هل تصمد القصيدة العمودية امام قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة؟ يبدو هذا السؤال احتماليا ولنكون اكثر دقة نقول تخيليا أكثر منه واقعيا. فثمة محاولات منذ (فن الشعر) لارسطو وحتى الآن تغلب نوعا ادبيا على آخر ولكنها لاتلغيه فمبدأ الالغاء في الفن والأدب تحكمه عوامل كثيرة معقدة تتقدمها الحاجة الى هذا الفن او هذا الادب.. ففي الوقت الذي كان فيه الشعر العربي متسيدا الساحة بشكله الخليلي المألوف، وحين كان يلبي الحاجة الفعلية لتفاعل الذات الشاعرة مع الآخر لم تكن هناك حاجة للمسرح وعندما تطور المجتمع ونما واخذت العلاقة مع الآخر شكلا من اشكال المثاقفة وتبدت حاجة هذا التطور لاشكال ادبية جديدة تستوعب عمق التغيرات وتجسدها برؤى مختلفة بدأ فن المسرح يطل على استحياء متكئا على فكر الآخر بداية ثم فكر الذات المبدعة بعد ذلك وهذا الامر تكرر مع الرواية مع ازدهار حركة الترجمة في العالم العربي وقبلها ابان النهضة الصناعية وظهور الطبقة الوسطى في الغرب انطلاقا من الرومانسي الذي لم يندثر كشكل ادبي ولكنه تطور الى الرواية وهذا التطور يقودنا الى القضية التي تشغل قطاعا من المثقفين حول تراث قصيدة النثر وهل هذا الشكل الشعري تطورا لأشكال مشابهة او قريبة في تراثنا الابداعي. نعتقد ان اول من أجاب عن هذا السؤال منذ ديوانه الاول وأعماله الاولى في مجلة (شعر) هو على أحمد سعيد (ادونيس) ولا نعتقد ان جنسا ادبيا يوغل في الهدم الى درجة فقدان الهوية فمازالت المقامات موجودة كشكل ابداعي وان انسحبت الى الظل لظروف اشرنا لها سابقا ضمن ما اشرنا لانسحاب بعض الاشكال الابداعية. بايجاز شديد وقبل ان نقف عند آراء بعض النقاد والشعراء حول هذا السؤال الجديد القديم يمكننا القول ان الازمة هي ازمة نقد اولا لان النقد لم يقف لمساءله التجربة الشعرية المعاصرة برمتها وبكل اشكالها (العمودي - التفعيلي النثري). إننا لو سقنا هنا ماجمع من آراء حول قصيدة النثر (مثلا) لاحتجنا الى مساحات تفوق اضعاف هذه المساحة بعشرات المرات. وقراءة سريعة لما تلقاه الناقد والشاعر عز الدين المعاصرة على اسئلة مشابهة (وان كانت اكثر عمقا) وجمعها في كتابه (اشكاليات قصيدة النثر) وشارك في الاجابة عنها اكثر من اربعين شاعرا وناقدا من ارجاء العالم العربي نجد ان ثمة اتفاقا حول مصطلح قصيدة النتر وحول غياب المعايير التي تحكم هذه القصيدة فهناك من يرى انها شعر خالص وهناك من يرى انها (نثر خالص) وهناك رأي ثالث يرى انها جنس أدبي ثالث مستقل، ولم يقل احد بالغاء او موت قصيدة النثر او القصيدة العمودية. وان بعد الزمن والإجابة اتجهت الى اعمال النفري والمتصوفة العرب وقد حمل أحد دواوين ادونيس اسما مشابها لعمل من اعمال النفري (مواقف) ولاننا هنا لسنا بصدد المقارنة والرؤى النقدية والأبعاد التاريخية التي تتجه جميعها نحو القصيدة العمودية كثراث عميق في أغوار تاريخنا الابداعي تحدد وتؤطر وفق معايير ومقاييس شكلية معينة بخلاف (قصيدة