في السطح يبدو الأمر محيراً ومتناقضاً. ففي داخل الولاياتالمتحدة تقدم الرئيس جورج بوش على منافسه الرئاسي جون كيري بأحد عشرة نقطة في استطلاعات الرأي بعد أن كانت شعبية جورج بوش وصلت الى أدني مستوياتها في شهر آيار مايو الماضي. هذا التقدم في التأييد الشعبي جرى في الوقت الذي تصاعدت فيه المقاومة العراقية ضد الأحتلال الأميركي وتجاوز رقم الضحايا الأميركيين الألف جندي وعادت أخبار العراق الى المقدمة بعكس ما تريد الأدارة الأميركية كما لم ينجح النقل الرمزي للسلطة الى حكومة عراقية موقتة في توفير الماكياج المطلوب لحقيقة الأحتلال. جورج بوش تقدم اذن بأحد عشر نقطة في أعقاب مؤتمر انتخابي للحزب الجمهوري ركز عمله على تلطيخ المرشح المعارض كشخص وبرنامج. بموازاة ذلك نجد دراسة أوروبية منشورة تكشف صراحة عن أن 76 في المائة من الأوروبيين يعارضون السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس جورج بوش وادارته بارتفاع تسع نقاط مقارنة بسنة 2003 وعشرين نقطة مقارنة بسنة 2002. نجد أيضاً استطلاعات للرأي أعدها مركز"غلوب سكان"بالتعاون مع 35 مركزاً احصائياً حول العالم ونتيجتها أن 53 في المئة ممن شملهم الاستطلاع غيروا موقفهم من أميركا الى الأسوأ بسبب سياسات الرئيس جورج بوش الخارجية وتحديداً الحرب على الإرهاب واعترضوا على اطاحة الأنظمة بالقوة العسكرية. وباستثناء العاصمة البولندية وارسو أعطي الأوروبيون أصواتهم لجون كيري المرشح الرئاسي للمعارضة الديموقراطية في نسب وصلت الى 74 في المئة في النرويج وألمانيا مثلا مقابل 7 و 10 في المئة لجورج بوش تباعاً. في داخل الولاياتالمتحدة نجد الوضع مقلوباً ولو للحظة حيث الأدارة في السلطة في حالة هجومية بينما المعارضة في حالة تبريرية ان لم تكن دفاعية... بينما انتخابات الرئاسة باق عليها نحو ستة أسابيع. أما في الخارج - وخصوصاً في الدول التي استمرت حليفة للولايات المتحدة طوال ستين سنة - لم تعد شعوبها تتحمل السياسات الدولية التي يمارسها جورج بوش وادارته. وهي مشاعر تتصاعد بانتظام طوال سنتين على الأقل. بالطبع هناك تحفظات مبدئية. فالمجتمع الدولي ليس بديلاً عن الناخب الأميركي. والذين سيذهبون الى صناديق الأقتراع في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر المقبل هم المواطنون الأميركيون وليس غيرهم. هؤلاء المواطنون حاليا في حالة استقطاب حاد. فالتقدم الراهن في استطلاعات الرأي لحساب جورج بوش حالة طارئة متوقعة في أعقاب مؤتمر انتخابي. لكن بغير ذلك تصبح الحالة استقطابا يتناطح فيه المتنافسان رأسا برأس ب 45 في المئة لكل منهما. أما العشرة 6 في المئة فهم المتأرجحون انتخابياً حتى يوم الاقتراع. وهم الذين ستركز عليهم الدعايات الحزبية بشدة خلال الأسابيع القليلة المقبلة. البعض يتوقع مفاجآت من نوع أو آخر يدخرها الحزب الجمهوري الحاكم ليطلقها عشية الانتخابات. مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة مثلاً لم تستبعد الإعلان عن اعتقال أو مصرع أسامه بن لادن، لكن حتى بغير مفاجآت مسرحية هناك انتخابات مبرمجة في أفغانستان الشهر المقبل يوازيها زيارة مبرمجة لرئيس الحكومة العراقية الى واشنطن لاستخدام كليهما الحاحاً على فكرة نجاح جورج بوش وسياساته في"تحرير"خمسين مليون مواطن من التخلف والأستبداد. يستطيع جورج بوش أيضاً التلويح بورقة اذعان ليبيا ومحاسبة سورية وتحرير لبنان ومعاقبة السودان وخصخصة ما تبقى من الاقتصاد في مصر ومحاصرة ايران وباقي الشرق الأوسط الكبير أو الموسع الذي تتاجر به الأدارة كعنوان لمشروعها الأمبراطوري. لكن بمشروع امبراطوري أو من دونه.. تبدو الورقة الأساسية في يد الأدارة الحالية هي نشر الخوف بين المواطنين الأميركيين. الخوف من ارهاب على الناصية أو بن لادن في الفيديو أو زرقاوي وسوداوي وصفراوي في شرائط الفضائيات ومواقع الأنترنت. الخوف من عرب ومسلمين. الخوف من أوروبا القديمة وحلفاء متمردين وصين ناهضة وبترول متناقص