تعترف لجنة بيكر - هاميلتون ان "لا حل سحرياً لأزمة العراق"، وربما كانت تلك الحقيقة الكاملة النادرة التي ضمها تقرير مجموعة الدراسة حول العراق الذي وعد الرئيس الاميركي جورج بوش بپ"التعامل معه بجدية"على رغم"قسوته"وما عدا ذلك فان مجموعة الدراسات برئاسة وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر وعضو الكونغرس الديموقراطي لي هاملتون خلصت الى مجموعة كبيرة من التوصيفات والتوصيات 79 بنداً دارت في معظمها حول الحقائق الرئيسة في العراق، والمنطقة ربما لضمان عدم تفجير أزمة حزبية وشعبية كبرى، وان كانت شكلت في العموم سعياً أميركياً للبحث عن بوصلة ما في"المتاهة العراقية"عبرت عنه بالبحث عن"النجاح"في العراق حتى لو كان ذلك عبر تحقيق"انسحاب مشرف"بديلاً من"نصر"صار من المستحيلات. الرئيس الأميركي جورج بوش الذي استنفد فرص"الهروب الى الامام"في محنته العراقية سيجد في تقرير بيكر - هاميلتون إذا أراد نسقاً هروبياً من قماشة عملية"حرية العراق"التي تحولت الى كارثة. فلا جدولة زمنية للانسحاب تقترحها اللجنة ولا اعترافات جوهرية بسلسلة"الاخطاء"أو"الجرائم"أو"الاكاذيب"التي اشتملتها الاستراتيجية الاميركية منذ احتلالها العراق في نيسان ابريل 2003 وقادت الى ما نحن عليه الآن. اللجنة لم تتطرق أيضاً الى رؤية دقيقة حول مفهوم المصالحة في العراق ولم تناقش أسس هذه المصالحة ومنطلقاتها المبدئية حيناً والبراغماتية حيناً آخر، وهذا الإغفال هو ما يمكن ان يستعيره الرئيس الأميركي مجدداً لإسقاط أخطاء إدارته على الجهات السياسية العراقية وتوابعها العسكرية وهنا يمنحه التقرير هامشاً مناسباً للتحرك في اطار"الضغط على الحكومة العراقية لتحقيق التقدم"أو"قطع المعونات الاقتصادية والسياسية والعسكرية عنها". الهروب من المأزق وعلى رغم ان الصيغة الأخيرة تقر ضمناً بضرورة إجراء استدارة كاملة في"العملية السياسية العراقية"المدعومة أميركياً، فهي تتضمن أيضاً إعادة الأمور الى المربع الأول وإلغاء الخطوات السياسية التي تفسر في النطاق الأميركي والعراقي"ضمناً"بأنها السبب الجوهري لتصاعد العنف الطائفي ليصل الى حافة الحرب الأهلية أو ليتجاوزها الى ما هو اكثر خطورة على غرار"الانفجار المذهبي"الذي أخذت توابعه تصيب المنطقة برمتها. إلا أن ذلك لا يلغي ان قراءات أخرى تشير الى تعزيز"الهروب الاميركي"نحو السماح بسطوة سياسية وعسكرية لجهة على حساب أخرى تضمن هدوءاً مرحلياً يساعد على الانسحاب لكنه لا يضمن عدم تفجر الأوضاع على المدى القريب. التقرير تجنب الخوض في فرضية تقسيم العراق وان كان حذر من"الانحدار نحو الفوضى ما يمكن ان يؤدي الى انهيار الحكومة العراقية وحدوث كارثة انسانية. و..."تدخل الدول المجاورة"ثم عرج في سياق تحذيراته الى ان تنظيم"القاعدة"قد يكسب نصراً دعائياً وقد يوسع قاعدة عملياته ما يضعف مركز الولاياتالمتحدة العالمي". والصياغات الأخيرة تمنح الرئيس الأميركي حيزاً جيداً للحركة انطلاقاً من فرضية"الصراع مع الإرهاب"التي عكفت الادارة الاميركية على"أدلجتها"وكانت في الواقع تحريفاً"شوفينياً"للتاريخ وقراءة إقصائية للعرب والمسلمين وحق المقاومة والوجود، وأساساً مباشراً لاستعار الصراع الطائفي في العراق تحت بند تفجير التوازنات المذهبية في المنطقة لمصلحة إضعاف جبهات المواجهة. والخطورة على