كان إصرار ثورة تموز يوليو على عدم ربط جلاء البريطانيين عن مصر بمشاريع الدفاع الغربية عن المنطقة، امراً منطقياً لقادة يرغبون في انهاء الاحتلال لبلدهم والذي دام 70 عاماً متصلة، باعتباره بداية للتحرر الحقيقي وبداية للتنمية وفق صيغة ذاتية محضة. لكن الجلاء لم يكن كذلك بالنسبة الى قوة الاحتلال نفسها، وللقوة الدولية الصاعدة آنذاك في السياسة الدولية، أي الولاياتالمتحدة. عزز المطلب المصري ليس فقط رغبة القادة الثوريين، لا سيما الرجل الأول بينهم، الرئيس جمال عبدالناصر، وإنما حقائق التاريخ والجغرافيا التي تفرض نفسها على مصر ودورها الاقليمي. فالمنطقة هي قلب العالم، ومصر محورها، والقابع فيها قوة عسكرية مباشرة أو نفوذاً سياسياً أو معنوياً، يعني أنه يحكم أو يتحكم في درجة الحرارة السياسية للمنطقة صعوداً وهبوطاً، بما يخدم مصالحه وأهدافه الاستراتيجية. هكذا كانت قناعة بريطانيا العظمى، استناداً الى تحكمها وسيطرتها على إحدى أكبر القواعد العسكرية في منطقة السويس، والعاملة على حماية "العالم الحر"، بتعبير حقبة الخمسينات، في مواجهة التطلعات السوفياتية. وعلى رغم التنسيق الظاهر بين الولاياتالمتحدةوبريطانيا في الحد من النفوذ السوفياتي، فإن الأمر لم يخل من تنافس حقيقي بكل معنى الكلمة. فبريطانيا ظنت لفترة، في زمن تشرشل وإيدن، ان في إمكانها التعامل مع ثورية تموز وقادتها بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع الحكم السابق بباشواته ورجاله التقليديين، وظنت أيضاً أن الاحتفاظ بقاعدة قناة السويس من شأنه أن يحفظ لبريطانيا دورها العالمي الامبراطوري أو بعضاً منه، ولذلك فإن الربط بين إنهاء الاحتلال العسكري لمصر لا علاقة له باستمرار قاعدة قناة السويس ودورها، بل يمكن أن يكون ذلك مقدمة لبناء منظومة أمن اقليمي حول القاعدة، أو تكون القاعدة، وبالتالي مصر مركزاً لها. كانت الأفكار الاميركية في جوهرها غير بعيدة عن الأهداف البريطانية اجمالاً، داعية الى بناء منظومة أمن إقليمي في المنطقة للحؤول دون النفوذ السوفياتي، إضافة الى أهداف أخرى اميركية من قبيل تحديد الصراع بين إسرائيل وجيرانها، وربط مصر في ثوبها الثوري الجديد بالاستراتيجية الغربية، ولكن من القناة الاميركية وليس البريطانية. وهنا تجسد التنافس في أجلى صوره، فسعي الولاياتالمتحدة الى استقطاب النظام المصري الثوري الجديد كانت له دوافعه الخاصة، ما دفع الاميركيين الى محاولة لعب دور في المفاوضات المصرية - البريطانية من أجل الجلاء، في حين نظر البريطانيون الى هذا الدور باعتباره منافساً لا حليفاً، وأنه يهدف الى مساعدة المصريين وليس مساعدة البريطانيين في إقناع عبدالناصر بالفصل بين الجلاء وبين استمرار قاعدة قناة السويس. مجمل الصورة في السنوات الثلاث الأولى من عقد الخمسينات كان مزيجاً بين تطلعات مصرية مشروعة في التحرر الكامل من استعمار تقليدي، ونزعة عبر عنها عبدالناصر من منتصف 1953 فصاعداً قوامها ممارسة سياسة حياد دولي، جنباً الى جنب تعزيز صيغة الضمان الجماعي العربي في الأمور الدفاعية. أما بريطانيا فكان هدفها البقاء عسكرياً في صيغة تحالف جديدة، وهدف أميركا كان ظاهره مساعدة البريطانيين وباطنه محاصرة نفوذهم والعمل على توثيق العلاقة مع الحكم العسكري الجديد. وفي الخلف من كل ذلك انقسام عربي بين مؤيد