الموضوع الرئيسي في المحادثات التي تجريها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مع القيادات العربية أثناء زيارتها مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية هو موضوع الجمهورية الاسلامية الايرانية. فلهذا الموضوع مد مهم على ملف فلسطين وتسلم حركة"حماس"مهمات تشكيل الحكومة الفلسطينية بعد فوزها في الانتخابات. لكن المد المهم الآخر له هو سورية و"حزب الله"في لبنان. فهذه أول جولة لمسؤول اميركي رفيع بهدف البحث في موضوع ايران في اطاره الاقليمي وليس فقط من ناحيته النووية. ولذلك، فإن حصيلة زيارة رايس ستكون مهمة ليس فقط لجهة ما أنجزته من مشاورات وانما ايضاً لجهة ما تعود به الى واشنطن من أجل وضع الخيارات العملية. فلقد حان للادارة الاميركية ان تأخذ زمام الملف الايراني بنفسها بدلاً من المضي بتكليف الأوروبيين به. وطهران عجلت بطموحات الهيمنة الاقليمية. وواشنطن مطالبة الآن بإيضاح ما لديها من سيناريوات. نسبة الثقة العالمية والاقليمية بهذه الادارة الاميركية ضئيلة جداً. جزء من التشكيك السائد في السياسات الاميركية عائد الى شخصية بعض كبار أقطاب ادارة جورج بوش وأبرزهم نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد. لكن هناك أسباباً جوهرية عدة لافتقاد الثقة بالولايات المتحدة وسياستها نحو المنطقة العربية، بعضها يعود الى الأخطاء الاميركية في العراق وبعضها الى الانحياز التام الى اسرائيل باعتبارها الحليف الاميركي الأهم في منطقة الشرق الأوسط. لكن أحد أهم أسباب عدم تمتع الادارة الاميركية بأي نوع من اطمئنان اصدقائها اليها يكمن في سمعة اكتسبتها السياسة الخارجية الاميركية عبر الادارات وهي: التخلي عن التعهدات، وافتقاد الصبر الضروري لتعلم الملفات، ورسم السياسات بعيدة المدى لها، والتأرجح على أنغام نفوذ زمر عابرة لاعتبارات سياسية ضيقة بدلاً من التفكير العميق في متطلبات اصلاح السياسة الاميركية الخارجية جذرياً. اصلاح ما أفسدته السياسة الاميركية في العراق - والتي لقمها ديك تشيني لجورج دبليو بوش عبر كوندوليزا رايس ونفذها دونالد رامسفيلد - يتطلب، اولاً، الاعتراف بأخطاء السياسة الاميركية في العراق. يتطلب، ثانياً، الاستعداد للمحاسبة وكذلك للاستقالة بعد الاعتراف بالفشل. ويتطلب، ثالثاً، الاقرار بأن الحرب الاميركية في العراق جاءت لتخدم ايران، بعدما خدمت اسرائيل عبر حذف العراق كلياً من المعادلة الاستراتيجية وتدجينه الى ما لا نهاية. واقع الأمر ان ديك تشيني، أبرز مهندسي السياسة الفاشلة وأكثر المغرمين بفكرة"الهلال الشيعي"، لن يستقيل طوعاً. قد يرغم من قبل الحزب الجمهوري لاحقاً على"التمارض"اذا بقي عالة على طموحات الحزب بالبقاء في البيت الابيض. لكن تشيني غير قادر، بمفرده، على التقدم بالاستقالة لأنه لا يعترف أساساً بأنه اخطأ أو بأنه ورّط اميركا في العراق وورط العراق في حرب الارهاب وربما في حرب طائفية. فإذا تم تقسيم العراق أو تشرذم في حرب أهلية طائفية، فهذا ليس فشلاً اميركياً حسب تفكير أمثال تشيني، بل العكس. والفكرة اساساً أخذت في الحساب"فوائد"تقسيم العراق او انهياره وذلك في اطار أحلام