تريث بهاء طاهر حتى بلغ ذروة إبداعه في السبعين من عمره، قبل أن يطل على ميدان تخصصه الأصلي في التاريخ فيصب فيه خلاصة عشقه لوطنه، وإدراكه لعبقرية مكانه، كما تتجسد في كل رقعة من خريطته، وكل لحظة مفصلية من زمانه. على أنه كاتب مقلّ نسبياً، بدأ نشر أعماله في الخمسين بعدما استحصدت رؤيته الثقافية، ونضج حسه الدرامي في العمل الإعلامي والمؤسسات الدولية، فأخذ شغفه بالقصة يمتد نفساً في الأعمال الروائية منذ"شرق النخيل"و"قالت ضحى" في الثمانينات حتى"خالتي صفية والدير"وپ"الحب في المنفى"في التسعينات وپ"نقطة نور"عام 2001، وأخيراً في روايته المثيرة الجديدة"واحة الغروب"بمعدل رواية كل خمس سنوات تقريباً. اختار بهاء طاهر واحة"سيوه"كي يبعث إليها بأشواقه ومواجد الغروب، على اعتبار أن"الأفق الغربي عند قدماء المصريين هو مملكة أوزيريس، مملكة الموتى وأرض الحساب التي اعتقدوا أنها في مكان ما في الصحراء الغربية. وبما أن سيوه في أقصى الغرب من مصر فلعلهم اعتبروها أيضاً آخر محطة تغرب فيها الشمس عن الدنيا"مع الأخذ في الاعتبار أن الغروب عندهم ليس مرادفاً للموت، بل هو قرين الخلود، كما يقول الكاتب. وقد اختار لروايته أصواتاً عدة، أولها وأحفلها بالدرما هو محمود عزمي الاسم الحقيقي لمأمور الواحة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر،"وإليه نسب عمل رهيب ترك أثراً باقياً في الواحة، وباستثناء ذلك - كما يقول المؤلف في تصدير الرواية - لا توجد أي معلومات عن هذا المأمور أو عن سيرة حياته". ومعنى ذلك أن الرواية تقع في منطقة متاخمة للتاريخ، لكنها ليست منه في شيء، بل هي من قبيل"التخيّل التاريخي"وهو لون من الإبداع الفني الذي يستحق وصف أرسطو له بأنه أصدق من التاريخ. كما ينطبق عليه تصور لوكاتش بامتلاك جوهر الواقع في الماضي والحاضر على السواء، باعتباره سرداً سياسياً في المعنى العميق للكلمة، يتم فيه تمثيل حركة الحياة وتفاعل قواها المحتدمة في بؤرة النفس والمجتمع معاً. الوعي الشقيّ بالوطنية نموذج محمود عزمي يقدم ضابط شرطة مصرياً تعاطف مع الثورة العرابية وحرس من يؤدون القسم لها، شارك في صد الاحتلال الإنكليزي عن الإسكندرية مع أبنائها. لكنه عند التحقيق معه بعد إحباطها آثر السلامة والوظيفة، ووصف الثوار بأنهم طغمة من"البغاة"من دون أن يسامح في قرارة نفسه، الخونة من رفاقه أو تندمل في قلبه جروح الوطنية. ظلت روحه معذبة بين جنة الثورة وجحيم الخيانة، وظل قلبه مشطوراً بين حبه الأول لنعمة السمراء التي أترعت جسده ووجدانه بمتعة العشق"وكاثرين"زوجته الإيرلندية الشقراء المهووسة بالآثار والمسكونة بطموح مجد الاكتشافات في تلك الآونة. على أننا لا نتعرف إلى معالم هذه الشخصية المحتدمة بمجرد الوصف السردي المباشر، بل من خلال تكشف طبقاتها المركبة في المواقف المتتالية. حتى إذا استرجعت رؤيتها لذاتها في لحظة مكاشفة موجعة كان هذا تقطيراً وتركيزاً لخيوط درامية مبثوثة بتناغم شديد في ثنايا العمل. فهو يقول لنفسه بعد محنة احتكاكه العدائي بأهل الواحة:"المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ، لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير، نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان، نصف مؤمن ونصف عاشق، دائماً في منتصف شيء ما... تحمست فترة للوطن وللثوار وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكانك، لم أكن أبداً شخصاً واحداً كاملاً". تدخل"كاثرين"كذلك رواية ثانية مع محمود لأحداث رحلتهما المثيرة للعمل في الواحة الغاربة ترقية لزوجها وعقوبة له أيضاً لماضيه المشبوه. لكنها تضمر عزماً مذهلاً على تحقيق انتصار أثري يثبت أن الإسكندر الأكبر قد ثُوي أخيراً في سيوه، فهي تستحضر قراءاتها التاريخية وهي صبية مع أبيها حيث كان"يحدثني عن الإسكندر ويقرأ لي من كتاب"بلوتارك"عن أيامه الأخيرة. على أن هذه الفكرة المسيطرة على"كاثرين"تدفعها كي تنتهك حرمة المعابد المسحورة المقدسة في منظور أهل الواحة، مما يجعلهم