بارز للمشاريع الدفاعية البريطانية كنوري السعيد في العراق، ومتردد كالأردن، ورافض كسورية، ومتحفظ بشدة كالسعودية، إضافة الى غموض حول السوفيات وسياستهم. ومرة أخرى كان الإصرار الناصري على رفض الربط بين الحق في إنهاء الاحتلال البريطاني وبين مطلب استمرار قاعدة قناة السويس كنقطة ارتكاز لمشاريع دفاعية غربية، مقدمة لما هو أكثر من الجلاء البريطاني غير المشروط. فالجلاء لم يكن سوى هدف يعني التحرر السياسي والمادي معاً، وكلاهما تعبير عن تحرر الارادة السياسية ومقدمة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهنا يدخل متغيران: اولهما بناء السد العالي، ليس كمشروع تنموي زراعي وصناعي هائل فحسب، وانما كمشروع يجسد الطموح لتغيير الخريطة الاجتماعية والانتاجية الشاملة في مصر، وثانيهما السعي للحصول على سلاح يوفر بعضاً من قدرة الدفاع عن مصر في مواجهة التحرشات الإسرائيلية. ومن مفارقات القدر أن كلا المتغيرين، التنموي والدفاعي، كانا وسيلة مصر للتقارب مع الغرب، وتحديداً الولاياتالمتحدة، ففي الفترة من 1953 وحتى نهاية 1954، كانت المطالب المصرية دفاعياً وتنموياً موجهة بالأساس الى الولاياتالمتحدة، لكن الاعتبارات الخاصة بالوقوف الظاهري مع بريطانيا، لا سيما أثناء المفاوضات الخاصة بالجلاء عن مصر، والتي انتهت بتوقيع الاتفاق في 14 تشرين الاول اكتوبر 1954، إضافة الى اعتبارات أميركية داخلية خصوصاً إسرائيل، اسهمت في تلكؤ واشنطن في اتخاذ قرار واضح باحتواء مصر الناصرية عبر المساعدات التنموية والدفاعية، بل في جعل هذين المتغيرين مدخلاً مباشراً في تحول العلاقة من رغبة في الانفتاح الى قرار بالصدام، وعزز من ذلك نزعة عبدالناصر الى توظيف الصراع الدولي لتحقيق مكاسب محددة، ونزعته في إعلاء العمل الجماعي العربي في أمور الدفاع عن المنطقة، ما كان ينذر أميركا بالخطر من زاوية التأثير على المصالح الإسرائيلية. وحين أمعن الأميركيون في الضغط على القيادة المصرية، لم يكن أمام الاخيرة سوى قبول التحدي والبحث عن سبل رد الإهانة الوطنية، بل واللجوء الى الطرف الآخر للحصول على معونات الدفاع والتنمية معاً. وعلى رغم التحذيرات المصرية للأميركيين تحديداً بأن التأخير في تزويد الجيش المصري حاجاته الدفاعية سيدفع مصر للبحث عن السلاح من مصدر سوفياتي أو قريب منه، فإن الأميركيين فضلوا تجاهل الامر، تماماً كما فعل البريطانيون، باعتبار أن مصر ليست لديها المال لشراء السلاح، ولا العزيمة السياسية لمواجهة الغرب، لذا جاء توقيع صفقة السلاح التشيكية فعلاً في ايلول سبتمبر 1955 بمثابة تطور استراتيجي بكل المقاييس، حيث غيّر المعادلات الكلية في المنطقة، وأوضح أن مصر الثورية يمكنها ان تؤثر جذرياً على المصالح الغربية في الشرق الاوسط كله، فالصفقة على رغم كونها مصرية - سوفياتية وقيمتها لا تتعدى 10 ملايين جنيه، الا ان مغزاها السياسي كان كبيراً من حيث فتح ثغرة كبيرة في سياسات الحصار الغربية على الاتحاد السوفياتي، الذي بادر بدوره الى مساندة حركات التحرر العربية، بعد أن كان يرى فيها أداة من ادوات السياسة الامبريالية بعد الحرب العالمية الثانية. وكما كان التجاهل الأميركي - البريطاني للتحذيرات المصرية بشأن السلاح مقدمة لثغرة استراتيجية كبيرة، دفع تجاهل المطالب المصرية في مساعدات التنمية الى مزيد من الثغرات. لا