ليست الولاياتالمتحدة العنوان الأفضل للتأثير في السلوك الإيراني الاقليمي والنووي، وإنما العنوان الحقيقي هو روسياوالصين. اليوم، على الدول العربية الواعية للخطط الإيرانية نحو فلسطينوالعراقولبنان والخليج أن توظف علاقاتها الاقتصادية والنفطية والاستراتيجية بتنسيق جماعي وبلغة المصالح مع كل من موسكو وبكين، بهدف منع الهيمنة الإيرانية على المستقبل والقضايا العربية. واشنطن تبقى مهمة في كل الأحوال وقد تكون الفرصة متاحة الآن للتأثير في الرئيس جورج دبليو بوش ليعيد تبني رؤيته لدولة فلسطينية بجانب إسرائيل تحل مكان الاحتلال بزخم ومفعول ونتيجة ملموسة تؤدي إلى تغلبه على السيرة والسمعة التي أغدقتها عليه أخطاء حرب العراق وحربه على الإرهاب. فلا خوف من خضوع بوش لتوصيات الانخراط مع ايران وسورية من أجل العراق. وبالتأكيد، لا خوف من المقايضات والمساومة معهما على مستقبل لبنان لقاء مصالح أميركية أخرى. لا خوف من أن تساوم واشنطن على مصير المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات الإرهابية، بل إن التحقيق الدولي في هذه الجرائم يحرز تقدماً ويكشف جديداً ويستجوب مشتبهاً بهم. ولدى رئيس لجنة التحقيق سيرج براميرتز أسماء. الخوف هو من تقاعس عربي واتكال على عزيمة الآخرين لمنع إيران من تقرير المصير العربي. فالمطلوب هو العكس تماماً، أي أن تبادر الدول العربية المعنية إلى وسائل غير معتادة وإلى استراتيجيات"هجومية"بلغة المصالح للتأثير في المؤثرين الفاعلين في زمن السياسات النفطية التي تملي المحاور والتحالفات. بالأمس، كانت إيران أكثر حذراً وحكمة، وكان ضرورياً الاعتراف لها بتفوق حنكتها الديبلوماسية وحذاقتها السياسية. اليوم، الحكم في إيران يلقن دروس الإرهاب النفسي والاستغلال والابتزاز، لذلك لم يعد الخوف من الحنكة الإيرانية في محله. سقوط القناع لم يحصل فقط بسبب الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وإنما ايضاً لأن النظام الإيراني بات"سوفياتياً"في أساليب حكمه وتصرفاته ومظاهره. فأي وفد إيراني يرافق مسؤولاً كبيراً إلى نيويورك أو اسطنبول أو دبي يتصرف بأسلوب أكثر سوفياتية من أي وفد سوفياتي في قمة معادلة الدولتين العظميين - الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي - أثناء الحرب الباردة. إنها ديكتاتورية الدين السياسي في طهران. ولن تدوم. ما يديمها، أو يساعد في إطالة عمرها، هو التحالف الروسي - الصيني النفطي الذي يجد في إيران مفتاح افشال التفرد الأميركي بالعظمة. فليس لهاتين الدولتين حلف دائم أبداً مع إيران، وإنما لهما مصالح معها في هذه الحقبة من تاريخهما وتطلعاتهما. اختراق هذه العلاقة ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً. فالتنافس مع إيران في هذه المرحلة يتطلب ذكاء ودهاء والتزاماً وصبراً في استراتيجية يجب أن تكون نابغة ومدهشة. جزء من هذه الاستراتيجية نفطي واستثماري ومالي مبني على المصالح ويجب التحدث به بكل صراحة ومساومة مع الدول المعنية. وجزء آخر يجب أن ينطوي على الفكر ونوعية الحكم وكيفية التجاوب مع الاعتبارات الداخلية لكل من روسياوالصين في ما يتعلق بالبعد الإسلامي لكل من الدولتين. هذا، بصراحة، يتطلب من كبار الدول العربية الفاعلة أن تقلع عن نمط دفن الرؤوس في الرمال في تناولها المسألة الإسلامية، فتوزيع الأموال والسلاح لا يفيد. ولا يتطلب الأمر، بالضرورة، عقد الصفقات على حساب المسلمين سواء في الشيشان أو في داخل الصين حيث الأقلية المسلمة تعتبر من حيث العدد أكثرية في كثير من البلدان. القصد هو أن الزمن وتحديات اليوم تتطلب افكاراً جديدة تقترن بإصلاحات ملحة في الداخل لتصدير أفكار مضادة للنموذج الإيراني إلى الخارج. مثل هذا الاصلاح والفكر والابتعاد عن الديكتاتورية والتصدي للإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام مواقف فائقة الأهمية في العلاقة مع روسياوالصين. فإذا