النثر) المصطلح الاكثر شيوعا في النقد المعاصر والتي اطلق عليها منذ نشأتها (1905) بكتابه لامين الريحاني وحتى الآن كما يرصد د. عز الدين المعاصرة في كتابه قصيدة النثر ما يقرب من (25) اسما. منها: الشعر المنثور النثر الفني، الكتابة الحرة، الجنس الثالث، النثيره... الى آخره. السؤال المحور في هذه القضية لا اعتقده يعني الالغاء او الموت كما تخيل البعض ولكنه ربما يعني الدخول الى دائرة الظل او التقدم الى الخلف.. ومثل هذا الامر قال به البعض ومازالوا حول بروز الرواية اي تقدمها في دائرة الضوء وانسحاب الشعر، وهو فن العربية الاول الى دائرة الظل، مما حدا بهم الى القول إن هذا العصر (عصر الرواية) في الوقت الذي تنبأ فيه ميلان كونديرا الروائي الاشهر في اوروبا والعالم بغياب الرواية عن الساحة لتقديرات وتبريرات تتصل بعوامل كثيرة. وقال بذلك ايضا بعض الكتاب ومبرراتهم هي بروز الدراما المرئية.. الاقوال والتنبؤات كثيرة ولكنها لاتعني الالغاء، وحتى (جيرار جينيت) قال بتداخل الانواع ولم يقل بموت نوع. يرى الدكتور حسين نصار عميد آداب القاهرة الاسبق ان الاتجاهات الشعرية كلها او اكثرها باقية، فمنذ مطلع النهضة عرفنا - في مجال الشعر - الحركة الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية، والشعر العمودي والمقطعي والتفعيلي والمرسل والمنثور وقصيدة النثر، والغنائي والقصصي والمسرحي، وما زلنا نجدها فيما يصدره شعراؤنا إلى اليوم، فالشعر الرومانسي المقطعي الذي جاء بعد الكلاسيكي العمودي لم يقض عليه قضاء تاماً، كما لم يقض الشعر الواقعي على الرومانسي، واعتقد ان كثيراً من هذه الحركات باق بقاء الشعر، وسينضم اليها حركات اخرى يأتي بها المجددون ويرضى عنها الذوق الادبي العام، فالفنون غير العلوم، لا يحل الجديد فيها محل القديم ويقتله، وانما يبقيان معاً كثيراً، كما هما احياناً، وقد يضطر القديم إلى قبول شيء من التغيير وقد يرفض. ويشير د. نصار إلى ان العرب احتفوا بنظام القافية منذ ابتكروه وعدوه من مقومات شعرهم الاساسية، وعلى الرغم من ذلك احسوا بوطأة القافية القاسية عليهم، وشكوا ما يبذلون من جهد في اقامتها وتهذيبها، ثم سعوا إلى التخفيف من سطوتها، فابتدعوا المزدوجات التي يقضي كل شطرين فيها بقافية مختلفة عن قافية شطري البيت التالي، والموشحات والرباعيات والمخمسات وبقية اشكال الشعر الفصيح، وكل هذه الاشكال تتعدد فيها القوافي ولا تلتزم قافية واحدة. ولم يقم القدماء بثورة شاملة على نظام القوافي، ولم يسع احد منهم إلى تحطيمه، وكأنما وجهوا همهم إلى التخفيف والتعديل، واستمر الأمر إلى العصر الحديث، تبرز شكاوى من مختلف الاتجاهات الادبية، وتبرز تنويعات أدبية، إلى ان اندلعت الثورة، فقد اطلع بعض الشعراء على الشعر الغربي، ووجدوه يخضع لنظام يسير من القوافي آونة ويتحرر منها تحرراً كاملاً اخرى، فدعوا إلى طرح القافية واصدار ما سموه الشعر المرسل، الذي حافظ على الوزن وتحرر من الروي. وحافظت القافية على سلطانها