سيما أن رد الفعل المصري أصاب واحدة من رموز الغرب في المنطقة. فحين ربط وزير خارجية الولاياتالمتحدة فوستر دالاس رفضه تمويل بناء السد العالي بإهانة مصر واقتصادها وحكومتها، جاء الرد المصري ممثلاً في تأميم قناة السويس 26 تموز يوليو 1956، والسيطرة عليها بالكامل. ونظراً لقسوة الرد المصري، تبلورت حاجات بريطانية وفرنسية وغربية عموماً، وفي حين مال البريطانيون الى عمل عسكري تصوروا انه يمكن أن يعيد لهم مكانتهم في المنطقة، ويعيد وجودهم وتأييد الغرب كله لهذا الوجود العسكري المُعاد، مال الأميركيون الى العمل السياسي والديبلوماسي الهادف الى عزل مصر عن محيطها العربي، وتحديداً عن المملكة العربية السعودية، تمهيداً لإسقاط النظام الناصري. الحق ان الخلاف البريطاني - الأميركي لم يكن على الهدف، وانما على الاسلوب الأنجح في التخلص من عبدالناصر، الذي تعززت شعبيته مصرياً وعربياً، وهو خلاف كان له دوره في موقف الولاياتالمتحدة، أو بالأحرى موقف الرئيس ايزنهاور، صاحب نظرية ملء الفراغ الاستراتيجي والدفاعي في المنطقة ووزير خارجيته دالاس الاكثر كرهاً لعبدالناصر، في رفض العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي على مصر، والذي بدأ في 29 تشرين الاول 1956 بهجوم إسرائيلي على سيناء، تلاه هجوم بحري وجوي بريطاني - فرنسي على بورسعيد. كان للرفض الأميركي للعدوان الثلاثي ما يبرره، ليس فقط في اختلاف طريقة التخلص من الرئيس عبدالناصر، ولكن لأن البريطانيين اتخذوا القرار بمفردهم من دون العودة الى حليفتهم واشنطن، ولأن السياسة الأميركية ايضاً كانت في تنافس موضوعي مع السياسة البريطانية تجاه المنطقة برمتها. وفيما جاء موقف السوفيات حازماً ورافضاً العدوان ومهدداً، وإن متأخراً، فإن المحصلة تبلورت في إنهاء العدوان وعودة الامور الى ما كانت عليه، والتزام الاطراف قرار الاممالمتحدة وقف إطلاق النار والانسحاب، وهي محصلة عنت انتصاراً سياسياً، وليس عسكرياً، لمصر، وفي المقابل هزيمة كبرى لبريطانيا وحليفتيها، وتبلورت الهزيمة اكثر حين اكتمل الانسحاب من سيناء، وإذا بقرار جمهوري مصري يقضي بإنهاء اتفاقية 14 تشرين الاول 1954 اتفاق الجلاء كأنها لم تكن، وذلك منذ 31 تشرين الاول 1956، أي اليوم الذي بدأ فيه العدوان على قناة السويس، وقيمة هذا القرار تظهر اكثر في أن اتفاقية الجلاء كانت مدتها سبع سنوات وتضمنت التزامات دفاعية على مصر من قبيل بقاء أجزاء من القاعدة في حالة صالحة، تسمح للقوات البريطانية باستعمالها، إضافة الى تسهيلات اخرى، اذا ما حدث تهديد لأي بلد على بلدان الجامعة العربية وتركيا. وبذلك يكون فشل العدوان انهى تلك الالتزامات، والى جانبه نهاية كاملة لكل التطلعات البريطانية القديمة في العودة مرة اخرى الى القناة. في نهاية العدوان تغيرت الصورة الاستراتيجية في المنطقة تماماً، فقد غابت بريطانيا عن المكان، وبدا الطرفان الكبيران موجودين، الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، كلاهما حقق انتصاراً ملموساً: الاول بدا في ثوب المدافع عن أمن مصر والمستعد لمساعدتها تنموياً، والثاني ازاح تماماً النفوذ البريطاني. وبدت المنطقة، أو بالأحرى اجزاء كبيرة منها، تستعد لاستقباله كقوة هيمنة جديدة. * كاتب مصري، رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".