وخطط قيام"الحزام النفطي"الممتد في"بترولستان"من شرق السعودية الى ايران في شبه هلال. مستشارو تشيني من العرب نصحوه بالعداء مع السُنة وبالصداقة والتحالف مع الشيعة، ليس فقط انطلاقاً من انتمائهم الديني وانما باعتبار ايران"أمة - دولة"عكس بيئتها العربية. قالوا له ان ايران دولة المؤسسات والحنكة التاريخية وأوحوا له بأن حكم رجال الدين ليس سيئاً بل هو أفضل من حكم العلمانيين أو الجنرالات العرب. ما لم يصارح مستشارو تشيني نائب الرئيس به هو ان ما أرادوه حقاً هو هيمنة ايران على منطقة الشرق الأوسط. ما لم يتوقعوه هو مفاجأة انتخاب الرئيس الثوري محمود أحمدي نجاد الذي"طعنهم"تماماً حيث عملوا لسنوات لاثبات"الولاء"في دعمهم الأعمى لاسرائيل واعفاء اسرائيل من أي تشكيك أو محاسبة. أحمدي نجاد جاء ليعكّر على هذه الزمرة البائسة خططها"العظمى"اذ ان لا مجال للتعايش مع اسلوبه"الاستفزازي". فإما ان يتراجع عن نفيه المحرقة اليهودية هولوكوست وعن تعهده تدمير اسرائيل او لا مجال لهذه الزمرة للمضي في خطط تحقيق الهيمنة الايرانية على منطقة الشرق الأوسط بصورة ما. وزير الخارجية الايراني، منوشهر متقي، بدأ هذا الاسبوع محاولة لاحتواء ضرر أقوال أحمدي نجاد المتكررة، فاعترف بأن المحارق حقيقية ونفى رغبة طهران في"محو"اسرائيل من الخريطة. لكن"مفاجأة"احمدي نجاد أيقظت الادارة الاميركية الى مخاطر ما فعلته عندما راهنت على حكمة ايران وحنكتها وقدمت العراق الى حكامها على طبق. بكلام آخر، ان الثوري محمود احمدي نجاد أطاح سهواً بأحلام وخطط المحافظين الجدد والمتطرفين الاميركيين. فهم صنعوا الحرب في العراق ليس حصراً من أجل مساعدة المعارضة العراقية على اطاحة صدام حسين ونظامه. أحد اهدافهم الاساسية كان تحقيق الهلال الشيعي لضمان الهيمنة الايرانية على المنطقة العربية بأكثريتها السنية، انطلاقاً من وعي وحكمة واتزان حكم الملالي في ايران. لكن الثوري محمود احمدي نجاد أتى كمفاجأة مدهشة لم تكن في الحساب. لو كان ديك تشيني رجل المسؤولية، لاستقال لأنه أساء الفهم وأساء الرهان وأساء تقدير ما ستؤول اليه حربه في العراق، ولو كان دونالد رامسفيلد رجل الشجاعة لاستقال بدوره لأنه الرجل المشرف على الفشل العسكري للولايات المتحدة في العراق وعلى سجون التعذيب والمعتقلات العنصرية غير الشرعية. ما يقوم به هذان الرجلان هو التظاهر بأنهما على حق وبأن ما فعلاه في العراق ناجح الآن واستثمار ثمين في المنطقة مستقبلاً. تشيني، رجل التكتم المفرط، ورامسفيلد رجل التضليل والتحريف، لن يستقيلا على رغم كل الدعوات اليهما للاستقالة. انهما لا يعتذران بل انهما يكابران. أثناء مواجهة وقعت الاسبوع الماضي بين رامسفيلد وكاتبة هذه السطور في"مجلس العلاقات الخارجية"في نيويورك، كان واضحاً استياء الوزير من تجرؤ أي كان على تحديه علناً. فهو كان يحاضر بازدراء وتحقير للإعلام ويتهمه بالتحامل على الادارة الاميركية بسبب عدم الانصياع له في حربه على الارهاب. زعم ان شيمته"الصدق"وأنه لا ينطق سوى ب"الحقيقة"فيما كان يضلل ويحرّف جهراً، بل كان يكذب صراحة. لذلك عندما واجهته بأن معتقلات غوانتانامو ليست مشرّعة