"الدولة في القلب، ومرض مجتمعاتنا في الرأس، والرأس هو الدولة"، ذلك أحد أهم الهواجس التي تشغل كريم مروة، في كتابه "عشية أفول الامبراطورية" منشورات دار الفارابي - بيروت 2003. وفي هذا الهاجس يستعيد مروة مفهوم الدولة الوطنية، بما هي تعبير عن كلية المجتمع وتجريد عموميته، وبما هي حقل سياسي مشترك بين جميع مواطنيها المتساوين في الحقوق، هذا الحقل الذي هجره الفكر السياسي العربي ردحاً طويلاً من الزمن بفراره من الدولة التي كانت قائمة هنا وهناك في البلاد العربية. في كل تجرية سياسية لشعب من الشعوب او لأمة من الأمم عناصر عامة يمكن ان تتكرر، بل لا بد ان تتكرر في تجارب أمم وشعوب اخرى متخذة صيغاً جديدة وأشكالاً جديدة، بحسب الخصائص الوطنية او القومية لكل من هذه الأمم والشعوب، كالماء يتلون بلون الإناء الذي يسكب فيه وهو احد وجوه ما يسمى "وحدة التاريخ البشري". لذلك ظلت تجربة انهيار الامبراطورية السوفياتية والانظمة الشمولية في شرق أوروبا ماثلة في ذهن الكاتب، تكشف عواملها الرئيسة عن اسباب "مرض الرأس" الذي اصاب مجتمعاتنا فشل طاقاتها الانتاجية على جميع الصعد، المادية والروحية. وتقابلها في الضرورة تجارب الأمم المتقدمة التي نمت قواها الانتاجية وأنجزت ثورتها الديموقراطية وبنت دولها الوطنية، وأسهمت إسهاماً ايجابياً في الحضارة الحديثة وطبعتها بطابعها. مبادئ هذه المنجزات الحضارية الكبرى مبادئ كونية تمكن اعادة إنتاجها وبسطها وإنمائها في غير مكان من العالم، ولا سيما في بلداننا التي تعاني من التأخر والاستبداد وضروب الهيمنة الخارجية او الاحتلال المباشر. إخفاق هنا ونجاح هناك، لا بد من رؤية الامور كما هي. ولكن الاخفاق والنجاح كليهما يستحقان النقد، لا بدلالة القيم الانسانية التي تواضعت عليها البشرية فحسب، بل بدلالة التقدم الممكن والواجب ايضاً، وانطلاقاً من اعتبار الحقيقة مبدأ ومسعى وغاية يرى مروة ان "بدعة الحزب الواحد، التي تسود في معظم بلداننا، منذ زمن طويل، داخل الانظمة الشمولية، والسلطة الواحدة التي لا تتبدل ولا تتغير، والعقائد والايديولوجيات الدينية والعلمانية التي تدّعي احتكار الحقيقة وترفض الاعتراف بالآخر، جميعها تتحمل المسؤولية عن الظاهرات المرضية التي تعج بها مجتمعاتنا العربية اليوم والتي تشكل عائقاً حقيقياً امام تحرر بلداننا وتقدمها. ومن دون الاقرار بذلك، بأقصى الجرأة وبأعلى قدر من المسؤولية، وعلى قاعدة المراجعة العميقة للتجارب السابقة، لن يكون بامكان بلداننا ان تشق طريقها الى مستقبلها وتتحرر من ازماتها المزمنة". ينطوي الكتاب على نوع من مساءلة الذات، او نقد الذات، المقدمة الضرورية لنقد الواقع، فحين يعمل الناس قصارى ما يستطيعون في سبيل تحقيق اهدافهم، ويضحون من اجل ذلك بالغالي والنفيس، ثم ينتهون الى مثل ما انتهينا اليه تكون المشكلة في وعيهم لواقعهم، لا في الواقع ذاته، تكون المشكلة في رؤيتهم الى العالم، لا في العالم ذاته، ولا سيما حين تكون هذه الرؤية ناجزة ونهائية ويقينية، فألح على السؤال: ماذا يتبقى من الرؤية القومية العربية اذا جردناها من عناصر الرؤيتين الاسلامية والاشتراكية؟ لم يتنصل الكاتب من مفهوم الثورة، كما فعل كثيرون من اليساريين، بل نراه يستعيد الدعوة الى الثورة كما لو انه عاد الى شبابه او عاد اليه شبابه من جديد. بيد ان دعوته الى الثورة ليست هذه المرة باسم الشعار القديم ذاته ولا باللغة ذاتها، ولا "بالفكر الذي كانت اللغة القديمة تعلنه او تخفيه في موضوع المصطلح وفي مضمونه ودلالاته". ويمكن القول انه يعيد بناء مفهوم الثورة في ضوء حاجات الواقع وممكناته من جهة، وفي ضوء قيم الحداثة ومناهجها ومنجزاتها، ولا سيما الإنسية والعقلانية والعلمانية والديموقراطية والدولة الوطنية، من جهة اخرى. ويمارس عليه نقداً صريحاً حيناً وضمنياً احياناً اخرى. ونقد المفاهيم والافكار والتصورات والتجارب، لا إهمالها او التنصل منها، على مألوف الخطاب السياسي العربي، من أهم سمات الأصالة الفكرية التي عرف بها كريم مروة، كما عرف بها الشيوعيون اللبنانيون. واعادة بناء العلاقة بين مفهوم الثورة وقيم الحداثة ومناهجها ومنجزاتها تجعلنا نرى عمليات الاصلاح على انها ثورة ديموقراطية لا تزال على جدول اعمال التاريخ. ما هي القضايا التي تدعو الى الثورة؟ يذكر الكاتب ست قضايا متزامنة ومترابطة ومثيرة للجدل والقلق. اولاها تتعلق بلبنان الذي ضمر فيه الشعور بالانتماء الى وطن حقيقي والى دولة وطنية. واذا كان ضعف الشعور بالانتماء الى الوطن يقع في دائرة الذاتية، فإن معادله الموضوعي هو ضعف الشعور بالمسؤولية الوطنية في جميع المستويات. ومما يزيد الامر حدّة "الصيغة الراهنة للوجود السوري الأمني والسياسي والاقتصادي في لبنان. وهي صيغة تتخذ صفة ووظيفة الوصاية التي طال أمدها من دون مبرر حقيقي وطني وقومي وانساني من أي نوع". والقضية الثانية تتعلق بفلسطين وشعبها، في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي. وأعجب كيف لم ير مروة في الانتفاضة الفلسطينية الثانية حرباً اسرائيلية ويأساً فلسطينياً، قياساً بالانتفاضة الأولى، وكيف لم ير في مواقف منظمة "حماس" وأساليبها ما يشبه مواقف "حزب الله" في لبنان وأساليبه، وصيرورته دولة داخل الدولة. والقضية الثالثة تتعلق بالاحتلال الاميركي - البريطاني للعراق، وهو احتلال تسبب به الطغيان والاستبداد اللذان دمرا العراق وشعبه وثرواته على امتداد اربعة عقود. والرابعة "تتعلق بالاستبداد في بلداننا في صيغه المتعددة". والخامسة تتعلق بالجانب المتوحش من عولمة رأس المال، الجانب الذي يشوه التطور الموضوعي نحو وحدة العالم ووحدة الجنس البشري. وهنا يأخذ الكاتب على حركة مناهضة العولمة عدم تفريقها بين هذا الجانب المتوحش والجوانب الايجابية الاخرى التي تدفع نحو وحدة العالم وتعميم قيم الحرية والمساواة والعدالة. والقضية السادسة تتعلق بقوى التغيير في بلادنا وفي العالم، وقد بدأت تفقد علاقتها بتاريخها وافكارها وبالمهمات التي كانت في اساس قيامها، وتفقد من ثم مبرر وجودها. وبخلاف ما درج عليه الخطاب السياسي العربي، يقارب كريم مروة مسألة الدولة الحديثة على نحو شديد الوضوح والاقناع، ويكشف النقاب عن شقاء الوعي السياسي الذي كان ولا يزال يهرب ويتهرب