لم تأتِ جولة الرئيس باراك أوباما الآسيوية عليه بزخم القيادة التي يود استعادتها بعدما انحسر كقائد خطف أنفاس العالم قبل مجرد سنتين. انتكاسة باراك أوباما لم تقتصر على نتائج الانتخابات النصفية الأميركية وإنما لها شق فائق الأهمية على الساحة الدولية. لذلك لم يستمع الرئيس الأميركي الى نصائح إلغاء جولته الى الهند وأندونيسيا والصين وكوريا الجنوبية للمشاركة في قمة مجموعة الدول العشرين كي يتفرّغ للمسائل المحلية حصراً. ذهب الى الهند ليوجه رسالة الى الصين وليس فقط لأن الهند بحد ذاتها شريك استراتيجي مهم جداً للولايات المتحدة. ذهب الى أندونيسيا ليس فقط لأنها أكبر دولة إسلامية وإنما أيضاً لأنه أراد إحياء بعض ما أتى عليه ببريق عندما خاطب المسلمين قبل سنة ونصف السنة من القاهرة. في الصين سار باراك أوباما على أكثر من حبل مشدود، لا سيما أن بكين استمعت الى الرسالة التي بعثها من الهند إليها وخلاصتها أن هناك خيارات أخرى في مجال الشراكات الاستراتيجية الكبرى أمام الولاياتالمتحدة، وليس صحيحاً أنه ليس أمام واشنطن سوى الانصياع لما تريده بكين، ثنائياً وإقليمياً أو دولياً. ثم استعد باراك أوباما الى قمة مميزة في سيول لأنها تتحدث لغة الاقتصاد والأزمات المالية وما هي السبل المتاحة للخروج منها. إنما في كل مكان ذهب إليه الرئيس الأميركي، لاحقته الملفات الساخنة التي سكبت الماء البارد على قيادته لأنها أفشلته عمداً ووضعته رهينة إملاءات اللاعبين الأصغر. فإسرائيل أفشلت باراك أوباما في إجراءات تحجّم طموحاته السياسية عملياً كما تحجّمه في الانطباع العالمي. إيران وسورية أفشلتا باراك أوباما وجعلتاه يبدو ساذجاً باعتناقه سبيل المسايرة والاحتضان والحوار معهما ليتلقى صفعة وراء الأخرى من كل منهما في العراق وفلسطين ولبنان. لبنان تحوّل فجأة الى ساحة لمعركة مفتعلة بين «حزب الله» وبين إدارة باراك اوباما، أي، بين منظمة مسلحة وبين الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ثم هناك الطرود المفخخة التي كادت تسبب كوارث لولا المعلومات الاستخباراتية السعودية، وهناك اليمن الواقف على كف عفريت بسبب تحوله الى مرقد عنزة «القاعدة» المتطورة علمياً والقادرة على تصنيع طرود مفخخة من هذا الطراز. ولأن لجميع هذه الملفات تأثيراً على باراك أوباما، رئيساً وقائداً، كما على المصالح الأميركية - مهما بدا للأميركيين العاديين بأنها قضايا لا تهمهم - ازداد الكلام عن إمكانات تحدث الرئيس الأميركي بلغة «وإلا» كي يُؤخذ بجدية في أعقاب الانتكاسة. برز كلام عن نوعية الخيارات المتاحة في مجال «العواقب». ثم أتت مذكرات الرئيس السابق جورج دبليو بوش لتوحي للرئيس الحالي ببعض الخيارات، إذا أراد استخدامها. إنما ليست كل الخيارات عسكرية، ولا هي حصراً في إجراءات عقوبات ثنائية أو دولية. فهناك وطأة مهمة لمفاجأة الإجراءات التي لا ينتظر أن تأتي من باراك أوباما. وهناك إجراءات قد لا تكون ذات «أسنان» عملياً وآنياً لكنها تضرب الصميم وتوجعه. اليوم أكثر من أي وقت مضى، يحتاج الرئيس باراك أوباما الى الحزم بإجراءات جازمة، إنما قبل أن يفعل ذلك، إنه في حاجة لمراجعة صادقة لسياساته كي يستنتج هو بنفسه ماذا كان محقاً فيه وكيف أخطأ. جورج دبليو بوش قد لا يدرك أن هناك تناقضاً ضخماً في قوله إن أسباب حربه على العراق خاطئة إنما قراره بخوض الحرب لم يكن خاطئاً. مبررات الحرب خاطئة إنما قرار الحرب صائب بصرف النظر عن كون الذرائع مختلقة وبلا أساس؟ بوش يقول إنه ما زال يشعر بالغثيان عندما يستذكر أن الحرب - التي أسفرت عن قتل مئة ألف عراقي - بحجة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، كانت شبه غلطة لأن الولاياتالمتحدة اكتشفت - بعد الحرب - انه ليس في العراق أسلحة دمار شامل. ما لم يتحدث عنه جورج دبليو بوش هو ما إذا كان يعلم حقاً، ومسبقاً، ان حرب العراق كانت أساساً من أجل إسرائيل وإيران. يقول إن التاريخ سيتحدث عما حدث أثناء رئاسته وإننا لن نعرف ماذا سيسجل التاريخ حينذاك. لو كتب نائبه ديك تشيني مذكراته بصدق، ولو فعل ذلك أيضاً وزير دفاعه دونالد رامسفيلد، لاستفاد جورج دبليو نفسه وعلم ما إذا كانت حرب العراق عمداً وأساساً وبقرار مسبق هدفت الى تقوية إيران في المنطقة وإلى نسف العراق تماماً من المعادلة الاستراتيجية العسكرية بين العرب وإسرائيل. لقد كان العراق، قبل تدمير نسيجه الاجتماعي عبر عقوبات إدارة بيل كلينتون، وقبل تدميره في حرب جورج دبليو بوش، يشكل الهمّ الأكبر لإسرائيل بسبب قدراته العسكرية. كان ذلك العراق أيضاً حليفاً للولايات المتحدة يتلقى مساعداتها في حربه مع إيران لصدّ تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية الى دول الخليج المجاورة. كان الرئيس صدام حسين، الذي خلعته الولاياتالمتحدة لاحقاً، يعتبر نفسه شريكاً لا يُستغنى عنه لدى الأميركيين بعدما جعلوه يشعر بأنه فوق الاستغناء. حرب بوش في العراق دمّرت العراق في المعادلة الاستراتيجية مع إسرائيل وقوّت الجمهورية الإسلامية الإيرانية عمداً. السؤال الذي يجب الإجابة عليه اليوم هو هل ما زال القرار الأميركي الأكبر هو المضي في تقوية حكم الملالي في إيران وتمكين الجمهورية الإسلامية من تصدير ثورتها وفرض هيمنتها الإقليمية، أم لا؟ باراك أوباما ورث ما فعله جورج دبليو بوش في العراق. ركّز كلياً على «خطأ» الحرب في العراق وتعهد بعدم تكرار ذلك «الخطأ» في إيران، ولذلك ركز على الناحية السياسية والديبلوماسية في شبه استبعاد - وليس استثناء - للخيار العسكري. ما لم يفعله أوباما هو القراءة العميقة للخريطة السياسية في منطقة الشرق الأوسط في أعقاب حرب بوش والتمعّن في ماذا كان في أذهان أقطاب إدارة بوش من وراء المعادلات الجديدة. إسرائيل اليوم، مثلاً، ليست واضحة تماماً في موضوع إيران. فمن جهة، تصدر التصريحات والمواقف العلنية التي تدعو الرئيس الأميركي أن يستخدم لغة «العواقب» الجدية مع إيران لإجبارها على التوقف عن برنامجها النووي. ومن جهة أخرى هناك شبه صرف نظر وانحسار ملحوظ لقلق إسرائيل من امتداد وتوغل الاخطبوط الإيراني في منطقة الشرق الأوسط حتى الحدود مع إسرائيل. ليس واضحاً أن كان ما يجرى داخل إسرائيل وفي المواقع اليهودية الأميركية والدولية الفاعلة هو تنسيق ولعب أدوار أو هو حقاً انقسام. فمن جهة، يدق فريق طبول الرعب ويقول إن امتلاك إيران السلاح النووي يهدد وجود وبقاء إسرائيل ولن يمكن أبداً التعايش معه. وهذا الفريق يعارض الاكتفاء بعقوبات دولية وثنائية ويرى أن مطلع أو منتصف العام المقبل، 2011، يجب أن يكون موعد الحسم العسكري، إن كان عبر ضربة عسكرية للمفاعل النووي الإيراني أو عبر حرب بالوكالة مع إيران عبر «حزب الله» في لبنان. ضربة عسكرية اسرائيلية تورّط الولاياتالمتحدة، أو تغيير جذري في السياسة «الأوبامية» يفاجئ الذين راهنوا على صبر باراك أوباما. الفريق الآخر داخل المعسكر الإسرائيلي واليهودي الأميركي يقول إن الضربة العسكرية هي أسوأ من التعايش مع إيران