اقترنت مع العنصر النفطي ومع عناصر أخرى من المصالح الاقتصادية الثنائية سيستطيع العرب المنافسة مع إيران لدى هذه الدول الفاعلة. أما إذا قرروا الاستمرار في مكافأة الشركات الأميركية والأوروبية وحدها في صفقات سلاح أو غيرها، فلن يتمكنوا أبداً من مزاحمة إيران، وبالتالي سيخسرون حتى القدرة على شراء الأمن المستورد، لأن إيران ستهيمن عليهم وتقلصهم إلى تبعات. فبدلاً من الانصباب على اقتراحات لجنة بيكر - هاملتون، وما إذا كان جورج دبليو بوش سيأخذ بها وينخرط مع إيران والملحق السوري لها، فان متطلبات اليوم تتحدى القيادات العربية المعنية لرسم استراتيجية مع العمل الدؤوب واليومي والدقيق في الملفات الآنية المطروحة. في ملف العراق، هناك حاجة للتأثير في الورشة الأميركية. وهذا بحد ذاته ليس كافياً طبعاً، إذ أن من فائق الأهمية أن تخوض الورشة العربية في كيفية المساهمة الفعلية في العراق أولاً من أجل العراق، وثانياً لأن ترك العراق لأميركا وإيران يعني نسف النفوذ العربي من مستقبل المنطقة ابتداء من الخليج، فلا يجوز الاكتفاء بالمراقبة والانتقاد بخوف من الانخراط. يجب الآن، وبسرعة، التقدم بخطة عربية تتكون من عناصر ملموسة لانقاذ العراق حتى وإن كلف الانقاذ أرواحاً ودماء عربية وليس فقط الأموال. فهذا ليس انقاذاً لأميركا ولا هو تسديد لنفقات مغباتها، إنه الاستثمار الضروري في العراق بعدما خذل العرب العراقيين في زمن صدام حسين وقبيل الاجتياح وبعد الاحتلال. تقرير بيكر - هاملتون يتحدث عن أهمية القضية الفلسطينية ومركزيتها في إطار معالجة المستنقع الأميركي في العراق. فكرة إبراز مركزية القضية الفلسطينية وضرورة أن تولي الإدارة الأميركية أهمية ذات أولوية لها، فكرة صحيحة، إنما الخطأ في طروحات لجنة بيكر - هاملتون هو خطأ الترابط بمعنى رهن أمر بالآخر. بذلك، تصرف وزير الخارجية السابق وكأنه اختار أن يجمّد نفسه في أوائل التسعينات عندما كان نجم السياسة الخارجية الأميركية وتمكن من عقد مؤتمر مدريد للسلام. تصرف وكأنه تغيب عمداً أو غاب سهواً عن التطورات الاخيرة على الساحات الفلسطينيةواللبنانية والسورية. تجاهل بيكر وفريقه التدخل الإيراني في فلسطين وبالذات التقويض المنهجي للسلطة الفلسطينية ورئاستها المتمثلة في محمود عباس واقترانه بالدعم المالي والسياسي لحركة"حماس"مع استضافة قادتها وإكرامهم بمئات ملايين الدولارات. لجنة بيكر تتحدث في توصياتها عن عناصر ضرورية لتحقيق رؤية الدولتين، أبرزها انخراط الولاياتالمتحدة جدياً في الدفع نحو تسوية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وحسناً فعلت، لأنها أعادت إلى الذهن الأميركي ضرورة معالجة القضية الفلسطينية كأساس وحاجة ماسة في السياسة الاميركية نحو منطقة الشرق الأوسط. الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان طرح - وإن متأخراً - عناصر الدور الدولي الضروري في دفع المسألة الفلسطينية إلى الأمام. توصيات أنان وبيكر في الشأن الفلسطيني - سوية مع المبادرة الاسبانية - الفرنسية - الايطالية لعقد مؤتمر دولي، اضافة الى زيارة رئيس الوزراء البريطاني توني لبير إلى المنطقة، وتحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت عن المبادرة العربية التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وتبنتها القمة العربية في بيروت، يجب أن تشكل كلها أرضية للبناء عليها فلسطينياً وعربياً. مندوب فلسطين لدى الأممالمتحدة رياض منصور التقط الفرصة اثناء حفل غداء جمعه مع الدول الأعضاء في مجلس الأمن ومع كوفي أنان وفريقه، وبنى على تقرير أنان كمدخل إلى مؤتمر دولي ومراقبين دوليين وآلية مراقبة دافعاً نحو لحظة الاستفادة عبر تقارير أنان وبيكر والتحركات الأوروبية والفرصة السانحة لربما أميركياً. المطلوب الآن من القيادات العربية أن تدعم الاستفادة من الفرص المتاحة لا سيما إذا دعا محمود عباس إلى انتخابات مبكرة