عندما كتبت كلمة بعنوان "أنا وبرامز وجارتي"، اتصل بي صديق من المولعين بالموسيقى الكلاسيكية، ولامني لأنني تجنيت على برامز، ولم أوفه حقه كموسيقي كبير. وأشار بصفة خاصة الى انجازاته المتميزة في موسيقى الحجرة. فحصرني في زاوية، لأنني كنت أتهرب دائماً من موسيقى الحجرة لبرامز! والظاهر ان صديقي لم ينطق عن الهوى، فقد قرأت في كتاب موسيقي الشهادة الآتية:"أما عن موسيقى الحجرة عند برامز فيعتبر كل عمل منها تحفة بحد ذاتها". وهذا جعلني أعيد النظر في موقفي من برامز، على رغم انني لا أزال أشعر بأنني لا أكاد أُقبل عليه برغبة قوية، لأن برامز لا يخاطبك دائماً بتلك اللغة التي تستعذبها عند موسيقيين آخرين. فأسلوبه، كما وصفه الناقد الموسيقي الألماني المعروف كارل دالهاوز"جاف، ومورث للكآبة، ومأسوي". ولربما يصدق هذا الحكم على سمفونيات أكثر من أي عمل آخر له، على رغم المركز الرفيع الذي تشغله هذه السمفونيات في عالم الموسيقى الغربية. وأنا أعتقد، والحال هذه، بأن خير معروف أسداه أحد مصممي الباليه للمستمعين ممن لديهم حساسية تجاه سمفونيات برامز، هو انه صمم باليه على موسيقى سمفونيته الأولى. لكنني لم أشاهد هذه الباليه، أو لعلي شاهدتها ونسيت درجة تأثيرها عليّ. وأعترف أيضاً بأن محاولتي سماع سمفونيته الأولى مؤداة على البيانو، لم تفلح في أن تجعلني أكثر حميمية معها. فلجأت الى القراءة. واكتشفت من خلال إحد التأويلات لهذه السمفونية - انها ليست عملاً موسيقياً مجرداً كما توحي للسامع، بل ان لها بُعداً رمزياً يعكس العلاقة بين برامز وكلارا شومان زوجة الموسيقي روبرت شومان، وعازفة بيانو من الطراز الأول. وان هناك من يحلل بناءها التقني ضمن هذا الاطار، ومن منظور جنسي: في العام 1855 كتب برامز الى كلارا يقول:"أنا لا أستطيع فعل أي شيء سوى التفكير فيك... ماذا فعلت بي؟ هل بوسعك ان ترفعي عني سحرك الذي سلطته علي؟"وفي العام نفسه خطط برامز الحركة الأولى لسمفونيته الأولى، كما يعتقد كاتب سيرة حياته ماكس كالبك. يومذاك كانت العلاقة بين برامز وكلارا معقدة، أو غير متكافئة في ظاهرها على الأقل. كان عمر كلارا 35 سنة، وبرامز 21 سنة، وكانت هي شهيرة، وهو لم يزل غير معروف تقريباً. وهي متزوجة من الموسيقي المعروف روبرت شومان، الذي كان له فضل كبير في تقديم برامز الى الدوائر المعنية بالموسيقى. وكانت كلارا قد أنجبت سبعة أطفال. وكان شومان قد أدخل منذ عام الى مستشفى المجانين، ولم يُسمح لزوجته بزيارته. لكن برامز هرع للوقوف الى جانبها في محنتها هذه. لا شك في أن كلمات رسالته تلك تؤكد انه كان واقعاً في حب كلارا. لكن برامز كان يحب ظهيره روبرت شومان ومعجباً به. فقبل أن يُلقي شومان بنفسه في نهر الراين ليتخلص من الأوراتوريات الشيطانية التي كانت تضج في رأسه، كان قد جعل اسم برامز معروفاً في أوروبا كلها، معتبراً هذا التلميذ القادم من هامبورغ المسيح المنقذ للموسيقى الألمانية. في أيام المحنة تلك كان برامز يعيش مع كلارا والأطفال. كانت غرفة نومه في طابق آخر، لكنه كان يقضي معظم وقته في مواساتها، ومساعدتها في