نعرف طبعاً أن بيتهوفن لم يكتب سوى تسع سيمفونيات، آخرها التاسعة، تلك التي أوصل فيها الموسيقى إلى ذروة تعبيرية ما بعدها من ذروة. ونعرف أن كثراً من الموسيقيين وجدوا أنفسهم عاجزين، بعد أن سمعوا ذلك العمل الاستثنائي، عن الزعم أن في إمكان أي منهم مضاهاته. كان من شأن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن أن تشكل حاجزاً نهائياً وتدفن الفن السيمفوني الجدّي إلى الأبد. ومع هذا ثمة في تاريخ الموسيقى عمل يطلق عليه اسم «سيمفونية بيتهوفن العاشرة». لكن هذه السيمفونية لم يكتبها بيتهوفن، بل مواطنه برامز، يوهان برامز، أحد آخر العمالقة الكبار في الموسيقى الألمانية. ولم يكن برامز من أعطى سيمفونيته، وكانت الأولى بين أربع، ذلك اللقب، بل هانز فون بيلو. ومن بعده سادت الفكرة وترسخت، حتى جاء الناقد ومؤرخ الموسيقى الكبير ألفريد آينشتين في القرن العشرين لينقض الفكرة من أساسها في كتابه «الموسيقى في العصر الرومانطيقي» حيث قال إن كلمات فون بيلو هذه غير موفقة، لأن هذه السيمفونية «لا تربطها ببيتهوفن إلا صلات محدودة». وكانت الخاصية التي جعلتها تقف في صف واحد إلى جانب المؤلفات الكلاسيكية الأصلية وتحديداً تجعلها تعتبر امتداداً لسيمفونيات بيتهوفن، في رأي آينشتين «ما فيها من تركيز في البناء وإتقان ورسوخ». وفي يقيننا أن هذه العناصر وحدها كانت هي ما جعل هواة الموسيقى وعلى رغم اعتراض آينشتين، يواصلون مقارنة سيمفونية برامز الأولى بأعمال بيتهوفن. ومهما يكن من أمر، فإن برامز نفسه لم ينكر أبداً هذا الانتماء. وهو لئن كان لم يبدأ خوض الكتابة السيمفونية إلا في وقت متأخر إذ كان بلغ الرابعة والأربعين من عمره، فإنه لم يخف أبداً على خاصته على الأقل، إنه إنما كان قبل ذلك خائفاً، لا يجرؤ على الدنو من عالم كان بيتهوفن سيده، ويجدر به أن يكون خاتمته. ولكن حدث بعد أن كتب برامز قطعته الرائعة «تنويعات على فكرة لهايدن» أوائل سبعينات القرن الذي عاش فيه، ولقيت تلك القطعة ما لقيت من نجاح جعل نقاداً كثراً يتساءلون: إلامَ سيظل كاتب هذه القطعة مجفلاً من دون خوض الكتابة السيمفونية؟ حدث أن قرر برامز، وإن في تردد، تجربة حظه، فكتب الحركة الأولى من سيمفونيته العتيدة في عام 1873 وأسمعها لعشيقته كلارا شومان. وكان رد فعل كلارا مذهلاً: الموسيقية وأرملة شومان أعجبت بالحركة، ولم تكفّ منذ تلك اللحظة عن مطالبة عشيقها بأن يكمل. فأكمل ولكن ببطء. هكذا، ولدت في عام 1877 تلك السيمفونية التي اتبعها برامز خلال السنوات العشر التالية بثلاث سيمفونيات أخرى، ثم توقف إذ شعر بأن مهمته كمكمل لبيتهوفن، في كتابة السيمفونية على الأقل قد اكتملت. إن كثراً من النقاد والمؤرخين يترددون من دون اعتبار «السيمفونية الأولى» أهم عمل كتبه برامز في هذا السياق، بل لعل إلحاقها - مجازاً - بأعمال بيتهوفن لم يكن أكثر من تعبير عن تلك النظرة اليها. فهذه السيمفونية حفلت بمشاعر عنيفة درامية وبطولية تذكّر إلى حد كبير ببعض أجمل مقاطع «تاسعة» بيتهوفن. وهو تعبير لن يعود إليه برامز، في الثلاث التالية، إلا في الخاتمات التي راح يتعمد، في لعبة «ميز آن سين» ذكية، أن تكون شديدة القوة والتعبير، حتى وإن كان سياق السيمفونيات نفسها هادئاً. تتألف سيمفونية برامز الأولى، وهي من مقام «دو صغير» من أربع حركات أولاها تتسم بعاطفة مشبوبة، تكاد تكون درامية خالصة، فيما تتسم الحركة الثانية بانفعالية فصيحة، قبل أن يهدأ الانفعال في الحركة الثالثة، التي بعد انسياب هادئ مغرق في الرومانطيقية، تترك