ثم الخوف من معارضة داخلية جرت محاصرتها مسبقاً بشبهات النقص في الوطنية. بل إن ديك تشيني نائب جورج بوش لم يتورع أخيراً من التهديد علناً بما خلاصته: ان انتخاب جون كيري للرئاسة سيؤدي الى ضربات ارهابية ضد أميركا. هكذا لم يعد ديك تشيني يفكر لنفسه أو لرئيسه فقط وانما للإرهاب أيضاً. هذا المناخ الانتخابي الهستيري غير المسبوق في الحياة السياسية الأميركية منذ موجة المكارثية في مطلع الخمسينات لازم بشدة لكي يحصل المحافظون الجدد في واشنطون على أربع سنوات أخري في السلطة. لازم لهم ولميزانيات التسلح وللمجمع الصناعي العسكري البترولي وللمشروع الأمبراطوري الأميركي. في سنة 1945 خرجت الولاياتالمتحدة على رأس"المنتصرين"في الحرب العالمية الثانية بما جعل الشعب الأميركي يتطلع الى تخفيض جذري في الأنفاق العسكري للاستثمار في السلام.. خصوصاً والاتحاد السوفياتي - كخصم ايديولوجي - كان منهكا بشدة بعد سقوط عشرين مليوناً من مواطنيه قتلي في الحرب. وقتها كتب جورج كينان مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأميركية مذكرة يتنبأ فيها بسقوط الشيوعية في المدي الطويل اذا اكتفت أميركا بممارسة سياسة"الاحتواء"لمنع التمدد الأيديولوجي السوفياتي الى غرب أوروبا. لكنه لاحظ وقتها - كما عرفنا من مذكراته فيما بعد - أن أقطاب المجمع الصناعي العسكري غير متحمسين بالمرة لسياسة أساسها"الإحتواء"وانما متحمسون بشدة لانتهاز فرصة الضعف السوفياتي والأحتكار الأميركي للسلاح النووي من أجل ضرب الاتحاد السوفياتي الحليف المهم لأميركا حتى قبلها بسنتين. فقط حينما كسر الاتحاد السوفياتي الاحتكار الأميركي وأصبح هو ذاته قوة نووية.. عاد العقل الى ساخني الرؤوس في واشنطون وقنعوا بسياسة"الإحتواء". بنهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي تفتحت شهية المحافظين الجدد في واشنطن لملء الفراغ مرة واحدة ونهائية. لايكفي أن تصبح موسكو الروسية متراجعة بشدة عن موسكو السوفياتية وانما لا بد من الذهاب بحلف شمال الأطلسي الى أبوابها. تفكيك يوغوسلافيا أيضاً كان خطوة في الطريق وأصبح الوجود العسكري الأميركي الجديد في يوغوسلافيا السابقة حالة متنكرة لاستعمار جديد على حد تعبير أحد المحافظين الجدد. التمدد عسكرياً واستراتيجياً جنوباً وشرقاً لم يحاصر روسيا المنكمشة والصين الناهضة فقط. وانما لوضع اليد على العالم الثالث وجائزته المؤجلة: البترول. وفي استراتيجية الأمن القومي الأميركي المعلنة في أيلول سبتمبر 2002 جاء البيان صريحا ومحددا: من الآن فصاعدا لن تسمح أميركا بوجود منافس لها. أو حتى حالما بأن يصبح منافساً لها في الساحة الدولية اقتصادياً وعسكرياً واستراتيجياً. سواء دولة بمفردها أو مجموعة من الدول. من الآن فصاعداً أميركا فوق القانون والتحالفات والتسويات والمشاركات والمشاورات. أميركا جاهزة بحروب استباقية ووقائية وبأكبر موازنة عسكرية في التاريخ وبشعار جامع مانع هو: من ليس معي فهو ضدي. انه المشروع الأمبراطوري الجديد بغير لف ولا دوران. في البداية جرى طرح المشروع الأمبراطوري على استحياء تحت مسميات عائمة غائمة من نوع"القرن الأميركي الجديد". في البداية قيل أيضا ان السلوك الأمبراطوري لا يناسب أميركا لأن العصر لم يعد عصر امبراطوريات. ولأن أميركا نفسها ساهمت سابقا في تفكيك ثلاث امبراطوريات على الأقل. ولأن كلفة الأمبراطورية تتجاوز جوائزها. لكن المحافظين الجدد جهزوا أنفسهم مسبقا بالردود المفحمة. فأولا أصبحت بريطانيا امبراطورية لأنها كانت الأسبق في دخول عصر الصناعة ولأن تفوقها في السلاح البحري سمح لها بالسيطرة على المحيطات. الرد هو: بريطانيا أنشأت امبراطورية حينما كان اجمالي ناتجها القومي ثمانية بالمئة من الناتج العالمي. الآن ناتج أميركا القومي ثلاثة أمثال الحالة الأمبراطورية البريطانية. سيادة الأمبراطورية البريطانية على بحار العالم تتجاوزها الآن سيادة أميركا على المحيطات بحرا والقواعد العسكرية باتساع