لحل الأزمة مع"حماس"، وبالذات لأن جورج دبليو بوش قد يكون حالياً في أشد الحاجة إلى انقاذ سمعته التاريخية من فشل العراق عبر نجاح في قضية فلسطين، قد تساعده في تغيير الرأي العام العربي نحو العراق والحرب على الإرهاب. وهنا ايضاً، الحاجة ماسة إلى ورشة تفكير في استراتيجية عربية لاستفادة من الظروف المتاحة في شأن القضية الفلسطينية مدخلها حاجة بوش إلى"سمعة تاريخية"، وحاجة إسرائيل إلى انقاذها من الورطة التي ادخلتهما فيها سياساتهما الفاشلة. أما في ما يخص ما جاء في تقرير بيكر - هاملتون عن ترابط بين مسارات السلام العربية مع إسرائيل، فإنه كلام سيئ وليس مجرد هراء. فلقد ارتكب بيكر وفريقه خطأ فادحاً عندما قال إن هدف الدعوة إلى اجتماعات تدعو إليها الولاياتالمتحدة أو"اللجنة الرباعية"المكونة من الولاياتالمتحدةوالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا هو التفاوض على سلام"كما حدث في مؤتمر مدريد عام 1991، وعلى مسارين منفصلين أحدهما المسار السوري - اللبناني والآخر فلسطيني". جيمس بيكر يبدو وأنه كان في سبات في السنتين الماضيتين لأنه لم يدرك أن ما حدث في لبنان عبارة عن استقلال لبناني عن سورية على رغم رفض دمشق القرار والاعتراف والموافقة على هذا الاستقلال. أما إذا كان أدرك ذلك وفهمه، فسيكون ما جاء في تقريره اسوأ بأضعاف، وعليه أن يستدرك حالاً وأن يكف أخيراً عن اعتبار لبنان ملحقاً لسورية وعن التمسك بتلازم المسارين اللبناني والسوري في المفاوضات مع إسرائيل بنوع من اخضاع لبنان للاعتبارات السورية. لقد اخطأ جيمس بيكر في اقحام سورية كمنقذ للعراق في الوقت الذي أقر فيه انها جزء من تفاقم المشكلة العراقية. واخطأ تكراراً عندما قفز على السنتين الاخيرتين في العلاقة اللبنانية - السورية وللتأكيد، فإن التوصية الرقم 15 من تقرير بيكر والتي تحدثت عن"بعض عناصر التسوية السلمية المعنية بسورية"تطرقت الى الآتي:"التزام سورية الكامل بتنفيذ القرار 1701 الذي يوفر اطار استعادة لبنان لسيادته على اراضيه"..."تعاون سورية الكامل مع جميع التحقيقات في الاغتيالات السياسية في لبنان، وبالذات رفيق الحريري وبيار الجميل"... توقف سورية، والتحقق من ذلك، عن مساعدة"حزب الله"وعن استخدام الاراضي السورية كمعبر لشحن الاسلحة الايرانية لمساعدة"حزب الله"... استخدام سورية نفوذها على"حماس"و"حزب الله"لاطلاق سراح السجناء الاسرائيليين.. التحقق من توقف الجهود السورية الرامية لتقويض الحكومة اللبنانية المنتخبة ديموقراطياً... التحقق من التوقف عن شحن الاسلحة من او تسهيل الترانزيت عبر سورية الى"حماس"وغيرها من الفصائل الفلسطينية الراديكالية... التزام سورية بالحصول على اعتراف"حماس"بحق اسرائيل بالوجود... وبذل جهود سورية اكبر لاغلاق الحدود مع العراق"امام التسلل. ما يجدر بفريق بيكر ان يتقدم به الآن هو توصيات لاحقة وفورية عما يجب على واشنطن القيام به فيما اذا رفضت دمشق تلبية ما عرضه من شروط. بكلام آخر، يجب ان يطالَب بيكر من جانب العرب، ان يستيقظ الى اهمية ما يحدث في لبنان والى دور ايران فيه وان يستمع ملياً الى الرسالة التي بعثتها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في حديثها الى وكالة الصحافة الفرنسية وهي: ان مستقبل لبنان"لن يكون موضع تفاوض، وان"من غير الوارد ان تصل الولاياتالمتحدة الى وضع يوحي لسورية وايران انه من الممكن المساومة على مستقبل لبنان"أو على مصير المحكمة الدولية. وان"لا مجال اطلاقاً ان توافق الولاياتالمتحدة او الاسرة الدولية على اعادة النفوذ السوري الى لبنان". تقرير بيكر مهم بلا شك حتى بعدما حطمته مختلف الجهات العراقية وقزمته الادارة الاميركية. التقرير الأهم، لبنانياً، هو تقرير براميرتز الذي قال باختصار انه في صدد جميع المسامير لدقها دولياً في كفن الذين ظنوا ان الاغتيالات السياسية ستمضي مرة أخرى بلا محاسبة. فليستعدوا لخيارتهم الآتية.