إلى ان ظهر الشعر الحر او شعر التفعيلة، فقد تلقف اصحاب هذا الشعر الدعوة بأن القافية ليست مقوماً جوهرياً في الشعر، وانها قيد مفسد له، واعلنوا التحرر من التزامها، وكانت القصيدة من هذا الشعر هي التي نجحت حقاً في تحطيم النظام القديم للقوافي. وفي رأيي ان القافية لا مستقبل واسعاً لها، بل سيستمر الاعراض عنها ويتسع طرحها، ويضطر العموديون إلى التنويع فيها حتى لا تبدو قصائدهم متخلفة عن الذوق الادبي السائد. وحول قصيدة النثر قال: اظن ان الادباء العرب سيستمرون في اصدار النصوص التي يسمونها اليوم بالشعر المنثور وقصائد النثر، غير ان كثيرين منهم سيعترفون انها من النثر الفني، ويقلعون عن التسميات التي تخلط بين المسميات، وتمحوا الفوارق دون حق يوجب ذلك. شعراؤها كثيرون يرى الدكتور محمود علي مكي استاذ الادب العربي والاندلسي انه ما زال هناك كثير من الشعراء يعالجون قصيدة الشعر العمودي، ومنهم كبار الشعراء، بل انني اقول ان كثيراً ممن بدأوا القصدية التفعيلية - عادوا في النهاية إلى القصيدة العمودية، واذكر من هؤلاء من كبار الشعراء نازك الملائكة التي تقول على الاقل انها هي التي بدأت قصيدة التفعيلة بديوانها "شظايا ورماد" سنة 1948، وقصيدة "الكوليرا" بالذات، فانها بعد ان امضت شوطاً طويلاً في قصيدة التفعيلة عادت في النهاية إلى القصيدة العمودية.. والحقيقة انه لا تعارض بين الاثنتين، فكبار الشعراء ينظمون على النهجين. اما كثير من الشباب الذين لديهم احياناً بعض الموهبة الشعرية ممن ينظمون على نهج قصيدة التفعيلة، فانني اخشى ان اقول ان هذا يرجع إلى انهم يستسهلون، الكتابة بهذه الطريقة، مرجعا ذلك إلى الضعف اللغوي والى التقليد، لكن الشاعر المقتدر هو الذي يصطنع لتجربته الشعرية ما يناسبها سواء كانت من شعر التفعيلة او من الشعر العمودي، ولا تعارض بين الاثنين، فالمقتدر هو الذي يستطيع ان ينظم على الناحيتين. واضاف د. مكي: نحن نرى على الساحة الشعرية الآن سيلاً من هذا الشعر الذي يسمى الشعر الحر، ونكاد لا نجد فيه شاعراً حقيقياً بمعنى الكلمة، ولهذا فانني اقول ان قصيدة التفعيلة - مع الاسف - على الرغم من انه كان لها ما يبررها، الا انها قد اصبحت اشبه بما نسميه "الجدار الواطئ"الذي يستطيع ان يتسوره كل انسان، والذي نراه كثيراً في شعر الشباب الذين يقومون بنظم هذا الشعر او رص الكلام بحيث يسمونه شعر التفعيلة، والذي قد يخلو في بعض الاحيان من التفعيلة نفسها. وانا لست ضد قصيدة النثر، لانها عندما تكون في يد شاعر كبير مثل محمد عفيفي مطر فانه يستطيع ان يقول شيئاً، لكن الكثيرين من الكتاب الشباب ممن ليست لديهم الموهبة الحقيقية، ويتخلون عن القواعد، ويقولون انهم يدمرون اللغة ويدمرون البناء العروضي، يحاولون دخول هذه المغامرة دون تسلح ابداعي يكفيهم غائلة السقوط. وتتفق الشاعرة والاعلامية الكويتية سعدية مفرح مع ما ذهب اليه د. مكي قائلة: اذا آمنا بقدرة او ميزة القصيدة العربية في التجاوز سوف نتأكد من