العالم برا زائد سيطرة على الفضاء تأكدت تماما بعد ارغام موسكو الروسية في طبعتها المنكمشة على الانسحاب من سباق الفضاء. بريطانيا سيطرت على العراق والخليج واحتكرت بترول ايران بينما كان لها منافسون مقاربون لها في القوة. الآن أميركا - ولو لفترة - تبدو بلا منافسين، كما أن انفاقها العسكري يتجاوز ميزانيات كل خصومها و51دولة من حلفائها، بريطانيا الأمبراطورية - خصوصاً في الحرب العالمية الثانية - كانت تحارب بجنود مستعمراتها وبأموال أميركا.. بينما أميركا الآن تعبىء جنود حلفائها في بعض أوروبا القديمة تعني أوروبا الغربية وكل أوروبا الجديدة تعني شرق أوروبا للقيام براً بما تحميه هي جواً وبحراً. كما أنها باسم العولمة تمتص وتشفط أموال الآخرين لحساب سنداتها. حجج المحافظين الجدد في واشنطن لمصلحة المشروع الأمبراطوري الأميركي لا تنتهي. فقط هي تتجاهل الحقائق المضادة. فأميركا التي جعلت دولارها عملة احتياط العالم والوسيط الأكبر للتجارة الدولية تعتمد على تدفق بليوني دولار يوميا من الدول الأخرى ليستمر اقتصادها في الازدهار. وأميركا لم تفكك الأتحاد السوفياتي بقوتها العسكرية ولكن بحلفاء لها وبقيمها عن الديموقراطية والمجتمع المفتوح. الآن يتبخر الحلفاء وتتراجع الديموقراطية ولم يعد المجتمع الأميركي مفتوحا"كما كان. وأميركا التي أغوت أوروبا الشرقية بالرأسمالية لم تفعل ذلك برأسماليتها هي - التي هي متوحشة أصلاً - وانما بالرأسمالية الألمانية والفرنسية الملتزمة بمسؤوليات اجتماعية ترفضها بالمرة الرأسمالية الأميركية. وأميركا التي تصب المواعظ صباح مساء على الدول النامية عن الخصخصة حرصاً على تقوية القطاع الخاص هي نفسهاالتي تطلب من هذا القطاع الخاص نفسه في الدول الأخرى أن يذهب بأرباحه أولاً بأول الى أميركا ذاتها. أميركا أيضا هي التي سحبت أموال التقاعد لمواطنيها الى البورصة لحساب الشركات الكبرى. ويعيش 45 مليوناً من مواطنيها تحت خط الفقر ومحرومون من أبسط حقوق الرعاية الصحية والأجتماعية. وأميركا التي تريد الهيمنة على العالم بقواعدها العسكرية وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة وكوفي أنان هي نفسها التي لا تجرؤ على فرض التجنيد الإلزامي على مواطنيها، بما يعني عملياً أن قواتها المسلحة تعتمد جوهرياً على المتطوعين الذين هم فعلياً فقراء الأميركيين الساعين الى تعويض حرمانهم من الرعاية الصحية والتعليمية. فتكون النتيجة هي أن فقراء أميركا مطلوب منهم التضحية بحياتهم في أراض أجنبية دفاعاً عن مكاسب أغنياء الأميركيين وتمثلهم في المرحلة الراهنة الشركات العملاقة بالمجمع العسكري البترولي. حينما حاول جون ادواردز نائب المرشح الرئاسي جون كيري أخيراً التحدث عن"أميركا الأخرى"أخرسته فوراً مدفعية الحزب الجمهوري الأعلامية. تماماً كما جربوا ضد جون كينيدي سابقاً في حملته الأنتخابية. انما هذا يعيدنا الى الفيلم من أوله، الذي هو مشروع امبراطوري دعاته هم المحافظون الجدد ومحركوه هم عتاة الشركات وغطاؤه قوانين طوارىء تقيد الحريات المدنية ومعارضة سياسية داخلية بلغ إذعانها الى درجة أن هوارد دين قطب الحزب الديموقراطي المعارض قال لجمهوره مبشراً: لن نخشى من الآن فصاعداً انتقاد الإدارة الحالية بدعوى عدم الوطنية. منتهى الشجاعة. أما في خارج أميركا فلم تحتاج المسألة الى شجاعة. هناك دولة صغيرة اسمها كوستاريكا سكانها أقل من أربعة ملايين موجودون مباشرة في أميركا الوسطى حيث السطوة الأميركية مألوفة لأكثر من 150 سنة. كوستاريكا هذه قامت أخيراً بإبلاغ الرئيس جورج بوش بانسحابها من قائمة الدول الداعمة للتدخل الأميركي في العراق، استجابة لقرار من المحكمة العليا في كوستاريكا يعتبر تلك الحرب غير مشروعة. الكلام على الوجيعة، لأن المحكمة العليا في أميركا هي التي جعلت جورج بوش رئيساً في الأنتخابات السابقة رغم أن التصويت الشعبي لم يكن في صالحه. كل منهما محكمة عليا. لكن فارق العملة جوهري وخطير. * كاتب مصري.