ما أكثر ما كنت أُسأل ولا أزال أُسأل هل نظمت شعراً. وكانت الأجوبة دائماً لا لم أحاول. وعندئذ يأتي السؤال الآخر ولماذا؟ هل لأنك أنت مؤرخ؟ كان جوابي دائماً الشعر لا يرتبط نظمه بالعمل الذي يقوم به المرء. هناك شعراء كبار هم أطباء وتجار ومهندسون وباحثون في الشؤون العلمية فضلاً عن الأدباء ومن جرّ جرهم. لكن لامتناعي عن نظم الشعر مبكراً في حياتي قصة. كان في القدس دير كبير للأقباط وكان رئيسه القمس يوحنا الأنطوني البهجوري. كانت عمتي لطيفة تسكن الناصرة ولكنها كانت تذهب الى القدس كثيراً لأشغال تتعلق بها. وقد تقيم هناك أياماً. واهتدت الى هذا الدير الذي كان يؤجر غرفاً لمن يريد أن يقيم فيه: غرفة مع مطبخ وما يتعلق بها. فكانت عمتي لطيفة عندما تأتي الى القدس تشعرني بوجودها وتطلب مني أن أذهب لزيارتها في أيام الجمع والآحاد. كنت أزورها لأنني كنت أحبها وكانت تنصحني كثيراً لكن أنا لم يكن هذا يهمني. كان يهمني انها تعطيني أخبار الأقارب والأصحاب في الناصرة وتتحدث عن أمور عامة فهي متقدمة في السن وكانت أرملة ولم ترزق طفلاً لكنها بالنسبة إلي كانت تعتبرني ابنها. في يوم من الأيام قالت لي أريد أن آخذك الى رئيس الدير وأعرفك عليه. قلت لها"يا عمتي ما لي ومال الخوارنة جماعة متعبين"، قالت سترى شيئاً جديداً. ذهبت وأول ما لفتني في الغرفة التي كان الرجل جالساً فيها لاستقبالي الرفوف الكثيرة التي تمتلئ بالكتب بقطع النظر عن نوعها لأنني لم أستطع أن أتعرف عليها ولكنها كثيرة. وكنت أنا أعرف عن رهبان الأرثوذكس حتى المتقدمين في الدرجات العليا منهم مثل كبير تراجمة البطريركية الأرثوذكسية الذي كان في يوم من الأيام تلميذاً لخالي ايليا ديب قبل أن يصبح مطراناً. كان ذاك في غرفته غرفة الاستقبال صور قديسين الخ... لكن لا أذكر أنني رأيت كتاباً. مجرد أن نظرت ورأيت هذه الكتب وأنا أحب الكتب والقراءة تحدثنا. وكانت عطلة الصيف قد اقتربت وكانت عمتي هناك في احدى زياراتها فأخذتني اليه. قال اسمع انت ستقضي بعض عطلتك في جنين والبعض الآخر في الناصرة. في الناصرة لك أقارب وأصحاب، في جنين لك أصحاب، لكن أنا أريد أن أعطيك صديقاً يرافقك في جنين. وناولني كتابين. قال اقرأ منهما ما استطعت وحاول أن تفهم ما قدرت عليه ولعل الذي لم تفهمه أستطيع أن أفسره لك متى عدت. شكرته. كان الكتابان واحد اسمه مقالات شبلي الشميّل والثاني ترجمة كتاب داروين لشبلي الشميّل أيضاً. لم أكن أعرف يومها من هو شبلي الشميّل. لكن في المقدمة البسيطة كان تعريف به أنه طبيب تخرج من الجامعة الأميركية في بيروت ثم درس الطب في فرنسا واستقر في مصر لكن ليس المهم ان شبلي الشميّل كان طبيباً. كان رجلاً متحرراً بكل ما يمكن أن تفيد الكلمة من معنى في تلك الأيام. فقد كانت تفيد أكثر مما تفيد اليوم. كان شبلي الشميل يقيم في الاسكندرية. عرفت في ما بعد أنه كتب الكثير. كان يدعو الى الحرية، يدعو الى حرية الفكر، يدعو الى حرية الضمير، يدعو الى حرية الكلمة، كان يدعو الى كل شيء فيه حرية. كان صريحاً في معالجته للموضوعات الاجتماعية. ومن الأمور التي قرأتها في كتابه المقالات، مقالات عن الشعر. كان شبلي الشميل ينعى على العرب أنهم يدرسون المحاماة ويتعلمون الأدب ويتعاطون الشعر. لكنهم لا يتقربون ولا يقتربون من العلم، العلم الطبيعي، العلم الكيميائي، العلم الطبي، كل أنواع العلوم قلما يعنون بها. ولذلك كانت المؤسسات التي أنشئت في مصر من الخارج مثل مدرسة الحقوق الفرنسية تمتلئ بالطلاب. كما كان كثر يذهبون الى الأزهر لدراسة الفقه واللغة. وكانت أُنشئت في مصر مدرستان الواحدة اسمها دار العلوم وكانت تعنى باللغة العربية أدباً وشعراً ونحواً وصرفاً الخ... الثانية مدرسة القضاء الشرعي وكانت تُعنى بتخريج القضاة الشرعيين والمحامين الشرعيين. وكان يدعو الناس الى ان ينصرفوا عن الشعر وان يكون لهم اتجاه نحو العلم. هل من سبب خاص يا تُرى ان هذا الكلام أثّر فيّ فدفعني أو أقصاني عن محاولة نظم الشعر؟ أظن أنه كان العامل الأكبر في هذا الموضوع وأنا كنت يومها في دار المعلمين وكنت أحب الرياضيات فكأن الرجل قال لي ما دمت تحب الرياضيات فسر فيها واترك الشعر. سمعت نصيحته ولم أحاول نظم الشعر. لكن في الناحية الأخرى كنت مغرماً بقراءة الشعر أحبه منذ أن بدأت أُدرَّس المعلقات في دار المعلمين سنة 1922 ثم الشعر في صدر الاسلام. لما تركت دار المعلمين كانت عنايتي بقراءة الشعر كبيرة أهتم به ألتذ به أقرأه. بعض القصائد أذكر منها أبياتاً حتى اليوم. لما اكتشف قبر توت عنخ آمون سنة 1927 نظم أحمد شوقي قصيدة طويلة بدأها بقوله: خَرَ جَت على القرن القرون/ ومضت على الدن السنون خير السيوف مضى عليه/ الدهر في خير الجفون وهو يقصد توت عنخ آمون، الى ان ينتهي بها فيقول مخاطباً توت عنخ آمون: لو كان من سفر ايابك/ امس أو فتح مبين لوجدت شعباً غير/ شعبك في الجبابر لا يدين هم في الأواخر مولداً/ وعقولهم في الأولين وحتى الآن أذكر أبياتاً من قصيدة مطران عن يوم قتل بزر جَمَهْر: يا يوم قتل بزر جمهر/ وقد أتى فيه الرجال رجَالا متسارعين ليشهدوا قتل الذي/ أحيا البلاد عدالة ونوالا واذكر البيت الأخير: ما كانت الحسناء ترفع سترها/ لو أن في هذه الجموع رجالا... ثم قصيدته في نيرون على صعوبتها وطولها واضطراره الى استعمال القافية في أحيان مرات لا أزال أذكر منها بيتاً رئيساً: ان الذين الّهوا نيرونهم/ هم بالسُّبة من نيرون أحرى. لكن قرأت مئات القصائد وكانت تعجبني القصائد التي لا يلتزم الشاعر فيها بالضرورة قافية واحدة ولكنه ينوع القوافي في مقطوعات كما كان يفعل الأندلسيون لما تحرروا من ربقة قاعدة الشعر الشرقية أي التزام القافية والوزن عبر طول القصيدة. أحياناً أتذكر أبياتاً من الشعر لكنني لا أظن أنني أتذكر قصيدة طويلة فذلك أمر حلت محله أمور أخرى تحتاج الى الذاكرة وتفيد منها. ظل الأمر معي على حاله غراماً بالشعر الى ان تعرفت الى الزجل فأغراني قراءة وتمعناً. فكان لدي افقان من الشعر. الواحد الفصيح والثاني الذي يكتب باللغة الدارجة سمها عامية أو سمها ما شئت. المهم في نظري وبالنسبة إلي أن يكون هناك رنّة موسيقية في الشعر فأقرأه. ولذلك لما جاءت قصيدة النثر لم أستطع أن أجد فيها شعراً ولا أكتمكم أنني قلّما أقرأ قصيدة من قصائد النثر. أنا واثق من أنني أحرم نفسي من الأشياء الكثيرة لكنني أنا أقرأ الشعر للمتعة والمتعة التي أريدها، أن يكون فيها ايقاع موسيقي رنّة دنّة طنطنة سموها ما شئتم. ولذلك أرجو أن يعذرني كتّاب الشعر وكتّاب القصيدة النثرية ان أنا لم أبتع ديواناً من دواوينهم وقلّما أقرأ قصيدة من قصائدهم. لكنني لا أزال أحب الشعر الموزون ذا القافية المتنوعة والموسيقى التي ترقّصني على نحو ما يبدو من قراءة"جفنه علّم الغزل ومن الحب ما قتل". هذه قصيدة كما قال عنها عبدالوهاب. قالوا له أجدت التلحين، قال هذه القصيدة ولدت ملحّنة. هذا الشعر الذي أحبه. أحب أن أرقص معه طبعاً لا رقصاً مادياً وأنا بدأت في التاسعة والتسعين من عمري لكن أن يرقص قلبي معه أن أفرح به سواء كان فتحاً أو وصفاً أو رثاء أو أي نوع من أنواع الشعر الراقي اللطيف المعبر. ان الشعر بحد ذاته عامل من عوامل توسيع الأفق عند القارئ الذي يفهمه ويتمتع به. ولذلك فأنا أحب الشعر لكنني لم أكتب الشعر ولست نادماً.