في مثل هذه الأيام من عام 1956 كان التضامن العربي في قمته عندما التفت الأمة كلها حول الشعب المصري تحتضنه وترتبط به وتدافع عنه حيث أسقطت المقاومة الشعبية الباسلة رئيس الوزراء البريطاني انتوني إيدن الذي قاد مؤامرة السويس منهياً حياته السياسية، فلقد كانت تلك الحرب هي الفصل الأخير في حياة الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس حتى أن التلفزيون البريطاني ما زال يكرر سنوياً في هذه المناسبة أن الإمبراطورية العظمى التي شيدها آباء الفكر الاستعماري البريطاني قد أنهاها"الكولونيل ناصر"من الشرق الأوسط! ولا نزال نذكر حملة الاحتجاجات الغربية بل البريطانية التي بلغت ذروتها باستقالة وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية حينذاك أنتوني ناتنغ من منصبه لرفضه أسلوب التعامل البريطاني مع الزعيم المصري الصاعد. ولكي يدرك القارئ حجم ردود الفعل والتداعيات الناجمة عن مغامرة السويس فإني أحيله إلى مشهد لا يغيب عن الذاكرة العربية عندما ذهب جمال عبد الناصر إلى مقر الأممالمتحدة في نيويورك عام 1960 لحضور جلسات الجمعية العامة في زيارة وحيدة للعالم الغربي وهي المرة اليتيمة التي عبر فيها المحيط حيث شاهدت الوفود رجلاً أشيب يترك مقعده ويتجه إلى زعيم شاب في صف آخر ويقول للرئيس عبد الناصر: انا هارولد ماكميلان رئيس وزراء بريطانيا. وكانت تلك واحدة من المواقف الرمزية للشموخ العربي في عصر ولّى ويبدو أنه لن يعود، وهنا استأذن في أن أضع أفكاري في إطارها الواجب: أولاً: إن ملف السويس يؤكد أن الهزيمة العسكرية لا تعني الهزيمة السياسية فما أكثر الانتصارات العسكرية التي أجهضها أصحابها بالتسرع والرغبة في الحصول على مكسب عاجل يزول في أقصر وقت، وما أكثر الهزائم العسكرية التي حولها أصحابها بالصمود إلى انتصارات سياسية لأنهم عاشوا وماتوا واقفين كالأشجار التي لا تسقط أبداً والحق أن عبد الناصر كان متخصصاً في تحويل الهزائم إلى انتصارات. فعل ذلك مع العدوان السياسي عام 1956 ومع انفصال سورية وتفكك دولة الوحدة عام 1961 وحاول أن يفعل ذلك أيضاً مع النكسة العسكرية الكبرى عام 1967 حتى قضى كالأسد الجريح في 28 سبتمبر أيلول عام 1970. ثانياً: إن المقاومة اللبنانية في تموز يوليو 2006 تكاد توازي المقاومة المصرية في تشرين الاول وتشرين الثاني اكتوبر ونوفمبر 1956 حيث لا تكون الحسابات بما تحقق على أرض المعركة فالقوة تهزم الشجاعة في النهاية، ولكن تكون الحسابات بما تتركه الحرب من آثار وطنية وروح قومية تبعث برسالة قوية تجعل المعتدي يفكر مرات قبل أن يغامر من جديد في العدوان على الصامدين الشرفاء، وإنني ممن يظنون أن المواجهات العربية مع إسرائيل لا يمكن مراجعتها في ظل ميزان استراتيجي مختل إلا بحجم الصمود والقدرة على المواجهة التي تردع المعتدي وتجعله لا يهنأ بانتصاره العسكري الذي جرى إجهاضه بفعل المقاومة الشعبية. ثالثاً: إن درس السويس يعلمنا نحن العرب أن العالم في إطار العلاقات الدولية المعاصرة لا يحب ولا يكره ولكنه يحترم أو يستضعف. إنه يهاب أو يستهين. إنني ما زلت أتذكر يوماً عندما كنت ديبلوماسياً شاباً في العاصمة البريطانية وذهبت لاستقبال زميلة دراستي السيدة هدى جمال عبد الناصر القادمة من القاهرة إلى جامعة أوكسفورد لجمع مادة علمية للإعداد لدرجة الدكتوراه التي حصلت عليها فيما بعد، وفي مطار هيثرو تقدمت من ضابط الجوازات وأعطيته جواز سفر الضيفة بعد رحيل والدها بسنوات قليلة، فإذا الضابط البريطاني يقرأ اسمها ويسألني: هل هي قريبة الرجل العظيم؟ من دون أن يسميه! فأجبته: إنها ابنته الكبرى فاستوقفني دقائق أجرى فيها اتصالاً هاتفياً ثم أعطاها على جواز السفر إقامة مفتوحة وشيعنا بنظرات الاحترام والتقدير التي قد لا تخلو من رواسب الكراهية الدفينة، وفي المقابل عندما ذهبت مع زميل لي إلى الخارجية البريطانية نرتب لزيارة الرئيس الراحل أنور السادات عام 1975 وكان رجل دولة لا يقل ذكاؤه عن وطنية عبد الناصر الشامخة وقامته القومية العالية فإذا المسؤولون في الخارجية البريطانية يجادلوننا حول مكان استقبال جلالة الملكة للرئيس المصري وهل يكون ذلك عند مدخل قصر باكنغهام أم عند مدخل جناح الإقامة؟ ودخلوا معنا في مناقشة سفسطائية تدور حول أنواع الزيارات الرسمية ما بين"زيارة عمل"و"زيارة دولة"، وقلت يومها لو أن عبد الناصر الخصم اللدود كان قادماً إلى العاصمة البريطانية فإن مقاتلات سلاح الجو البريطاني كانت سوف تستقبله مع بداية المجال الجوي للمملكة المتحدة مهابةً واحتراماً. إنها العلاقات الدولية التي تقوم على المصالح ولا تعرف العواطف. رابعاً: إن حرب السويس 1956 أصبحت علامة فارقة في تاريخ المنطقة بل وفي مسار حركة التحرر الوطني وتصفية الاستعمار حيث قدمت مصر عبد الناصر لأمته العربية وقدمه العرب بعد ذلك للعالم بأسره، حتى أن المؤرخين عندما يتحدثون عن تاريخ الشرق الأوسط فإنهم يقولون"ما قبل السويس"و"ما بعد السويس"، كذلك فإن الجغرافيين أيضاً عندما يتحدثون فإنهم يقولون"شرق السويس"و"غرب السويس". فقد أصبح التعبير استراتيجياً ودخل قاموس الصراع الطويل في الشرق الأوسط من أوسع أبوابه، وسوف تظل هذه الأحداث قابعة في ذاكرة أجيالنا لكي تؤكد أن العدوان لا ينتصر مهما طال الوقت وأن الشجاعة تظل رقماً صعباً في مواجهة القوة مهما بلغ حجمها وطغيانها، إنه درس يجب أن نعيه لأنه يأتينا في الوقت المناسب من هذا الزمن الرديء. خامساً: شعرت الولاياتالمتحدة الأميركية عام 1956 أن الاستعمار القديم البريطاني الفرنسي لا زال يراوغ شعوب المنطقة ويراوح مكانه من دون أن يترك شعوبها في سلام، لقد أدركت واشنطن أيامها أن المؤامرة التي وقفت وراء حرب السويس لم تشرك الولاياتالمتحدة الأميركية معها ولم تبلغها بتفاصيلها، بل استغلت ظروف الانتخابات الرئاسية في واشنطن والثورة المجرية في بودابست وإعدام رئيس الوزراء إمري ناجي لكي تفلت تلك العصابة الدولية بجريمتها رداً على ممارسة مصر لواحد من حقوقها المشروعة بقرار عبد الناصر تأميم قناة السويس رداً على سحب البنك الدولي لعرض تمويله لمشروع السد العالي. لذلك لم يكن غريباً أن نعتبر تلك السنة الفاصلة نهاية لصفحة استعمارية قديمة وبداية لصفحة جديدة من استعمار مختلف بدأه الرئيس إيزنهاور بطل الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بحديثه عن نظرية"الفراغ في الشرق الأوسط" و"مبدأ إيزنهاور"لملء