تربية الأطفال. وكان برامز في تلك السنوات نحيفاً رشيقاً، وحليق اللحية والشاربين، ووسيماً جداً. وكانت الألسن تسلقهما في الأوساط الموسيقية. وكانت كلارا شديدة التعلق به، لكن مشاعرها تجاهه كانت في صراع بين اللهفة والشعور بالإثم. وبعد موت شومان في 1856، أصبح برامز وكلارا قادرين على الإعراب عن مشاعرهما وربما الزواج. وذهبا الى سويسرا ليبتا في الأمر. لكن بارمز فاجأ كلارا بقوله:"أنا عائد الى هامبورغ. اكتبي إليّ إذا حصلت على عمل". فكتبت كلارا في يومياتها بعد عودتها الى البيت:"أشعر كأنني عائدة من مأتم جنائزي". وقالت ابنتها يوجيني في ما بعد ان كلارا لم تفهم لماذا انسحب برامز هكذا بغلظة... لكن العلاقة بينهما لم تنقطع، فقد كانا يقضيان العطل سوية، وكانا يتعانقان ويقبّل أحدهما الآخر. يزعم روبرت فِنك، في تفسيره ما بعد الحداثي لسمفونية برامز الأولى، ان هذه السمفونية تمور بهاجس من الرغبة الجنسية، أو انها مشبعة بها. ويعيد الى الاذهان التحليل الموسيقي لشكل السوناتا، الذي تنبني على أساسه الحركة الأولى لهذه السمفونية، وأية سمفونية. وذلك من خلال الصراع بين الموضوع الأول والموضوع الثاني في السوناتا، حيث يُنظر الى الموضوع الأول كلحن مذكر، والموضوع الثاني كلحن مؤنث. وفي ختام الحركة أو السوناتا تكون هناك عودة الى الموضوع الأول، أي غلبة العنصر المذكر على المؤنث. ووفقاً لتفسير الموسيقي الفرنسي فانسان داندي، ان اللحن الأول يجسد تعبيراً ذكورياً أساسياً كالقوة والطاقة، والايجاز والوضوح. أما الفكرة الثانية في شكل السوناتا فعلى العكس، تكون رقيقة، وذات طابع شعري، وتتسم بالإطناب، والغموض في تنقلاتها النغمية وفتنتها الانثوية. أي انها ينبغي ان تكون عذبة ورقيقة. ويقول روبرت فنك، ان الحركة الأولى في سمفونية برامز الأولى ذات موضوع واحد بصورة طاغية. أي ليس هناك موضوع ثانٍ حقيقي فيها، لأن المادة الشعرية التي تظهر في المفتاح الثانوي مشتقة بالكامل من الموضوع الأول. ويفسّر ذلك بأن برامز لم يكن واثقاً من نفسه تماماً ليحقق نصراً على الرغبة الجنسية الانثوية. وبالتالي إننا لا نشهد صراعاً من أجل السيطرة الجنسية بين المذكر والمؤنث، بل في داخل ذات المذكر، المنقسم على نفسه. وهذا يعكس حالة من الكبت. ويذهب روبرت فنك، في تفسيره الفرويدي لهذه السمفونية، الى ان المرأة التي لها حضور في هذه السمفونية هي"الأم". وهي، هنا، ليست سوى كلارا شومان، التي تكبر برامز بأربع عشرة سنة. ونجدنا على حق في قراءة الحركة الثانية من السمفونية، على أسس بنيوية، على انها انثوية، كما يقول روبرت فنك. بيد ان هناك مدلولاً آخر للانثوية في هذه الحركة: الكمان المنفردة بطابعها الانثوي ولنتذكر هنا دور الآلات المنفردة في مقطوعات مثل"شهرزاد"لريمسكي - كورساكوف. وعند روبرت فنك، ان دخول الكمان المنفردة هنا يمكن ان يحمل بُعداً أمومياً مرة أخرى، كلارا شومان. ويقول روبرت فنك: يرى الكثير من المعلقين ان هذه السمفونية هي سمفونية"كلارا"، محملة بكل الأبعاد الدرامية الأوديبية، عند ابطالها، روبرت شومان، وكلارا