المجال واسعاً في الخاتمة، لحركة «اليغرو نون تروبو» لا تخلو من «صخب» وتذكر إلى حد كبير، في موضوعتها الرئيسة على أي حال، ب «نشيد المسرة» الذي يختتم به بيتهوفن، تقريباً، سيمفونيته التاسعة: ولعل ما يميز هذه الخاتمة ويجعلها بيتهوفنية الطابع إلى هذا الحد، هو استخدام لحن يؤديه عازفو آلة «الكور»، ويذكر بالنداء المعهود في غياهب الجبال، عن طريق «كور» الرعاة. واللافت أن برامز سرعان ما حلّ أصوات «الترومبيت» بعدد مدهش، محل صوت «الكور»، مستبدلاً إياها بعد ذلك بنغم رائع عذب تؤديه الكمانات، في انسياب رومانطيقي يقطع على المستمع أنفاسه. ومن الواضح أن هذه النقلة المفاجئة، والتي قلما أقدم موسيقي على كتابتها قبل أن يجرؤ بيتهوفن على ذلك، إضافة إلى روح «نشيد المسرة» التي تهيمن على الخاتمة، كانا ما دفعا فون بيلو إلى ذكر بيتهوفن في هذا السياق. من ناحية تاريخية وفي سياق مسار برامز الموسيقي، قد لا تكتسب هذه السيمفونية الأولى أهميتها من تفوقها الفني الخاص - مع أنها لا تخلو من ذلك - بل تحديداً من كونها هدمت حاجز الخوف لدى مؤلفها. فهي أثبتت لصاحبها أنه لئن كان من «المستحيل» تجاوز بيتهوفن، يمكن مجاراته على الأقل. وبقي أن نذكر هنا أن برامز، قدم سيمفونيته تلك في لندن، حين اصطحب صديقه جواكيم معه نوطاتها إلى العاصمة البريطانية، في وقت كان برامز دعي إلى جامعة كامبريدج ليمنح دكتوراه فخرية، لكنه آثر أن يرسل جواكيم بدلاً منه. والمهم في هذا أن السيمفونية قدمت ونالت إعجاباً. وأحدث ذلك تبديلاً جذرياً في حياة برامز، إذ إنه عكف طوال السنوات العشر التالية (سنواته السيمفونية) على كتابة بقية سيمفونياته: «الثانية» (من مقام «ري» كبير) وأتت ناعمة هادئة تفادى فيها برامز المناخ الانفعالي الدرامي والبطولي الذي سيطر على الأولى، «الثالثة» (من مقام «فا» كبير) التي كتبها ست سنوات بعد «الثانية»، وجعلها هادئة، على الأقل في حركتها الأولى، ثم راح يصعّد حتى «الخاتمة» التي صوّر فيها، على طريق شبهها كثر بأسلوب فاغنر لاحقاً، صراع عناصر الطبيعة الصاخب في ما بينها. وبعد هذه «الثالثة» بعام كتب برامز سيمفونيته الرابعة والأخيرة، والتي سيقال إنه كتبها مستوحياً قراءته تراجيديات سوفوكلس الإغريقية القديمة التي كان منهمكاً في قراءتها في ذلك الحين. وهنا، أيضاً، تبدو «الخاتمة» أقوى ما في هذه السيمفونية، حيث من الواضح أن برامز صاغها انطلاقاً في جملة موسيقية فتنته في «كانتاتا» باخ التي تحمل الرقم 150 ثم طوّرها مكرراً إياها في 31 تنويعة متصاعدة حتى النهاية. ولد يوهان برامز عام 1833 لأب كان عازفاً في هامبورغ. ومنذ السادسة من عمره بدأت تظهر عليه ملامح العبقرية الموسيقية. وفي العاشرة بدأ يعزف البيانو أمام الجمهور وينال إعجاباً. وفي سن المراهقة بدأ يكتب مقطوعات صغيرة. في عام 1853 قدمه صديقه جواكيم إلى ليست، ثم قدمه إلى شومان في داسلدورف، فاستضافه هذا في بيته. وكانت النتيجة أن أغرم الموسيقي الشاب بزوجة الأستاذ الكهل، كلارا. ودام غرامهما طويلاً، لا سيما حين مات شومان وترملت كلارا، غير أنهما لم يتزوجا. في عام 1863 انتقل برامز إلى فيينا، وكانت أعماله ولا سيما «كونشرتو البيانو» و «القداسات» و «التنويعات» بدأت تعرف على نطاق واسع. أما عمله الأكبر قبل خوضه السيمفونيات فكان «الجناز الألماني» (1868). أما بعد مرحلته السيمفونية فإنه انصرف إلى كتابة التنويعات. وهو مات في عام 1897 متأثراً بمرض أصابه ودفن وسط جنازة مهيبة إلى جانب بيتهوفن وشوبرت. [email protected]