نووية. والسبب، بحسب هؤلاء، هو أن مثل هذه الضربة - لا سيما إذا كانت بتوريط إسرائيلي للولايات المتحدة - ستطلق عنان الكراهية الأميركية لليهود و «العداء للسامية» كما ليس من قبل. يقولون إن تكلفة مثل هذه الضربة باهظة، اقلها لأنها ستؤدي الى إسقاط إسرائيل من مرتبة الطفل المدلل لأميركا لأنها ستُحمَّل مسؤولية انهيار الاقتصاد الأميركي بسبب ما سيعقب العمل العسكري من إجراءات إيرانية تضرب النفط. لمن سيستمع باراك أوباما، وهل لديه خيارات أخرى للجم إيران عن تحدياتها النووية وطموحاتها بالهيمنة الإقليمية؟ ربما زيارة أخرى للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد توقظ إدارة أوباما الى التنبه لضرورة القراءة الدقيقة لما في أذهان القيادات الإيرانية. فلقد أدت زيارته لبنان الى يقظة لإدارة أوباما أسفرت بدورها عن تقويض اندفاعها الأعمى نحو إصلاح العلاقة مع سورية بأي ثمن كان طالما تلوح في الأفق إمكانية سلخ سورية عن إيران. ولعل زيارة أحمدي نجاد - إذا لبّى الدعوة - الى غزة توقظ إدارة أوباما الى البعد الاستراتيجي العميق للجمهورية الإسلامية الإيرانية. تطورات لبنان الأخيرة قوّضت نظرية «السلخ»، لا سيما أن تصريحات الإدارة الأميركية العلنية اتهمت سورية بتقديم السلاح الى «حزب الله» ورافقتها لهجة اقتربت من التحذير، متجنبة الإنذار ب «وإلا» الواضحة. فإدارة باراك أوباما ما زالت في خضم فرز سياساتها بعدما ركنت الى «صحة» عقيدة الاحتضان والمسايرة والحوار كالوسيلة الوحيدة لإحداث التغيير والتفاهمات. فبعدما أصيبت إدارة أوباما بخيبة أمل نتيجة اعتزام اللاعبين إفشال سياساتها، بدأت إعادة النظر. ولكن، من دون أن تقطع خيوط الحوار وراء الكواليس بلهجة تترك الطرف الآخر يعتقد أن لسان حال الإدارة الأميركية العلني هو لمجرد استيعاب الانتقاد فيما قلبها ما زال متسامحاً. إلا أنه يزداد تحذير المراهنين على صبر أوباما، وعلى عدم امتلاكه خيارات الحرب، من أن أمامه عنصر المفاجأة وإجراءات غير اعتيادية. فمع سورية، مثلاً، لا يحتاج أوباما أكثر من قطع شعرة معاوية مع دمشق لإفشالها كما أفشلته، مع العلم أن أكثر ما تريده القيادة السورية هو التواصل والعلاقة الخاصة مع الإدارة الأميركية. هناك من يتحدث عن إجراءات ضد سورية في مجلس الأمن، إذا كررت دمشق أخطاء الماضي وأفرطت في إساءة الحسابات في لبنان. وبحسب هذا الحديث، حتى وإن لم تنجح جهود أميركية في استصدار قرار يفرض العقوبات على سورية، فمجرد مبادرة إدارة أوباما الى مثل هذا الإجراء يشكل ضربة موجعة في الصميم. أما إذا قام «حزب الله» بانقلاب على الحكومة اللبنانية، فهناك أيضاً مجلس الأمن كميدان لتقويض «حزب الله» عبر عقوبات اقتصادية وعسكرية تكبّل «حزب الله» ولبنان معاً. كذلك مع إسرائيل، أمام إدارة أوباما سبيل مجلس الأمن مع العلم أن هناك شبه جاهزية عالمية لاستصدار قرار عن مجلس الأمن يحدد الدولة الفلسطينية ويضع إسرائيل في عزلة تامة بعدما أحبطت الكل برفضها وقف الاستيطان، ولو موقتاً. ايران تقع تحت نظام عقوبات يفرضه مجلس الأمن إنما هناك دعوات، كتلك التي توجهت بها الإيرانية والحقوقية الدولية شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، لاستصدار قرار عن المجلس يدين سجل طهران في حقوق الإنسان ويوصل «صوت الشعب الإيراني والمعتقلين السياسيين الى العالم الخارجي». الخطط العسكرية موجودة، كما قال بوش في مذكراته، إنما خيارات أوباما ليست فقط عسكرية حصراً بالضرورة.