من الدولة الوطنية الممكنة الى اللادولة القومية او الاشتراكية او الاسلامية المتخيلة. والفكر السياسي العربي يعكس الهوة السحيقة بين "الدولة" القائمة بالفعل، على ما أصابها من تآكل وفساد في ماهيتها وبنيتها ووظيفتها، وبين يوتوبيا الدولة القومية، دولة الأمة العربية او الاسلامية، دولة الأمة الاسلامية، او الاشتراكية دولة الطبقة العاملة التي تصير هي الأمة، بتعبير ماركس في "البيان الشيوعي"، بين الدولة القائمة والدولة الفاضلة، الدولة غير الشرعية والدولة الشرعية. ويمكن القول ان العربي ينتمي ثقافياً وروحياً الى دولة متخيلة، اما الدولة القائمة بالفعل فلا تعني له سوى كونها عقبة في طريق الدولة المنشودة، تجب ازالتها، ولذلك لم يمنحها اي نوع من الشرعية حتى اليوم، سوى شرعية الأمر الواقع. حتى الذين يتحدثون اليوم عن دولة ديموقراطية، من دون مفهوم الدولة الحديثة، العلمانية، يعيشون نوعاً من طوبى الدولة. و"حينما نقابل وصف الواقع التاريخي بتطلعات الطوبى ندرك تجربة الفرد العربي في مجال السياسة". ويتحدث كثيرون اليوم عن نهاية "الدولة الوطنية" او الدولة القومية، مع نمو العولمة الرأسمالية وتقدمها، ولكن لم يتحدث احد بعد ماركس ومن نسبوا انفسهم الى الماركسية عن نهاية الدولة ونهاية المجتمع المدني معاً، بل ان ماركس تحدث، كما أزعم، عن نهاية الدولة السياسية، الليبرالية، او انتفائها جدلياً، بما هي شكل سياسي غير مطابق لمضمونه، وعارضها بالدولة الديموقراطية، التي هي وحدة الشكل والمضمون، اي وحدة المجتمع والدولة، ولم يقل احد بعد ما هي الدولة التي ستنجم عن تعمق العولمة، وما مصير الدول التي تتآكل سيادتها باطراد في البلدان المتأخرة. وسؤال الدولة هو نفسه سؤال المجتمع المدني. المسألة تتعلق، على ما يبدو لي، بصفة الدولة او صفاتها وتحديداتها المختلفة، لا باختلاف العلوم الوضعية التي تناولتها، كعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم القانون والانثروبولوجيا، واختلاف مناهجها، فحسب، بل باختلاف المنظومات الفكرية، من ليبرالية وماركسية ووجودية وبنيوية وفوضوية، والمنظومات الايديولوجية من قومية واشتراكية ودينية، ولا سيما الاسلامية منها. وكل صفة هي حد وفارق يضع تعارضاً، وينشئ جدلاً، ويثير جدالاً. والجدال، لا الجدل، اي الديالكتيك، هو السمة الغالبة على الفكر السياسي العربي في موضوع الدولة. وهو جدال حول الصفات، فحسب، لا حول الموصوف الذي قلما يعبأ به المتجادلون والمتساجلون. ولا بد ان نلاحظ ان الصفة عندنا تأكل الموصوف او تستنفده، بخلاف منطق لغتنا العربية. والجدال حول الصفات يحيل على الطابع الايديولوجي للخطاب السياسي من جهة، وعلى عجزه عن تجاوز حدود الوضعية الايجابية التي تحولت لديه، بحكم الطابع الايديولوجي ذاته الى مذهب وضعوي. الدولة القومية والدولة الاشتراكية والدولة الاسلامية هي شعارات الفكر السياسي العربي، وشعارات الحركة الشعبية، بعد الحرب العالمية الثانية بخاصة، والقومية العربية والاشتراكية والإسلام، على ما بينها من تداخل واختلاط، هي مضامينه. السياسة، بما هي فاعلية المجتمع وعلم