الارض في العراق تتمثل في ان محاولات"تقزيم"المنهج المسلح الداعي الى"المقاومة"عبر ربطه بپ"السنّة وانصار صدام"بديلاً من ربطه بپ"القاعدة"وهو ما درج عليه الخطاب الاميركي وخطابات الحكومات العراقية المرتبطة به لن يفرغ هذا المنهج من محتواه تماماً كما لم تغير الأكاذيب التي ساقها سياسيون وعسكريون اميركيون بصدد حديثهم عن"التقدم"أو"النصر"وپ"انجاح الانتخابات"وپ"صوغ الدستور"وپ"نقل السيادة"وپ"اعتقال إرهابيين"وپ"محاكمة صدام"وپ"قتل الزرقاوي"والخ... شيئاً في معادلة الدم السائدة، بل زادتها تعقيداً عبر تنويع أطرافها وخلق مقومات جديدة لاستمرارها. في هذا الصدد تأتي أيضاً دعوة التقرير الى"المصالحة الوطنية والأمن وحسن الإدارة"وإلقاء ذلك على عاتق الحكومة العراقية المطالبة أيضاً بالتصدي لميليشيات لن تتمكن. ويبدو الحديث عن مضاعفة"سريعة"للقوات الاميركية التي تعمل على تدريب القوات العراقية متزامناً مع سحب تدريجي"للقوات القتالية"بحلول عام 2008 في نطاق رؤية استراتيجية واقعية. لكن ذلك لا يعبر عن"إرادة حل"كونه يحصر مشكلة القوات الاميركية في العراق في إطار تواجدها العسكري ويختصر الأسئلة بسؤال وحيد عن كيفية خفض نسبة القتلى الاميركيين، غافلاً أسئلة جوهرية اخرى من نوع"ما حاجة القوات العراقية الى مدربين؟"وپ"ما مستقبل الوجود العسكري الاميركي في العراق؟"وپ"كيف ستضمن القوات المدربة أمنها؟"وپ"هل تتدخل في خيارات وتوازنات وعقيدة القوات العراقية؟"وپ"كيف سيتم ضمان ولاء تلك القوات؟". تقرير بيكر - هايلتون دار أيضاً حول تلك الاسئلة وطرحها ضمناً عبر جدليتين لا يمكن الاقتصار في قراءتهما استناداً الى معطياتهما الصياغية، تذهب الأولى الى ان"خسائر حرب العراق"اقتربت من"تريليون دولار"أو تجاوزته"كثيراً"فيما تحض الثانية بوش على إرسال رسائل تنص على ان نفط العراق والمنطقة ليس هدفاً أميركياً وبين هذه وتلك تأتي الإشارة الى فقدان قرابة بليون دولار شهرياً من عوائد نفط العراق من دون الإشارة الى الجهة المستفيدة. بيكر رجل الأزمات لدى"عائلة بوش"حرص على عدم محاصرة الرئيس الأميركي بالنتائج والتحديات والأزمات لكنه كان حريصاً على ما يبدو على فتح باب أمام التغيير، وربما كانت إشارة التقرير الى حزمة المشاكل المترابطة في الشرق الأوسط انطلاقاً من القضية الفلسطينية ودعوته الى حوار مع إيران وسورية في سياق الحل في العراق في هذا السياق، على رغم معارضة معلنة للرئيس لمثل هذا الحوار، وفي سياق طرح الأزمة من أوجهها المتعددة وترك الخيارات مفتوحة وقابلة للانتقائية ويصاحبها الكثير من التحذير من تراجع أميركي هائل على المستوى العالمي يخرج للعلن أميركياً ويقلب صفحة القوة التي لا تقهر عبر رؤية تتوخى الموضوعية والبحث عن الحاجة الى الآخر لضمان أمن أميركا وهيبتها. المعادلة الدقيقة التي سار عليها التقرير عبر الاعتراف بإنصاف أخطاء وطرح انصاف حلول وتلمس انصاف حقائق وترك هامش حركة للسياسة الاميركية الحالية، لهذه المعادلة مردودها السلبي لناحية تعليق الأزمة بديلاً عن مواجهتها وتدوير الخريطة بديلاً عن تعديل البوصلة، لكنها في النهاية تعكس حراكاً مطلوباً في النهج وتراخياً في زخم القوة العظمى واعترافاً بنهاية سريعة لمرحلة ما بعد احداث أيلول سبتمبر 2001 تمهيداً لاعتراف قادم بنهاية مرحلة ما بعد انهيار