الأبواب امام الجميع، كما يقول، وان كتّاب تقرير الاممالمتحدة منعوا من استجواب المعتقلين، عكس ما يدعي، فقد الوزير"الصادق"توازنه قليلاً، ثم استرجع قواه وعاد الى اسلوب المراوغة والهجوم والاستقواء. فلغة التخوين والتدجين مع الاعلاميين لغة"دارجة"في عهد هذه الادارة الاميركية، كما هي"دارجة"في المنطقة العربية. الاستراتيجيات توضع في مختلف بقاع العالم بهدف اخضاع الاعلاميين لتطويعهم وتهديدهم عندما يرفضون التلقين. عندما يتعلق الأمر بسورية ولبنان، هناك من يمارس مهمة التخوين والتخويف والتهديد بصورة حكومات وميليشيات وحتى"قراء"ظهروا فجأة في اطار الدفاع عن عروبة سورية أو مقاومة"حزب الله"ليوجهوا تهم العمالة ويتوعدوا بمصير مماثل لمصير زملاء ذهبوا ضحية الاغتيالات. استخدام الصحافيين اما"طلقة"أو ك"هدف"في حروب الاستقطاب والارهاب والاغتيالات ليس سوى ابتزاز لن يكون مردوده مفيداً. فلا الأخطاء الاميركية في العراق ستزول في ذهن شعوب المنطقة مهما وضع رامسفيلد من استراتيجيات. ولا التجاوزات السورية والايرانية عبر"حزب الله"في لبنان ستمر بلا محاسبة ومحاكمة مهما تم تجنيد"مجهولين"من قراء للتهديد والشتائم والمسبّات. فالاعلام لا يصنع السياسات. انه، بالتأكيد، يؤثر في الرأي العام وفي سياسات الدول أحياناً. لكن الاعلام لا يصنع التاريخ وانما هو شاهد عليه. الذين يصنعون التاريخ وعلى اكتافهم تقع مسؤولية حاضر ومستقبل البلاد وشعوبها هم السياسيون في الحكم وفي المعارضة. لكن من يسمح للسياسيين، أو يعطل عليهم، هم الشعوب ان كانت واعية وحاضرة تمارس المواطنية او ان كانت نائمة أو واقعة في غباء القطيع. ما يحدث في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط يطالب الشعوب بالكف عن الانسياق العاطفي والتفكير التقليدي لأن التحديات والمواجهات الآتية خطيرة. ادارة جورج بوش ضائعة في بعض الأمور وضالعة في أمور أخرى. فالافتراض انها ضعيفة، محاصرة، بلا خيارات نحو ايران أو سورية أو العراق افتراض خاطئ وقصير النظر. كذلك افتراض ان لدى هذه الادارة مخططاً مدروساً. فهذه الادارة تتخبط في سياسات نحو ايران لأنها لم تحسم أمرها من سياساتها نحو العراق. لكن هذا لا يعني انها لا تمتلك خيار سياسة حسم وحزم مع ايران، عسكرياً وديبلوماسياً واقتصادياً. أهم اجراء في قرار المواجهة مع ايران هو اجراء الانسحاب المبكر من العراق. عندئذ يصبح العراق مشكلة عربية أو مشكلة ايرانية أو مشكلة"اسلامية"من ناحية حروب المساجد وحروب"القاعدة"وأبي مصعب الزرقاوي وأتباعه من الذين يستخدمون العراق ساحة في حرب الإرهاب. سيزعم الزرقاوي وستزعم"القاعدة"، وربما ستزعم المقاومة في العراق، أن الانسحاب الأميركي منه نصر لها. الرد هو"فليكن". ذلك أن ادعاء الهزيمة والانتصار في حرب كهذه لا معنى له على الاطلاق. ففي مثل هذه الحرب ليس الانتصار انتصاراً إذا تمثل بالسحق الكامل للآخر. غير ذلك لا يكون سوى معركة رابحة هنا ومعركة خاسرة هناك. فهذه الحرب غير قابلة للانتصار لأنها لن تنتهي بتدمير طرف للآخر كلياً. نعم هناك الاعتبارات الاستراتيجية بعيدة المدى. فإذا اقتضت المصلحة الأميركية في المنطقة