الدولة، وبما هي معطى مدني، خارج اهتماماته. حضور السلطة الوحشية الطبيعية المباشر والكثيف في جميع مجالات الحياة الاجتماعية وفي تفاصيل الحياة الشخصية للفرد حجب فكرة الدولة المبهمة والمعقدة. تحويل المجتمع الى ارقام احصائية والى قطعان، وتحويل الافراد الى كائنات توتاليتارية حجب فكرة الدولة. ادماج جميع مجالات الحياة الاجتماعية في مجال واحد هو مجال السلطة الشمولية التي لا يخرج من دائرتها شيء أنتج تطابقاً وتماهياً بيبن السلطة والدولة. جميع افراد الشعب متساوون في كونهم لا شيء. اذاً، ليست هنالك دولة وليست هنالك أمة وليس هنالك شعب. لذلك كله، ولأسباب اخرى كثيرة، ليس اقلها اختفاء الدولة في العراق مع اختفاء صدام حسين واحتمال اختفائها في بلدان عربية اخرى، بات واجباً علينا ان نهتم بفكرة الدولة قبل اي صفة اخرى من صفاتها، لكي نعيد تعريف السياسة بأنها شأن عام وفاعلية مجتمعية، وعلاقة مزدوجة ذات اتجاهين: من الادنى الى الاعلى ومن الاعلى الى الادنى. الدولة اولاً وأساساً، وجميع صفاتها الاخرى تابعة. اعتقد انني اقترب من نَفًس كريم مروة ومن نفسه، وارجو ان يكون الامر كذلك، والا أكون قد غلّبت هواي. وما يرجح الاحتمال الاول ان الدولة عند مروة "بعكس ما ينظّر له عتاة الرأسمال المعولم، هي حاجة موضوعية لتأمين الانتظام الاجتماعي، لكن بشرط ان تتحول بصورة كاملة الى دولة ديموقراطية حديثة، دولة مؤسسات وقوانين، لكي تكون مؤهلة للتعامل مع المجتمع في تحقيق تلك المهمات المشار اليها. ولن يتم ذلك في بلداننا على النحو الصحيح الا بفصل الدين عن الدولة". ولكن، قبل الدولة الديموقراطية التي يلح عليها الكاتب، هنالك الدولة السياسية، بتعبير ماركس، او الدولة الحديثة، في معارضة الدولة القديمة التي يذكرها الكاتب في مواضيع عدة. هنالك دولة الحق والقانون، دولة جميع المواطنين، هنالك الدولة بما هي تجريد العمومية التي تتجسد في مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية لكل منها استقلالها النسبي المؤسس على تمايز مجالات الحياة الاجتماعية واستقلالها، ولكل منها وظائفها التي تؤلف مجتمعة "وظائف الدولة". الديموقراطية في بلادنا ليست في أمر اليوم، لأننا لم ننجز بعد مقدماتها الضرورية، وفي مقدمها الدولة السياسية بما هي تجريد العمومية وتحديد ذاتي للشعب. فلا يمكن الغاء الطائفية السياسية من دون علمنة المجتمع وفصل الدين عن السياسة واعادة بناء العلاقات السياسية على مبدأ المواطنة وتساوي جميع المواطنين في الحقوق. المواطن، بما هو فرد من جميع صفاته ومحمولاته غير السياسية، هو اساس الدولة. والفرد الطبيعي جميع صفاته ومحمولاته هو اساس المجتمع. تعريف الدولة بأنها تجريد العمومية هو ما يؤكد علمانيتها وعقلانيتها وكونها وطناً سياسياً لجميع مواطنيها، بغض النظر عن خصائصهم الفردية وانتماءاتهم المختلفة ومحمولاتهم المتباينة. وهذا في اعتقادي من أهم الملفات التي يفتحها مروة ويقتضي كل منها حواراً فكرياً وسياسياً يستعيد قيم الحداثة المغدورة وافكارها ومبادئها ومناهجها، وأهمها الديالكتيك، ذروة العقلانية. * كاتب سوري.