قدرتها على التحقق في اي اطار يختاره شاعرها لها.. اما الذين يقولون بان القصيدة العمودية غير قادرة على الصمود او ان قصيدة التفعيلة استنفدت اغراضها الجمالية والشعرية، فهم يحكمون منذ الآن على موت منتظر لقصيدة النثر. وهم لايعلمون انهم بذلك انما يشتغلون بالبحث عن تسميات للشعر واطارات جديدة للشعرية دون ان يشتغلوا على كتابة القصيدة الجديدة نفسها، وهم ينشغلون بذلك عن الوظيفة الاهم وهي القدرة على الابداع.. محض الابداع الشعري. طبعا هذا لايعني انني أستسيغ ان يكتب شاعر ينتمي للقرن الحادي والعشرين قصيدة تنتمي بروحها ومفرداتها وطريقة بنائها الشعري وقضاياها الى زمن امرئ القيس او المتنبي بحجة انه يحافظ على عمود الشعر، ولا يعني انني استطيع قراءة قصيدة مكتوبة الان على طريقة السياب او صلاح عبدالصبور.. رغم انني سأظل دائما اقرأ لامرئ القيس والمتنبي والسياب وعبدالصبور، ولكن قراءاتي هذه تتم على هامش وعيي بالزمن الذي انتجت فيه هذه القصيدة طبعا. وهذا يعني ان للجميع حق كتابة قصيدتهم وفقا للشكل الذي يستسيغونه، ويجيدونه ويجدون انه الاقدر على التعبير عن شعريتهم دون ان يعني هذا تجاهلهم لتفاصيل الزمن الذي يعيشون في خضمه. وتضيف مفرح نحن لسنا مسؤولين عن لحظة الشعر في مستقبلها بهذا الشكل المباشر حتى وان تحددت ملامح تلك المسئولية في اطار الحدس او التوقع او التمني على الاقل، وهذا لايعني انني على الحياد لانني لا أملك خصوصية ذلك الموقف، ولا اعتقد انه ينبغي على اي شاعر ان يقف على الحياد في معركة تحولات القصيدة ومراحل بناء تاريخها المستمر، ولكنني بشكل عام ومع هذا، اعتقد ان اي تحول يمكن ان يلم بالقصيدة سوف يخلق قصيدة جديدة ولكنه لايلغي القصيدة الاخرى، شخصيا انظر لأي تحول في الحياة بشكل ايجابي على انه اضافة لتلوينات الحياة، والقصيدة أحد أهم مكامن القدرة على استجلاب تلوينات جديدة في مساحة الحياة. ومن المثير معرفة ان القصيدة العربية كانت دائما تتميز بروح قادرة على التجاوز وهضم الجديد وتمثله، حتى وان كان تحت شعار او تسمية غير التسمية المعتادة كقصيدة او كشعر، ومن يقرأ في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري او غيره من كتب الصوفية مثلا يرصد تاريخا مغيبا في ثقافتنا العربية وفي مسيرة القصيدة العربية كله لشكل النثر فيها، صحيح ان لقصيدة النثر العربية الجديدة مرجعية غربية وفقا للوعي النقدي الراهن، ولكن الصحيح ايضا ان هذا الشكل من الشعر لم يكن غريبا في محضه بغض النظر عن المصطلح الذي يندرج تحته. وتعتقد مفرح انه لاينبغي لقصيدة النثر الناجحة ان تكون سائدة او مألوفة، فكل قصيدة تريد ان تكون متجاوزة عليها اولا ان تفكر في تحقق لايداهن السائد ولايتوافق مع المألوف وعلى كل شاعر ان يخلق قصيدته الخاصة وفقا لتلك الشروط الخاصة على حدة، سواء أكانت قصيدة عمودية او تفعيلة او قصيدة نثر. ويرفض الناقد أسامة الملا السؤال بهذه الطريقة فهو سؤال مرحل منذ ثلاثين عاما.. ويطرحه بطريقة أخرى قائلا: هل نحن أمام ذات ثقافية تختار ماذا سيبقى وماذا سيرحل. مضيفا اننا في هذه اللحظة الثقافية ليست لنا القدرة على تحديد مدخراتنا وتحديد مانحمله معنا مستقبلا، وفي اعتقادي فانه لايجب ان يطرح التساؤل هل سيصمد نوع امام نوع آخر او هل يذهب هذا ويبقى ذاك، وانما السؤال الحقيقي هل يبقى الشعر برمته؟ وللاجابة يقول الملا: بصراحة لسنا قادرين على تحديد امكانية اننا سنبقى أم لا. لحظتنا الثقافية ولدي شعور بان النص الحقيقي هو الذي سيبقى، وقد شاخت الكثير من التجارب العمودية منذ وقت طويل ومع ذلك فالتجربة باقية، ومن جهة اخرى فقد شاخت ايضا بعض التجارب النثرية في وقت مبكر، وستبقى بعضها، وفي الاعم فالنموذج الابداعي في القصيدة الشعرية لن يكون له رواج في المرحلة القادمة، وانما المستقبل للنص المفتوح المتعدد الاصوات، مضيفا ان النص الشعري نص ملحمي غنائي ذاتي في حين ان النص المفتوح المتعدد هو الذي يشبع تعقيد تشابكية الحياة والمقومات المجتمعية، ولذلك فالنص السردي هو المرشح للتعبير عن هذه التعددية في الاصوات داخل النص. ويعتقد الملا بامكانية التنبؤ بوجود اجناس ادبية ستولدها لحظتنا الثقافية الراهنة، ولعل النمط التقني في الحياة سيفضي بنا الى خلق اجناس ادبية خاصة به. ويقول الدكتور طه وادي استاذ الادب العربي الحديث بالنسبة لقضية الشعر المعاصر: هناك شكلان معروفان يمكن ان يظهر من خلالهما معظم الانتاج الشعري العمودي وهو الشكل الذي كان مألوفا من قبل امرئ القيس حتى اليوم، وما زال هناك شعراء كثيرون في الوطن العربي يكتبون الشكل العمودي، وفي المقابل يوجد شكل آخر يسمى قصيدة الشعر الحر او شعر التفعيلة حيث يكتفي بأخذ تفعيلة من تفعيلات البحور او الاوزان الصافية، ولاسيما اوزانا مثل المتدارك او الكامل او الراجز، يتم تشكيل القصيدة كلها عليها، لكن معظم الشباب يميلون الى شكل قصيدة الشعر الحر وذلك بحكم تغير الزمان فلكل جيل شكل يلائمه. وهناك شكل ثالث يصنع ربكة اكثر من قصيدة الشعر الحر، وهو ما يسمى خطأ قصيدة النثر، وهي شكل متداول ويكتبه شعراء كثيرون، حتى ان بعضهم ممن يكتبون الشعر الحر، وهذا هو الذي أحدث قدرا من البلبلة لانه يأخذ من الشكل ليس الوزن ولا التفعيلة، وانما يأخذ الاسلوب الشاعري او الدفقة الشاعرية او التخيل الشعري، وهذا الامر يجعل احيانا بعض اعضاء الشعر الحر لايفرقون بين نوعين، هما قصيدة الشعر الحر وقصيدة الشعر النثري، فيضطرب الامر احيانا على القارئ غير المتخصص، ويحدث لديه قدر من الالتباس.. وفي تقديري ان القصيدة العمودية استعادت بعض وجودها، فهي مثلا في الخليج موجودة بشكل قوي، وبالطبع لن يموت الشكل التقليدي ولن ينتهي مهما كانت سطوة الشعر الحر، بل ان هذا الشكل العمودي هو الاصل. وقد كان النقاد منذ نحو ربع قرن منحازين بشكل قوي لقصيدة الشعر الحر، اما الآن فقد اصبح هناك نسبة من الحياد واصبحت الرؤية فيها قدر من العدالة، لاننا لانفضل شكلا على آخر، وانما نفضل شاعرا على آخر، وللشاعر