شومان، وبرامز الشاب في العامين 1854 - 1856، اللذين جُن فيهما روبرت شومان ثم مات. ويعيد فنك الى الاذهان مقولة فردريك نيتشه عن موسيقى برامز من انها تنطوي على"كآبة العقم". ويذكرنا بمعاملة الرجال له في مواخير ميناء هامبورغ، عندما كان برامز يعزف للبحارة وهو في سن الثالثة عشرة. ويقدم لنا فنك محصلة سريرية: ان العلاقة الغرامية بين برامز وكلارا لم تتحقق في إطارها الطبيعي، لأنها كانت بمثابة أم له، ولأن روبرت كان بمثابة أب له. ويذكرنا بقول برامز لكلارا في 1857:"يتعين عليك ان تحاولي ضبط مشاعرك بجد... العواطف ليست طبيعية عند البشر، إنها دائماً استثناءات أو لعنات. عندما تتجاوز الحدود عند الرجل، ينبغي ان يعتبر نفسه عاجزاً ويبحث عن علاج لحياته وصحته. ان الرجل المثالي والحقيقي هو من يتصرف بكياسة في مسراته وأتراحه. ان العواطف ينبغي ان تمر بسرعة أو يجب كبتها". وفي رسالة حررتها كلارا الى برامز بعد ذلك بتسعة أشهر، جاء: أتمنى لو تفهم مشاعري بصورة أكثر سماحة مما تفعل في غالب الأحيان. إن أي إنسان يقرأ ما كتبته إليّ عن لهفتي سيحسبني امرأة هستيرية الى أبعد الحدود، تعبد صديقها كإله. وعلى أية حال، إلامَ سيوصلنا هذا كله؟ كل الذي فعلته هو انني عرضت مقدمتك الكورالية على السيد برغلر... إذا شئت الحقيقة أنا لست متحمسة في شأنها. أما ان تراني مأخوذة غالباً بغنى عبقريتك، وانك تبدو دائماً ذلك الرجل الذي جادت عليه السماء بأفضل الهبات، وانني أحبك وأحترمك بسبب الكثير من مزاياك العظيمة، فإن هذا كله صحيح، أيها العزيز يوهانس، وقد تغلغل عميقاً جداً في قلبي. فلا تحاول ان تقضي على ذلك فيَّ ببرودك المتفلسف. انه شيء مستحيل. انني مستاءة جداً في شأن ما ذكرت عن غوتنغن. ان كونك تمقت كثيراً فكرة الذهاب الى هناك يسوؤني جداً... إنني أفضل شقاء أن أكون منفصلة عنك على أن أراك غير سعيد بسببي في غوتنغن، لأنك ستجد نفسك عاطلاً من العمل... إنني بانتظار رسالة أخرى، يا يوهانسي. أتمنى لو انني أجد الاشتياق حلواً كما هي الحال بالنسبة إليك. انه يورث عندي ألماً ويملأ قلبي برعب لا يمكن التعبير عنه. وداعاً!! كن رقيق الفؤاد مع كلارتك. 1 تموز/ يوليو 1858. لكن ما هو موقع هذا كله في السمفونية؟ أنا لا أميل الى الاعتقاد بأن قراءة الفواصل الموسيقية التقنية في السمفونية تقدم مثل هذا التفسير الذي تقدم به روبرت فنك، وكأنه قراءة أبجدية أو لغوية لا لبس فيها. أما ان يكون للعلاقة بين برامز وكلارا شومان تأثير في نتاج برامز في تلك المرحلة، فهذا ممكن جداً. بعد هذا كله، ماذا سيكون موقفي من موسيقى برامز؟ أعترف بأنني خرجت من هذه الجولة بالنتيجة الآتية، هي انني إذا كنت قد تزحزحت قليلاً أو كثيراً من موقفي السلبي تجاه برامز، فقد أشفقت كثيراً على كلارا، ووقعت في حبها! وسأبحث عن مؤلفاتها الموسيقية لأستمع اليها. من بين هذه المؤلفات، كونشرتو على البيانو، وثلاثية على البيانو والكمان والتشيلو، ومقطوعات على البيانو، وأغانٍ، الخ. كنت أود أن أدخل في تفاصيل أكثر، لكنني ضغطت المقال لأسباب تتعلق بالحيز المتاح للكلمة.