيتها، مدخلاً الى تجزئة المجتمعات وإعادتها الى حظيرة مكوناتها البدائية... فأية"ديموقراطية"هي تلك؟! في أميركا الامبراطورية"ديموقراطية"استطاعت الاحتكارات تأمينها وقد تم شراؤها بالمال، ولكن في دول"الحديقة الخلفية"تأمنت وتتأمن اليوم ديموقراطية من نوع مختلف. ديموقراطية دفعت شعوب القارة اللاتينية من معاناتها ودماء مواطنيها وتضحيات سكانها الأصليين في مواجهة حروب الإبادة والديكتاتوريات العسكرية والمدنية والطغم المالية التابعة للولايات المتحدة أثماناً باهظة من أجلها. هناك اشتروا"ديموقراطيتهم"بالمال، وهنا يشترون ديموقراطيتهم بالدم، أليس هذا هو الفرق الجوهري بين"ديموقراطية العبيد"- عبيد الرأسمال والعولمة المتوحشة، وديموقراطية الأحرار، أمراء الشعب الذي غيبته مجازر وحروب الإبادة ودعم الديكتاتوريات قروناً طويلة، وهو اليوم انما يستعيد حريته عبر صندوق الاقتراع، منتزعاً ديموقراطيته كطائر الفينيق، عائداً ليشهد على صلابة وتماسك الأصول والهويات الحية لشعوب ترفض ان تموت، بل هي من رماد غيبتها القسرية تستعيد نسج اسطورة بقائها، رغم أنف الطغاة، وقتلة الحرية باسم الحرية القاصرة على جنس معين ولون معين، وباسم"الديموقراطية"القاصرة على القادرين على شرائها بالمال. ولئن أريد للعملية الانتخابية في العراق ألا تخرج عن كونها عملية سياسية، تضفي شرعية على الاحتلال وافرازاته، بكل ما أدّت اليه من تفتيت وتشظي المجتمع العراقي، واللعب على تعارضات أطرافه السياسية، والدفع بها الى حدود التناقضات العدائية، بما يجعل من الحرب الاهلية واقعاً مقيماً، ومن تقاسم أبناء الوطن الواحد طوائف ومذاهب وتحاصصاً فئوياً مقيتاً، ما قد يقود العملية السياسية باتجاه انتصاب الفيديراليات الأثنية والطائفية شكلاً أو جوهراً ثابتاً لعملية لا يعود معها ممكناً استعادة بناء الدولة الوطنية العراقية التي أطاحها ويطيحها الاحتلال، فاين الديموقراطية في كل ذلك، وأي ديموقراطية هي تلك؟ وفي فلسطين جرت عملية انتخابية يجري رفض نتائجها، كونها لم تلب أو تحقق ما قد يرضي الامبراطورية وانتقائيتها وقانونها الاستتباعي - الإخضاعي، إلا انه وفي بلدان أخرى أعيد انتاج أنظمتها، بما يلبي مصالح ومطامح القانون الاستتباعي الامبراطوري إياه، الذي يرفض انتاج أنظمة تنفصل بهذا القدر أو ذاك عن قطار العولمة. وتلك احدى أكثر الآفات خروجاً عن منطق الاجتماع السياسي والبشري، وإلا فما معنى ان تكون ديموقراطياً هنا، واستبدادياً هناك، في ظل عالم غربي لم يعد يؤمن بإقامة أنظمة ديموقراطية غير مضمونة ولا ضامنة لمصالحه، وإلا فإن اعادة انتاج انظمة استبدادية ضامنة لهذه المصالح هي الطريق الاقصر لتحقيق"ديموقراطية الليبرالية"الجديدة. صحيح انه لا يمكن للديموقراطية ان تتأسس على قاعدة الانتخاب فقط، وما قد يشوب هذه القاعدة وقوانينها من تدخلات سلطوية، واملاءات وضغوط خارجية وفتح أبواب بازار المال السياسي على مصاريعه للتأثير في نتائجها، وخلق حلف أو أحلاف"مقدسة"بين الثروة والسلطة يحوّل الأخيرة الى مغنم من مغانم الاقطاعيات الخاصة القابلة للتوريث أو التدوير، لكن من الأصح كذلك احترام خيارات الشعوب والتوقف عن محاولات السعي الى تحويل أعراسها الانتخابية أغلى مآتم كارثية طالما أن الديموقراطية ليست وصفة أو صفة لجزء من آليات العملية الانتخابية، كما أن فصلها وعزلها عن أي حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى سيلغيها ويلغي ركائزها، ويعيد الى الاستبداد"بريقه"طالما أن كل مجتمعات الدنيا تتملك قدراً من الاستبداد مقيماً في طيّات البنية الثقافية المهيمنة، وبالتالي فإنها تلعب دوراً مهماً في كونها المحدد الأول لانتاج ثقافة مجتمعية ديموقراطية تؤسس لتوليد ثقافة الديموقراطية العامة في شيوعها بين الجموع لا في اقتصارها على النخب الخاصة، عبر تخليق الآليات الضرورية لاختراق البنية الفوقية المهيمنة وباتجاهات تجعل من الحق في تداول السلطة حقاً مطلقاً ومقدساً لا ينبغي التستر عليه أو الاستهانة به، أو تحويله الى مجرد عملية تداور وتوارث، أو إعادة انتاج نمطية تسهم في توليد استبداد أقل على حساب استبداد أكثر ما دام الانتقال من الاستبداد الى الديموقراطية لا يمكن أن يكون بأي حال طريقاً في اتجاه واحد. كاتب فلسطيني، بيروت.