ان يختار الشكل الذي يتلاءم مع امكاناته. ويرى الشاعر العراقي علي مزهر ان التجديد يتخذ باستمرار طريقه على أنقاض المضامين القديمة، مضيفا انه اذا كان الشكل مضمونا متحجرا، فابتداع المضمون الجديد القائم على نقض المضمون القديم يتطلب شكلا جديدا، وبالطبع فان نقض المضامين لايعني اننا نمجد الكراهية بدل الحب مثلا، بل يعني تأسيس نظرة الى الحب تنبع من خصوصيتنا ومتلائمة معنا. ويضيف مزهر: إن النظر الى القصيدة وكتابتها مثل النظر الى الحياة وعيشها. كتابة القصيدة تمثل وجهة نظرنا في العالم الذي نعيشه وطرائق تمثل هذا العالم. وليس لنا سوى ان نصغي الى نبض هذا العالم، ونحول ايقاعاته الى لغة قابلة للتداول فاذا استقر خياري، شكليا على منجز ثابت وقار، يصبح طريق التجديد اصعب، لأن المضامين ستكون في حالة صراع دائم ليست نتائجه بالضرورة لصالح الكتابة الجديدة. تتنازع الذاكرة اتجاهات شتى، ويطلب الايقاع القديم حضورا لايرتضي نصفه بل تمامه، بينما الايقاع الشخصي المتلائم مع نبض العالم وايقاع العصر يطلب ايقاعه الخاص هو ايضا سؤال التجديد في الشعر العمودي، هو سؤال الشعر كله، كيف نصبح معاصرين، وكيف تكون القصيدة عالما خاصا مشكلا من طين العالم وهوائه وليس من أنفاس الذاكرة وايقاعاتها سواء كانت قصيدة عمودية اوقصيدة نثر اوسواها شاقة مهنة الشاعر، شاقا طريق الشعر. ويعتقد الشاعر علي آل ابرهيم: ان علينا قبل الاجابة عن سؤال (هل تصمد القصيدة العمودية امام قصيدة النثر؟) اعادة النظر في هالة التصور الذي صنعته مجموعة من الاثارات الدالة على تصنيف شكلي للقصيدتين، ومناقشة مدى وجود التصور، وهل ظهرت قصيدة عمودية بروح نثرية؟ أو العكس؟ او هل يمكن ذلك أم لا؟ فان امكن او كان، ما قيمة الشكل بعد ذلك، ليصبح اساسا للتصنيف المثار؟ ومن أين علم ان القصيدة النثرية ذاتها حققت كيانا موحدا وشخصية واحدة؟ مع توافر الشواهد النصية الدالة على خلاف ذلك؟ اسئلة عديدة تحتاج الى مناقشة قبل الاجابة عن السؤال المطروح.. وعلى الرغم من ضرورة استبعاد جانب الشكل الفني عن الاعتبار الا ان قصيدة النثر حتى الآن لم تعتمد في وجودها على مقومات تختلف عن مقومات القصيدة العمودية سواء في التجربة الشعرية الخاصة بالشاعر او ما يمثل القالب اللغوي، وهذه الحقيقة التي تجاهلتها دراسات عجولة حاولت اعطاء قصيدة النثر وسام الفارس المغوار، ولامجازفة لو وصفنا معظم نتاج (النثرية) بانه (مسرد استعارات مركبة) وبذلك قدمت لونا لايخلو من جمال المحاولة الابداعية.. من ناحية أخرى (وبصراحة) لاحقيقة لوجود التخوف على مصير القصيدة القديمة، لأن هذه النضرة تتولد من نظرية الالغاء التي يصاب بها النقاد، واتساءل: ألم يتسع الفضاء الأدبي لاحتواء مختلف الالوان؟ ومن الذي فرض استبعاد اللون السابق لمجيء صنف جديد؟ وهل وجدنا ما حفل به الأدب الاندلسي كالموشحات مثلا ألغى اصنافا ادبية اخرى؟ الجيم لا تلغي الباء والباء لا تلغي الالف بل تجتمع تلك الحروف وتكون كلمة جميلة.. العبرة بالفكر الذي تتولد منه (الصورة الكاملة النفسية او الكونية التي يصورها الشاعر حين يفكر في أمر من الامور تفكيرا ينم عن عميق شعوره وإحساسه، والتي مرجعها الاقتناع الذاتي والاخلاص الفني، ولاتكفي المهارة في صياغة القول) حسب غنيمي هلال لان القلب والفكر هما السيدان. اما الشاعرة سعاد الكواري: فتبدي تصورها قائلة: في الفنون يصعب التكهن بعملية الصمود والزوال ولكن طبيعة العصر الذي يحتوي هذا النوع من الفن وسيطرة الذائقة الابداعية على شكل دون الآخر ربما لفترة معينة ومن بعد ذلك قد ينتقل الذوق العام الى شكل جديد او العودة مرة أخرى الى الخلف. لهذا اتصور ان الحذر والقلق من عملية الصمود والزوال سواء بالنسبة للقصيدة العمودية او غيرها جعلتنا نحوم حول ذاتنا ونخاف من التجربة او المغامرة ومادة الشعر والفنون عامة مبنية على المغامرة والتجريب مع الاحتفاظ بالاشكال التي اتفق عليها مسبقا. لذا أرى ان التكهن صعب جدا، وان كنت اعتقد ان تنوع الاشكال وتجانسها ووجودها مع امل في وجود اشكال جديدة سوف يكون في خدمة الابداع بشكل عام أما البقاء على شكل وحيد يتيم سوف يؤدي الى تقييد المبدع بصورة مزعجة، ولا أحد من المبدعين الحقيقيين يرغب في ان يكون احد الفنون سيدأ دون الآخر، لأن هذا التفرد القسري سيؤدي بالعملية الابداعية الى اشكالات نحن في غنى عنها ان في الوقت الراهن مع وجود وسائل اعلامية متعددة ومتطورة بحاجة الى تطوير حركة الابداع وعلى رأسها الشعر لانه الاقرب للشارع من الفنون الاخرى، ومع تنوعه كفن من حيث الشكل او المضمون سوف يمنحه البقاء والاستمرار. وتؤكد الكواري على تعدد الاصوات في المشهد الشعري والثقافي بشكل عام بقولها: كلما أطفئت الاصوات واختفت اصبح المشهد ناقصا وبحاجة الى اصوات اخرى نتخيلها فلا نستطيع الفصل بين ما نتخيله وبين ماهو موجود بالفعل. هذه هي طبيعة الكتابة، مزيج من هذا وذاك. متسائلة لنا ان نفصل بين الفلسفة والشعر، بين الموسيقى والشعر، بين صوت الطبيعة والشعر، بين الخرافة والاسطورة والمتخيل وبين هذا الكائن المحلق في سمائنا ونقول قف حيث انت، نرفضه ونطرده من مملكتنا لانه تمرد قليلا على لون من ألوان الكتابة الذي هو بالتالي شكل من الاشكال، اختار له شكله الخاص ولونه الخاص. نطرده من مملكة الكتابة ونرفضه ونطلب منه ان يبحث له عن اسم او صوت او هيئة ويأتي. فاذا كان الشعر هذا الطائر المتمرد على الشعر المسمى مبدئيا شعرا، فجماله من هذا التمرد والعصيان والتحليق في فضائه الخاص دون مسمى ودون قيود او أطر او جدران معدنية. وتؤكد الكواري ما ذهب اليه الناقد أسامة الملا وتقول: إن القصيدة الجديدة امتداد للكتابة وليس للون من الالوان او شكل من الاشكال او نوع من انواع التعبير فهي كيان خاص له روح الشعر وانطلاقة السرد وروعة الموسيقى وحبكة القصص وخصوصية السير الذاتية وفتنة السيناريو. انها كيان خاص يحاول ان يفتح الأفق امام حرية التجريب المنفتحة على الفنون جميعها بهيئتها المميزة.