القطب السوفياتي. إقليمياً تسهل القراءة غير المتأنية للتقرير من دول في المنطقة فهماً قد يؤدي بها الى مزيد من المساعدة على تفجير الأزمة في العراق على اعتبار ان ذلك سيقود الى المزيد من المكتسبات في مفاوضات مرتقبة وعلى ذلك فان سقوط إيران وسورية في فخ التفاهم المشترك أو المنفرد أو عبر مؤتمر دولي أو إقليمي مع الاميركيين على"الكعكة العراقية"خارج التفاهمات الإقليمية وبعيداً من مصالح شعب العراق سيكون له وقع كارثي على العراق غير القابل للقسمة على ثلاثة. وتجدر هنا الإشارة الى تصريحات الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد عشية الإعلان عن تقرير بيكر - هاميلتون والتي قال فيها ان"الدول الجائرة غاضبة منا. كانت تظن انها قادرة على السيطرة على العالم لكن في الجهة الأخرى من كوكب الأرض ثار شعب واثبت ان سلطتها وهمية". وأضاف"انكم غاضبون منا لكننا نقول لكم اغضبوا واستشيطوا غضباً. وكونوا واثقين انكم لو لم تهتدوا بالله فان مصيركم الهلاك". وتابع ان الشعب الإيراني"سيقاوم حتى النهاية"للدفاع عن حقه في امتلاك برنامج نووي. أصبحنا قريبين جداً من القمة النووية وسننظم بحلول نهاية السنة الإيرانية التي تختتم في 20 آذار/ مارس احتفالاً كبيراً لمناسبة امتلاك ايران القدرات النووية". وكل ذلك يأتي في سياق ما عكفت عليه سياسة ايرانية تحاول الخروج من الخطاب الملمح الى دور في النسيج الاجتماعي والمذهبي العراقي بهدف تحقيق مكاسب نووية وهيمنة اقليمية عبر خطاب"يروج"لهذه السياسة باعتبارها"نصراً"جاء نتيجة"الصمود"ومثل هذا الخطاب مع فروق منهجية يمكن قراءة بعض ملامحه في سورية أيضاً. والواقع ان تقرير لجنة بيكر - هاملتون غير الملزم أميركياً ليس منهجاً استراتيجياً ولا يحمل رؤية للمستقبل ناهيك بكون علانيته أو في الأقل علانية جزء منه لا تمنحه بعداً مؤثراً في طبيعة الدور الاميركي تجاه العراق المرتبط بالضرورة بسياسة عامة في المنطقة والعالم. ولا تجدر قراءته بغير أطره الباحثة عن سياسة يجدر استثمارها عراقياً وعربياً ودولياً في سياق البحث عن مخارج للأزمات المغلقة بعيداً من حسابات النصر. عراقياً ستعكس ردود الفعل على التقرير نمطا يكاد يكون بدائياً في التعامل مع الأزمات فرئيس الحكومة سيعتبر الإشارة الى تدريب القوى الأمنية"نصراً"وسيرى في تحميل حكومته وزر الفشل الاميركي والميليشيات والإرهاب"تراجعاً"والسياسيون في العراق لن يقرأوا التقرير بالضرورة إلا من زاوية اقترابه عن مكاسبهم في نطاق المذهب والقومية وسيتحدثون عن"الدستور المقدس"وپ"منجزات العملية السياسية"وپ"الارهاب"وپ"الحكومة الشرعية"وپ"القوى الأمنية غير المنحازة"وسيعتبرون الحديث عن حرب أهلية"محض مبالغات"وسينفون"تلقيهم الدعم للتصعيد الطائفي من هذه الجهة أو تلك"وسيعلقون المشكلة على عاتق"الصداميين والتكفيريين". في المقابل ستعتبر القوى المعارضة التقرير وما جاء به من اعترافات"انتصاراً"وستعتبر الإشارة الى دعم الحكومة"اقصاء"وستصعد العنف بحثاً عن مكاسب تفرضها مرحلة التفاوض وتحمل"جيش المهدي"وپ"مليشيا بدر"وپ"إيران"جل المسؤولية عن انهار الدم في العراق وسوف تستمر أيضاً في إهمال دور"القاعدة"ودول إقليمية. والمعادلة المبنية على الإقصاء والدم والابتعاد مستمرة حتى إشعار آخر بمباركة أميركية وضلوع إقليمي ودولي.