سئمت من الإيقاع، لكن يبدو أنه لم يسأم مني بعد. رتابة الشعر الموزون، فيما أقرأ وما أكتب، باتت تزعجني أكثر فأكثر، وصار إحساسي مضاعفًا بقيودها التي تثقل معصمي. حتى وإن كانت تلك القيود من حرير وذهب، فإنها تظل قيودًا، ولن يغير ذلك من هويتها وكينونتها شيئًا. يصور لك الإيقاع (وأعني به الإيقاع الخارجي الظاهر) بما له من سطوة طاغية أنك حر، ولكن حريتك هذه منقوصة لأن الوزن بمفهومه الأوسع والأشمل، وبحور الشعر بمداها الأضيق تفرض عليك، من حيث تشعر أو لا تشعر، أن تقول ما تريده هي لا ما تريده أنت. أذكر في هذا السياق قصيدة بدوي الجبل، وهو من أساطين القصيدة الكلاسيكية، التي قال فيها: أنا أبكي لكل قيدٍ فأبكي/لقريضي تغلّه الأوزانُ. حين سئل عن هذا البيت الذي يشي بالتمرد على الأوزان قال ما معناه إنه استلطف هذا المعنى وإن كان غير مؤمن به. النثر من جانب آخر يوفر لك حرية شبه مطلقة (إذ لا وجود لحرية مطلقة في الكتابة، كما في الحياة) لتقول ما تريد كما تريد دون أن يضطرك الوزن لقول شيء لم تكن تريد قوله، أو كنت تود لو قلته بطريقة أخرى لا يتيحها لك التزامك بضوابط الوزن. ولا تنس بقاءك تحت رحمة سيف القافية المصلت عند نهاية كل بيت أو سطر من القصيدة. ولكن كتابة القصيدة نثرًا ليست بالأمر الهين كما يتصور بعض القراء والمتلقين وبعض المختصين والدارسين أيضًا، بل إن ذلك كما أرى وأعتقد أكثر صعوبة، طبعًا إذا ما كان الحديث عن جيد الشعر وليس عن رديئه، وهو أمر موجود في كل أجناس الشعر وأشكال القصيدة. يحلو لي أن أشبه قصيدتي التفعيلة والعمودية بفرسين لا تجيدان الركض إلا في مضمار مرسوم ومحدد الملامح، أما قصيدة النثر ففرس لا تعرف الركض إلا في رحابة البراري. وشتان ما بين مضمار ضيق وبرية شاسعة.