ذلك الفراغ واحتواء شعوب المنطقة بمنطق استعماري جديد يختلف عن أسلوب أسلافه الأوروبيين في غرب آسيا وشمال أفريقيا. سادساً: إن عمال الشحن العرب الذين توقفوا عن تفريغ حمولات السفن البريطانية والفرنسية أو عمال البترول الذين نسفوا أنابيبه إنما كانوا يقدمون عربوناً قومياً لحركة صاعدة شدت أنظار الأمة نحو حلمها التاريخي في الوحدة وأعطت مصر المتحررة والرائدة دوراً قيادياً ظلت تمارسه إلى سنوات مضت. لقد كانت حرب السويس عام 1956 شهادة ميلاد لقيادة قومية وزعامة قطرية بل تحول عالمي في مسار مقاومة الاستعمار وترسيخ معنى التحرر الوطني، ووما زلت أذكر أن الهند تسمي واحداً من أكبر شوارعها باسم بطل عدم الإنحياز العربي"جمال عبد الناصر"كما أن الملك حسين رحمه الله بتسامحه المعروف وأفقه الواسع قد سمى أحد ميادين العاصمة الأردنية بإسم"دوار عبد الناصر"فذاكرة الأمم والشعوب تحفر للزعامات مكانتها برغم الهزائم والنكسات والنكبات. سابعاً: إنني ممن يطالبون بدراسة ملف السويس عسكرياً وسياسياً واقتصادياً بل ثقافياً واجتماعياً لأنها كانت المسمار الأخير الذي تم دقه في نعش الإمبراطورية العظمى فضلاً عن تأثيرها العميق في الوجدان العربي والعقل القومي حينذاك، ولقد أفرجت السلطات البريطانية والفرنسية مؤخراً عن قدر لا بأس به من وثائق تلك المرحلة وهي تؤكد كلها أن إسرائيل كانت المحرك الأول والأداة التي اعتمد عليها البريطانيون والفرنسيون من أجل تصفية حسابات جون فوستر دلاس وسلوين لويد وكريستيان بينو، فضلاً عن انتوني ايدن وغي موليه مع حركة المد الثوري الصاعد من قلب الشرق الأوسط خشية العدوى التي قد تؤثر على مصالحهم في المنطقة وحماية الدولة العبرية التي جرى زرعها في المنطقة والتي كان يقودها في ذلك الوقت أبرز الآباء المؤسسين وهو بن غوريون، حتى انهم فكروا في اسقاط المظليين على مدينة الإسكندرية وأن تجري العمليات العسكرية هناك مثلما ضربت البوارج البريطانية تلك المدينة عام 1882 على نحو أدى الى احتلال مصر من قبل قواتهم لأكثر من سبعين عاماً، ولكن الرأي استقر في النهاية على أن تكون بورسعيد هي مركز الأحداث وبؤرة العدوان وهدف التحالف المشبوه لاحتلال سيناء ومدن القناة وهي التي تمثل خط الدفاع عن الخريطة المصرية. إننا نريد أن نقول في هذه المناسبة ومن خلال هذه الملاحظات ان حرب السويس 1956 كانت نقطة التقاء بين أجندات ثلاث تجمعت نحو هدف واحد هو الإطاحة بنظام عبد الناصر ووأد حركة القومية العربية وإيقاف المد التحرري في المنطقة وتلقين العرب درساً للمستقبل وتأديب الشعب المصري على حماسه الوطني بعد تأميم قناة السويس، كما كان ايدن البريطاني يريد كسر أنف ذلك الضابط المصري الذي يثير الشغب في الشرق الأوسط وكان موليه الفرنسي يريد أن يضع حداً لدعم مصر لثورة الجزائر الباسلة، أما إسرائيل فأهدافها معروفة وأغراضها مفضوحة وجرائمها لا تتوقف. ليست هذه ذكريات نصف قرن مضى ولكنها محاولة للغوص في أعماق المشهد العربي الحالي تحت مظلة شرق أوسط أكثر اضطراباً وأقل استقراراً وأشد تعقيداً. يبدو أنه قدر هذه المنطقة أن تظل دائماً ساحة للصراعات، وميداناً للمواجهات، ومركزاً للمؤامرات. * كاتب مصري