استخدام كل أداة لتغيير النظام في إيران بعدما عرّاه محمود أحمدي نجاد، لن تبالي المؤسسة العسكرية الأميركية بما يسميه أيمن الظواهري نصراً أو هزيمة في معادلة المطاردة السخيفة. فضرب العمود الفقري لإيران، إذا برزت الحاجة، أهم بكثير من مطاردة الظواهري في جبال باكستان أو أفغانستان. كوندوليزا رايس تتحدث في جولتها على المنطقة مع القادة العرب بأمور استراتيجية تقفز على التأفف من سياسة تشيني نحو إيران أو أخطاء رامسفيلد في العراق. إنها تفرز الخيارات مع قادة المنطقة نحو إيران، اقليمياً وليس نووياً. فواشنطن سلّمت الملف النووي، موقتاً، الى شركائها الأوروبيين. وجولة رايس مؤشر الى تفكير جديد في واشنطن، فحواه أن التعامل مع إيران لن يكون حصراً في الملف النووي، وإنما حان وقت الفرز الكامل لامتداد ذراع إيران اقليمياً. أخطأت رايس في التسرع الى عزل حركة"حماس"وفي السماح لجولتها بأن ترتكز على حض القيادات العربية على قطع المعونات عن"حماس"كي تختار السياسة على الكفاح المسلح أو العنف أو الإرهاب. فالوقت مبكر للجوء الى خطة"باء"مع"حماس". وكان الأجدى أن تنتظر وزيرة الخارجية الأميركية الى حين استكمال مرحلة"ألف"قبل اقحام"باء"في المعادلة. فالأمر لا يعتمد حصراً وقطعاً على"حماس". فعلى إسرائيل أيضاً أن تتخذ مواقف متبادلة مقابل تغيير"حماس"لانماطها. وطالما تتوجه وزيرة الخارجية الأميركية الى المنطقة مكبلة الأيادي في ما يخص النفوذ والتأثير الأميركي في إسرائيل، لن تتلقى سوى الاعتذار عن عدم تلبية طلباتها. فلا خيار آخر أمام الإدارة الأميركية وأمام الحكومة الإسرائيلية سوى تمكين الرئيس الفلسطيني محمود عباس فعلاً وتقويته حقاً كي يتمكن من التأثير في"حماس"بصورة أو بأخرى. غير ذلك ليس سوى هراء. أما إذا تحدثت كوندوليزا رايس سراً مع القيادات العربية في كيفية التعويض عن النقص المالي في حكومة"حماس"من أجل قطع اعتمادها على إيران، فإنها بذلك تكون فكّرت فعلاً استراتيجياً وبحثت بعمق في سبل اضعاف وسائل النفوذ والاستخدام والهيمنة الإيرانية على القرار الفلسطيني والعربي. "حماس"حلقة مهمة في استراتيجية تفكيك الطوق الإيراني الاقليمي، وهي قابلة للابتعاد عن القبضة الإيرانية إذا جاء البديل بأفضل على الشعب الفلسطيني. لذلك يجدر بالإدارة الأميركية أن تفكر بالاستقطاب وليس بالعزل عن التحدث عن"حماس". يجدر بها فصل الجناح السياسي عن الجناح العسكري في"حماس"والعمل مع قيادات عربية وإسلامية في إطار الدفع بكل من إسرائيل و"حماس"الى التبادلية بالاعتراف بالآخر. أما في ما يخص فك الطوق الإيراني الاقليمي الذي تمارسه طهران عبر"حزب الله"في لبنان وعبر سورية، فإن جزءاً من صعوبته عربي. فهناك شبه فوضى عربية نحو لبنان وسورية يتمثل في"اللاوساطات"و"اللامبادرات"الآتية من أكثر من لاعب عربي. بعض هذه الأدوار يزاوج بين"التهدئة"و"الإسكات"بذريعة التمسك بالاستقرار، وهذا خطأ. فليس من حق أي دولة عربية كانت أن تقول لأي طرف كان داخل أو خارج سورية أو لبنان ان الاستقرار بإسكاته. فهذا تعد على الحق الوطني الديموقراطي بالتعبير وهو أيضاً يناقض المزاعم بالالتزام بالقرارات الدولية.