يقاطعونها هي وزوجها، فتحيل حياته ووظيفته الحاكمة إلى مأساة متراكبة ومتفاقمة، ولا تنجح جميع حيلها في التقرب من أهل الواحة، وعندما تهفو إلى منزلها صبية صغيرة تعاني من قسوة العادات المحلية التي حولتها إلى"غولة"نتيجة لوفاة زوجها العجوز من دون أن تلزم بيتها أربعة شهور وعشراً لا تخلع ثوب الحداد ولا يقع عليها بعد أحد، ولأن مليكة وهذا هو اسمها تتمرد على هذه التقاليد، وتلجأ إلى التماس صداقة زوجة المأمور، لا تقوى هذه على إدراك توقها للتواصل، وتسيء فهمها فقد أتت إليها بتمثالين جميلين، نحتتهما بيدها"رفعت التمثالين أمام وجهي وقاربت بينهما كأنهما يتعانقان... شجعها صمتي وابتسامتي فوضعت التمثالين على المائدة واقتربت مني في تردد. واجهتني حتى أوشكت أن تلتصق بي وأنفاسها اللاهثة تلفح رقبتي، ثم رفعت يدها ببطء وأحاطت بهما كتفيّ واحتضنتني بمنتهى الرقة... لكني فجأة صرخت لا ودفعتها بعيداً عني وكانت تتشبث بكتفي فتمزق ثوبي وأنا أدفعها بعنف". ظنت كاثرين الإيرلندية أن الفتاة البريئة تغويها أو شعرت باستيقاظ الشبق المثلي الكامن في أعماقها، تذكرت أشعار"سافو"الفاتنة، ودفعت الفتاة عنها بعنف، دخل زوجها المأمور في هذه اللحظة فرمى الفتاة خارج المنزل متصوراً أنها كانت تريد خنق زوجته، وتوعد بعقابها، لكن أهلها قضوا عليها لذنب أكبر وهو جسارتها في الخروج على تقاليد الغولة ومقاومة لعنتها. المهم أن تقاطع العادات والثقافات المختلفة لم ينجح ولع كاثرين بماضي أجداد هذه الفتاة في تخفيف حدته وتجسير الهوة الفاصلة بينهما، كانت دراما مليكة الحسناء البدوية الودود تجسيداً لحدة هذا التقاطع. يدخل راوٍ ثالث لتعميق منظور الرواية من داخل وعي أهل الواحة أنفسهم في مقاومتهم لسلطة المأمور الجابي للضرائب والمعادي للقبائل بحكم موقعه مهما استمالهم أو عطف عليهم، وهو الشيخ يحيى أحد الأجواد في الواحة، أعمقهم معرفة بأسوارها الطبيعية والقبلية، يشف بصفاء عن ضمير القوم، ويرعى الحياة في تقلباتها، مقاومًا قدر استطاعته جهل رفاقه الأجواد ونزوات عشائرهم، ثم لا يكتفي المؤلف بهذه الأصوات كي يجسد بها رؤيته لحوار الثقافات المحلية والوطنية والإنسانية، بل يعمد إلى مغامرة طريفة، باستحضار روح الإسكندر الأكبر نفسه، وكأنه يستجيب لهلوسات كاثرين وسعيها المحموم لاكتشاف مقبرته وعلاماتها المرقومة في المعابد المختلفة، تحوم روح الفاتح العظيم فوق الواحة استجابة لنداء عاشقته، ويتذكر في"مونولوج"ممتع مشاهد تحوله من إمبراطور دنيوي فاتح إلى إله فرعوني مقدس، وجمعه بذلك في إهاب واحد حكمة أستاذه أرسطو وقداسة كهنة مصر. ولأن الرواية المسبوكة بإتقان مفعمة بمئات التفاصيل الدرامية المثيرة للتأمل والتأويل، بقدر ما احتشد لها الكاتب بالقراءة والاختزان والتخمير، فعلينا أن نستل منها الطرف الأساسي الأول المقابل لتقاطع الثقافات كي نكشف بنية نسيجها ومحور دلالتها المركزية، وهو يتجسد في هذا الصراع الدائر في نفس محمود عزمي بين ضميره الثوري الوطني من ناحية وواجبه في الخدمة الحكومية في ظل نظام فاقد للشرعية، سواء كان لتبعيته للاحتلال الأجنبي، أم لتواطئه مع الطغيان الداخلي من ناحية ثانية. وهو صراع ماثل في شكل متجدد لدى الأجيال التالية من رجال السلطة والحكومة، لن يهدأ حتى يتحقق لدينا النموذج الديموقراطي الصحيح من دون ضغوط أو تدخل كي يضفي شرعية حقيقية على السلطة الحاكمة، وتزول أسباب الوعي الشقي لدى رجالها. ومن يتتبع تموجات هذا الوعي داخل نفس المأمور وهو واقع بين شقي الرحى في إطاعة نظارة الداخلية في الجباية والقهر، وشعوره الوطني بإنسان الواحة يدرك أبعاد أزمته التي تفجرت في ختام الرواية بنسفه للمعبد الرمز الذي كانت تريد زوجته أن تزوره ووقوعه صريعاً بين أنقاضه. وهنا يصبح في وسعنا أن نضفر هذا الطرف من الخيط بالطرف الآخر المتعلق بخلل الثقافات المعزولة عن محيطها الوطني وسياقها الإنساني مما يجعل شرعية الثقافة، مثل شرعية السلطة، قائمة على الحرية والتجدد كي تندرج في الإطار الحضاري الوضيء.